عندما يموت نائب الرئيس في البيرو لغياب الطبيب

هناك من حالاتِ الوَفاة ما تكونُ دروسًا للتدبُّر، ومن بينها وفاةُ نائب رئيس البيرو إيرناندو غارسيا صباح الجمعة الماضي، في إطارِ تفاصيلَ يؤدّي أغلبُها إلى رسالةٍ واحدةٍ، وهي: "واجب الاستماع إلى مطالب كل الانتفاضات الشعبيَّة المُنادية بتوفير الحدّ الأدنى من عددِ الأطباء والخِدْمات الطبيَّة في المُحافظات المُهمّشة". وقد شاءت الأقدارُ أنْ تعرّضَ نائبُ الرئيس إيرناندو غارسيا لأزمة دماغيَّة، أثناء مرورِه بإحدى تلك المُحافظات، وأدّت إلى وفاته بسببِ عدم توفّر طبيبٍ وخلوّ المستشفى من أدنى التّجهيزات!
إيرناندو غارسيا كانَ النائبَ الأوَّل لرئيسة البيرو دينا بولوارتي، وهو شخصيةٌ سياسيةٌ ذات وزنٍ، لكنّه مثيرٌ للجدل، بسببِ تلوُّن هُويته السياسيَّة من مناضلٍ في الأحزاب اليسارية حتى نهاية التسعينيات إلى اسم بارزٍ في أحزاب اليمين، ووجهٍ إعلاميّ ومؤلِّف كتبٍ عديدةٍ في مجال الأعمال، لينتهيَ نائبًا وناطقًا رسميًا باسم حزب "القوَّة الشعبيَّة" الذي أسّسته عام 2010، ابنةُ الرئيس السّابق ألبرتو فوجيموري، والسجينُ حاليًا بسبب تهمِ فسادٍ ماليّ وجرائمَ ضدّ الإنسانية.
قمع الاحتجاجات
ويُعدُّ حزبُ "القوة الشعبيَّة" من أشدّ الأحزاب التي نادت بقمعِ الانتفاضاتِ الشعبيّةِ المطالبةِ بتحسينِ قطاعَي التَّعليم والصحَّة العمومية، وآخرُها المظاهراتُ العارمة التي شهدتْها البيرو شهورًا متواصلةً، على إثر عزلِ الرئيسِ السّابق بيدرو كاستيو في ديسمبر/ كانون الأول 2022 والتي أسفرتْ عن أكثرَ من 50 قتيلًا وأكثرَ من ثلاثمِئة جريحٍ. وكانت محافظةُ آريكيبا في الجنوب- التي كان النائبُ غارسيا متوجهًا لها، ووافته المنيةُ على بُعد كيلومترات منها- من أهمِّ المحافظات المُنتفضة.
من المُفارقات التي فجَّرتها هذه الحادثة، ما يتعلّقُ بسبب تنقّل إيرناندو غارسيا إلى محافظة آريكيبا الجنوبية، حيث صادفَ يومُ وفاة غارسيا، يومَ افتتاح مُؤتمر "بيرو مين" السنويّ للمناجم، وكان عنوان نسخته الحالية رقْم 39: "ضرورة اعتبار قطاع الصحة شريكًا استراتيجيًا لضمان سلامة الموارد البشرية في قطاع المناجم والتعدين". وكان القطاعُ الصحي الخاصّ، الضيف المبجّل في المؤتمر؛ نظرًا لمستوى التعاون العالي الذي سُجّل في السنوات الأخيرة بين القطاعَين. وقد كان نائبُ الرئيس غارسيا أهمَّ الداعمين لهذه السياسة، لاسيّما أنّه كان يُروِّج في كتبه لفكرة ضرورة تقليص الدولة ميزانيات قطاعَي الصحة والتعليم، التي تحول دون التقدم الاقتصادي، حَسَب رأيه. وكانت الحكوماتُ المتعاقبةُ في البيرو في السنوات الأخيرة، باستثناءِ حكومة بيدرو كاستيو (2021-2022)، في صراعٍ دائمٍ مع الانتفاضات الشعبيَّة المطالِبة بتوفير عددٍ كافٍ من الأطبّاء والتجهيزات الأساسيَّة، لاسيما في المحافظات المهمَّشة.
وفي الوقت الذي تَعْتبرُ فيه منظمة الصحة العالمية أنَّ العدد الأدنى للأطباء لكل 100 ألف ساكن، هو 23، توفّر البيرو 4 أطباء فقط، وأغلبهم يتركّزون في المدن. وقد أكّدت وفاة نائب الرئيس إيرناندو غارسيا هذا النقصَ الفادحَ، عندما توجَّه الى مستشفى يتوفر فيه طبيبٌ واحدٌ كلَّ سبعِ ساعات فقط، وكان خارج أوقات عمله. لكن البيرو، على غرار بلدان عديدة في المِنطقة، تتمتعُ فيها الطبقات الميسورة بخِدْمات صحيّة متطورة بفضل توفر منافسة واسعة بين المصحّات وشركات التأمين الخاصة للتغطية الصحية، ولا يُعوِّل على القطاع العمومي سوى الطبقات الفقيرة، حيث لم يُفلح النوابُ الذين انتخبتْهم، في تحقيق مطالبِها.
موجة تشفٍّ
ولعلَّ من المؤلم الإشارةَ إلى أنَّ حادثة وفاة نائب الرئيس غارسيا، قد أثارت موجة تشفٍّ على شبكات التواصل الاجتماعي، رأى فيها البعضُ أن هناك عددًا لا بأسَ به من المواطنين في المناطق المهمّشة، يموتون بسبب نقص الأطباء، لكنهم كانوا كلهم يتظاهرون من أجل تحسين القطاع، لكن غارسيا تُوفي بسبب عيوب نظام صحيّ لم يدافع عنه يومًا، بل ناضل من أجل "إهلاكه" لفائدة القطاع الخاصّ. ووصلَ الأمر بتعليقِ أحد المواطنين، نال مئات الآلاف من المشاهدة على شبكة " X" ، والذي صرّح فيه لموقع إعلامي رقْمي: "إنه لخبر مُحزن لأسرته ولكنه مًفرحٌ لأغلبية الشعب البيروفي، هذا النائب كان محتاجًا ليعيش واقعنا اليومي نحن المواطنين متوسطي ومعدمي الدخل، كي يعيَ هو وباقي المسؤولين قيمة صرخاتنا في المظاهرات."
من المفارقات الأخرى، أنَّ مدينة آريكيبا التي تحتضن المؤتمر كل سنة، والتي تُلقّب بـ "مهد المناجم"، وذلك لمواردها المنجمية الهائلة، تحتاجُ لـ1.500 بين أطباء وممرضين، إضافيين للطَّاقم الحالي المتوفر في المستشفيات العمومية، لكنَّ الحكومة ترفض رفع ميزانية قطاع الصحة وتدارك هذه النقائص. في المقابل تتوفّر المدينة على مصحات خاصة لموظفي الشركات المنجمية، زيادة على باقي المرافق، بما في ذلك مطار دولي. ولعلّ التناقض الصارخ الذي تعيشه هذه المدينة وباقي المناطق المنجميّة المترامية الأطراف في البيرو، هو ما جعلها مناطقَ انتفاضاتٍ لا تهدأ، وهي انتفاضاتٌ تبدو مشروعة إذا أخذنا بالاعتبار إمكانات البيرو المنجمية، فالبلد يعتبر أوَّل منتج للزنك والرصاص، والثاني في إنتاج الذهب والفضة والنحاس في أمريكا اللاتينية.
لقد كشفت وفاةُ نائب الرئيس إيرناندو غارسيا، تراكمَ الغضب لدى فئات واسعة من الشعب البيروفي، على الطبقة السياسية التي لم تراعِ المطالب الشعبيّة المتكررة عند كل مناسبة انتخابية، وليس بالغريب أن يكون لهذا الحدث تأثيراتُه على المشهد البرلمانيّ القادم، مع انتخابات أبريل/ نيسان 2024.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.