وائل الدحدوح ومهنة البحث عن الشهادة

الزميل وائل الدحدوح (الجزيرة)
الزميل وائل الدحدوح (الجزيرة)

وائل الدحدوح اسم ألفته الآذان والأعين كثيرا، وبخاصة في كل حدث يتعلق بغزة، سواء كان الخبر عاديا، أم خبرا يحمل كوارث تنزل على رأس أهل غزة، وهو ما اعتادوه منذ ما يقرب من عشرين عاما، وكان من الأصوات المهمة التي تنقل هذا الحدث، صوتا وصورة قناة الجزيرة، عن طريق أحد أهم مراسليها في غزة، الأستاذ وائل الدحدوح.

مهنة وائل نقل الأخبار عن شهداء غزة، وعن ضحاياها، وجرائم العدوان الإسرائيلي على أهل غزة، وكان لبشاعة بعض المناظر يطلب من الكاميرا ألا تقترب، كما رأينا في أكثر من مشهد، حرصا منه على مشاعر الجماهير، وربما أيضا لرغبته في ستر الميت، ومراعاة لشعور أهله بالفاجعة.

كان من قبل وائل ناقلا للخبر، رغم تأثره الشديد وألمه لما يرى وينقل، لكنه صار وعائلته اليوم هم الخبر، والخبر المفجع الذي يتلقاه وائل، وعلى الهواء مباشرة، ويراه رأي العين، كان الآخرون يرون أو يعلمون بخبر استشهاد ذويهم عن طريق الإعلام، وأحيانا يرون بأنفسهم، لكن وائل هذه المرة رأى بأم عينه الجريمة البشعة، باستشهاد زوجه وابنه وابنته.

طوفان الأقصى والنجاة بالشهادة:

فاجعة كبرى، فمصاب واحد من هؤلاء يقصم الظهر، والقرآن الكريم سمى الموت مصيبة فقال تعالى: (فَأَصَٰبَتۡكُم ‌مُّصِيبَةُ ‌ٱلۡمَوۡتِ) المائدة: 106، لما له من وقع شديد على النفس، مهما تماسك الإنسان، وبدا لناظره أنه صلب، رابط الجأش، يظل في النفس جرح غائر، وألم شديد للفقد، فما بالنا والفاجعة هنا أتت على عائلة كاملة، وهو مشهد متكرر في غزة منذ بداية جرائم الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر، عملية (طوفان الأقصى).

وحسنا أن سموها (طوفان الأقصى)، نسبة لطوفان نوح عليه السلام، فإن الطوفان لن ينجو منه إلا من ركب السفينة، وهي المقاومة حتى النصر أو الشهادة، سواء استشهاد الإنسان، أو ذويه، فإن من ركب السفينة ونجا بالشهادة، يشفع لأهله، وكل غزة صارت بأهلها سفينة النجاة في هذا الزمان، سواء تقلب أهلها بين الشهادة، أو الصبر على استشهاد ذويهم.

مهنة البحث عن الشهادة:

كانوا من قبل يسمون الصحافة: مهنة البحث عن المتاعب، لما تلحقه الصحافة الشريفة بأصحابها من متاعب ومصاعب، تبدأ بالمضايقة في باب الرزق، مرورا بالسجن، أو الاعتقال، أو تشويه السمعة، في كل مكان هي مهنة البحث عن المتاعب، عدا في فلسطين، فإنها تسمى: مهنة البحث عن الشهادة، فقل من ينجو من آلة العدون الإسرائيلي، فإما أن تستشهد كما في شيرين أبو عاقلة، وإما أن يستشهد أهلك، كما في حالة وائل الدحدوح.

مصاب جلل وعظيم:

مصاب وائل صعب وشديد، لأنه ليس فقط فقد معظم عائلته، زوجة، وابن، وابنة، بل لأن أصعب ما فيها، أن في غالب حالات البلاء والمصائب يفقد الإنسان ابنه، فيجد بجانبه الزوجة التي تثبت وتصبر، وتشد من أزر الزوج، أو العكس، وفي حالة استشهاد الزوجة، يجد الزوج أبناء يقفون بجانبه يشدون من أزره، ويرى في ابنته صورة زوجه التي فقد، فيواسي نفسه بذلك، أو يعينه على ذلك.

يعيش الإنسان في هذه الحياة، ويفرح بأن رزق بأبناء، ويكدح في الحياة ويربي أبناءه، لأنهم ستر له في الدنيا إذا شاخ وكبر، وستر له في الآخرة إذا لقي ربه، يحملون جثمانه، ويقفون ليتلقون عزاء الناس فيه، ولذا يكون من الشاق على النفس، أن تحمل جثمان أبنائك، نحن نحمل الأبناء صغارا وكلنا فرح بهذا الحمل، فنحن نحملهم ليستقبلوا الحياة، لكن أصعب حمل، هو حمل الأبناء ونحن نشيعهم للدار الآخرة، ولا يعلم مرارة هذا الحمل إلا من ذاقه.

لطف الله في المصيبة:

لا يخفف من هذه المرارة التي تصاحب الإنسان، كلما تذكر أبناءه، أو رأى أحدا من أعمارهم، أو صديقا لهم بعد الوفاة، إلا ما أعده الله له من أجر الصبر والحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه ‌بيت ‌الحمد"، كلما تأملت هذا الحديث لا يلفت نظري فقط أن الله يهب لمن صبر وحمد بيتا في الجنة اسمه بيت الحمد، بل العبارة التي يقولها رب العزة، والتي تلخص ألم الفقد للأبناء، وهي قوله: (قبضتم ثمرة فواده)، فهؤلاء هم أبناء الإنسان، ثمرة الفؤاد، فكيف إذا قطفها الموت بسلاح غدر وجرم؟!

وهذه حكمة الله في كل بلاء، لا يأتي البلاء إلا ومعه لطف، وصدق ابن عطاء الله السكندري الذي قال في حكمه: من ظن انفكاك لطف الله عن قدره، فذلك لقصور في نظره، إن ربي لطيف لما يشاء. فمن الطف الله أن ينطق الإنسان وقت البلاء بما يعبر عن رباطة جأشه وصبره، وهو ما رأيناه في أهل غزة في شهدائهم، ورأيناه في وائل الدحدوح حين قال كلمته التي ستظل محفورة في أذهان الناس: يعاقبوننا بأولادنا؟ معلش.

فمن لطف الله بوائل، أن ينطقه بالخير وقت المصاب، وأن يجد كل هذا التعاطف من الناس، وهو تعاطف لكل أهل غزة، ولكل من فقد عائلته في هذه الجريمة النكراء، لكنها اليوم في شخص وائل الدحدوح، وكل وائل، وألطاف الله به وبعباده جميعا كثيرة لمن يتأملها، فرغم الألم والمعاناة، إلا أن قدر الله لا يخلو من ألطاف كبيرة، لمن يبحث عنها، ويتأملها، كي تشد من أزره، فإن الموت يأتي ويحصد الأرواح، أفرادا وجملة، في الزلازل والبراكين، والسيول، وفي كورونا، لكنها الآن أتى بالجملة في عائلات غزة، ليكون دمهم المداد الذي يكتب به وثيقة حريتهم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان