كشف حساب من التاريخ!
ما أكثرَ المحللين والمُتنبّئين وضاربي الودع هذه الأيّام!
ما أكثرَ المفكّرين والمُستشارينَ والجنرالات المتقاعدين هذه الأيام! كل منهم يريدنا أن نصمتَ ونصغي لما يقول، فلا تفوتنا دُررُه وخبراته المتراكمة، ولو في خياله وفي أوهامه! ما أكثر المُتفيهِقينَ على شاشات التلفزيون من مذيعين ومذيعات كل منهم يظنُّ أنه نجمٌ أُوتي الحكمة وفصل الخطاب!
بلغتُ هذه النقطة، وأنا أكتبُ هذا المقال، وقمت لغرض ما، فرأيتُ الشاشة تنتقلُ إلى القاهرة لنقل وقائع ما سمَّوه قمّة السلام بحضورٍ عربيٍّ شبه كامل- إذ غابت الجزائر، وهذا ما ينتظر منها- وبحضور دوليّ.
جلست أستمع، فإذا الشاشةُ تنقسمُ لنوافذَ! يتحدّث صاحب الدعوة إلى القمَّة في نافذة، وبجوارِها أخرى كُتب عليها "مباشر غزة". وبدأت أعمدة الدُّخَان واللهب تتصاعد من أماكنَ متعددة في غزّة، وبدأت الغارات تتوسّع، وكادت أصواتها تطغى على كلمات المتحدثين، لولا التحكمُ الفني من الأستوديوهات بالطبع. وكأنّ إسرائيل تقول للحاضرين جميعًا، مع العذر لأبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب…في حدّه الحدّ بين الجِدّ واللعب.
المحللون وضاربو الودع
فماذا يقولُ المحللون وضاربو الودع؟ وماذا يقول المفكّرون وجنرالات الكلام ونجوم الشاشات؟ ماذا نقول نحن جميعًا؟
لا أريد أن أستمعَ لأحد، ولا أريد أن أستمعَ لنفسي العاجزة هذه، فالكلام جريمةٌ ومزايدة جوفاءُ لاتسمن ولا تغني، لا أريد أن أحزن، فحزني نفاقٌ، وأنا مُتخمٌ وأهلي جوعى، لا أريد أن أهتفَ، فهتافي نعيق، وأنا أتمطَّى وهم يبحثون عن المأوى، ولا أريد أن أصمت فصمتي جبنٌ، وأنا أتباهى، وهم يُكَبِّرون.
لا أريد شيئًا من أحد! أريد شيئًا واحدًا فحسْب، أريد من التاريخ أن يكتب أني واحدٌ من 350 مليونَ فاشل منبطح مثل حشرة مقلوبة على ظهرِها، تراوح مكانَها منذ ألف عام أو يزيد.
أريد كشفَ حساب من التاريخ؛ لعلي أكتشف أنني جاهل يغالط، وأنَّ المنبطحين على ظهورهم من أبناء جلدتنا، منذ الحملة الصليبية الأولى، استوَوا وانتصبوا واقفين ليقودوا الجهاد، قبل أن ينبري لها الزَّنْكِيّون الأتراك ويوحّدوا مصر والشام، ثم يتبعُهم صلاح الدين وينتصر في حطّين ويحرّر القدس.
أريد كشف حسابٍ من التاريخ لعلّي أكتشف لماذا نكصَ الأيوبيون على أعقابِهم وسلّموا القدس للصليبيّين؟
أريدُ كشفَ حساب من التاريخ لعلي أكتشف أن قائدًا عربيًا قاد الجيوش قبل قطز والظاهر بيبرس ليهزمَ المغول في عين جالوت، ويوحِّد مصرَ والشّام، وليحرّر المماليكُ على رأس جيوش الكنانة مدنَ السّاحل الفلسطينيّ واللبنانيّ.
كشف حساب
أريد كشف حساب من التاريخ لعلي أكتشف أنَّ جيوشنا هي التي تصدّت للوجود البرتغالي الغربيّ في الخليج، وعلى شواطئ الجزيرة، أو حمت شواطئ المسلمين المتوسطية في شمال إفريقيا، قبل أن يفعل الأتراك ذلك. أَوَ لا تزال سبتة ومليليه في قبضة إسبانيا؛ لأنّ الأتراك توقفوا في زحفهم عند حدود المغرب؟
أريد أن يقول لي أحد: لماذا صدّت أسوار عكا نابليون وسفنه ولفظته مصرُ وأزهرُها، ثم بدأت أوطاننا تتهاوى واحدةً تلو الأخرى في جَعْبة المستعمرّ البريطاني والفرنسي، وحتى الطليان، الذين ما أحسنوا يومًا في حرب بذواتهم منذ أفول الإمبراطورية الرومانية؟
أريد أن يقول لي أحد: لماذا استمرّ احتلال فرنسا للجزائر 130 عامًا، ودفع الجزائريون من دم ملايين أبنائهم مهرَ استقلالهم، وحولهم أمتُهم لم تحرك ساكنًا، إلا من رحم ربي، حين استعادت مصر يومًا نَفْسَها ونَفَسَها العربي المسلم؟
أريد أن يقول لي أحد: لماذا وجد بعضنا في المستعمر الغربي سندًا ونصيرًا وأملًا في استقلالٍ، ما أظن أنّه تحقق كما يعني الاستقلال الحقيقي، وكما ينبغي أن يكون، فانقلبنا على الأتراك الذين حموا مقدساتنا يومًا ما؟
أريد كشف حساب من التاريخ، لعلي أكتشف لماذا سارع بعض منا في طلب النصرة من الحركة الصهيونية حتى قبل وعد بلفور أملًا في حكم وعروش؟
أمَّا نكبة فلسطين، وخِذلانها بالأمس واليوم وفي الغدِ، فلا أريدُ من التّاريخ ولا من مؤرّخ ولا محلّل ولا جنرال متقاعد ولا صحفي أو مذيع أن يقول لي شيئًا عنها، فقد وُلدت معها ونشأت في عتماتها وتجرّعت مراراتها، وجُبْت في شتاتِها وأشتاتها.
رأيت الخيمة البلجيكيّة التي سمَّانا بعض أبناء جلدتنا نسبة لها، رأيت دمعات أمهاتِنا الحرَّى تتلقفُها الأرياح ويجمّدها على خدودهنَّ الزمهرير، رأيت أطفالنا حفاة تأكل أقدامَهم الرمالُ والأشواك، رأيتهم عراة تصطكّ أضراسهم من البرد، ويحرق أجسامَهم القيظ.
رأيت كل شيء! رأيت هزيمة حزيران عام 1967، ورأيت قريتي تُحتلّ، ورأيت زيتون أبي يقتلع، وهو يرفض التعويض حتى لا يقال باعَ وتنازل.
رأيت عبور خط بارليف وفرحت، ثم وأد الرئيس المؤمن فرحتي في تراب كامب ديفيد، ورأيت عربًا من بعده يهرولون ولا يجنون من هرولتهم إلا الديون والفقر والهوان على الناس.
رأيت الانتفاضة الأولى وعرفت شهداءَها الأبطال، ورأيت الانتفاضة الثانية وعمالقتها الأُباة.
ورأيت وعشت كوارث اتفاق أوسلو وأقزامه ينتفخون انتفاخة الهرّ يحكي صولة الأسد. ورأيت وعشت كل فصول الخيانة والخذلان والاتهام بالتقصير والبيع ونكران الفضل.
ورأيت موجات الهرولة اللاحقة ورأيت الشعوب تنبطح ولا تجرؤ حتى على الكلام.
رأيت كل ذلك، ولكني ما رأيت مثل ما أرى اليوم! رأيت غزة تعيد كتابة التاريخ.
رأيت أطفالنا الحفاة العراة يمرّغون نياشين أعدائهم في التراب. رأيتنا نصنع سلاحنا، ونحلّق فوق الجُدُر والقرى المحصنة وندكّ الحصون. رأيتنا نُقْصَفُ ولا نفرّ، نموت ولا نذلّ، ونجوع ولا ننحني.
رأيت إخوتنا في الدين والعروبة يتخاذلون، بل يتحيّز بعضهم إلى فئة أعدائنا، لا تثور في أحد منهم حميّة، ولا تتحرك فيه نخوة. يجلسون كأنّهم خشب مسنّدة، فلا تعجبك أجسامهم.
رأيت مندوب ألمانيا يلطمنا جميعًا في وجوهنا بعُنْجِهِيَّته النازية حين قال: "نحن مع إسرائيل ولن نتوقف عن دعمها حتى تقضي على الجماعة الإرهابية". وهكذا فإنَّ بعض أبناء جلدتنا سيفرحون ويتراقصون مثل الدببة إن غُلبت- لا سمح الله- هذه الفئة المؤمنة، فمن باع نفسه للشيطان سيغوص يومًا بعد يوم في مستنقعات الذلّ والضلال والهوان، وهذا هو القعر الذي هم له أهلٌ ووقود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.