"الممر الإنساني".. تفريغ غزة لتسهيل إبادتها

مظاهرات في الدوحة الداعمة لغزة
مظاهرات في العاصمة القطرية الدوحة دعما لغزة ورفضا لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عليها (الجزيرة)

تحاول الولايات المتحدة بالتعاون مع عدد من الدول الأوروبية دفع فكرة تدشين "ممر إنساني" بين قطاع غزة ومصر يسمح بانتقال المدنيين الفلسطينيين من القطاع إلى شمال سيناء أثناء الحرب، التي شنها جيش الاحتلال ردا على عملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس.

هذه الفكرة التي أشارت إليها في البداية وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية، ثم تبنتها الإدارة الأميركية رسميا تهدف إلى تفريغ قطاع غزة من مواطنيه بهدف تحسين قدرة إسرائيل على مواصلة حرب الإبادة والتدمير الشامل للقطاع في ظل أقل مستوى من الممانعة الدولية.

وتعي إسرائيل أن تحقيق هدفها المعلن من الحرب على قطاع غزة والمتمثل في "محو" حركة حماس، كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، سيسفر عن قتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، إن لم يكن أكثر، بسبب طابع الاكتظاظ السكاني في القطاع.

ومع أن إسرائيل أثبتت وتثبت دائما أن آخر ما يعنيها احترام قوانين الحرب وتجنب استهداف المدنيين، لكنها تخشى في المقابل، أن يفضي سقوط عدد هائل من المدنيين الفلسطينيين، خلال غاراتها الجوية ونتاج أي عملية برية يمكن أن تنفذها في عمق القطاع، إلى تفجر ردة فعل عربية ودولية تنزع الشرعية عن حقها في مواصلة ارتكاب الجرائم، مما قد يفضي إلى اضطرارها إلى وقف الحرب قبل أن تحقق أهدافها.

فقدرة الولايات المتحدة والدول الأوروبية على مواصلة الدعم والانحياز الأعمى لإسرائيل في هذه الحرب الإجرامية سيتراجع نتاج مظاهر الاحتجاج على حرب الإبادة التي يمكن أن تتواصل في جميع أرجاء العالم.

فضلا عن ذلك، فإن سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف المدنيين قد يفضي إلى تفجير ساحات مواجهة أخرى، ولا سيما الساحة الشمالية؛ إذ سيكون من الصعب على حزب الله الوقوف جانبا في ظل ما يرتكبه جيش الاحتلال من فظائع. وتعي إسرائيل، كما عبّر عن ذلك، الجنرال إسحاق بريك، القائد السابق للواء المشاة أن جيش الاحتلال ليس بوسعه الصمود في مواجهة متعددة الساحات.

من هنا، فقد سارع نتنياهو وقادة جيشه قبيل شن الحرب على غزة إلى دعوة الأهالي في قطاع إلى مغادرته. ويرجح أن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية قد طرحت فكرة "الممر الإنساني" بعد التنسيق مع إسرائيل وبهدف تحقيق أهدافها منها.

المفارقة أن فكرة "الممر الإنساني" كما تطرحها واشنطن لا تشمل إدخال الماء، والغذاء والوقود، بعد أن حظرت إسرائيل إدخالها إلى القطاع في مسعى لكسر إرادة الفلسطينيين وإجبارهم على الضغط على المقاومة للتراجع، ولا سيما في كل ما يتعلق بمواصلة الاحتفاظ بالأسرى من الجنود والمستوطنين الذين أسرتهم "كتائب القسام".

وسيقلص إخلاء غزة من مواطنيها من قدرة المقاومة الفلسطينية وتحديدا حركة حماس على استنفاد الطاقة الكامنة في مخططاتها الدفاعية إذا شرع جيش الاحتلال في عمليته البرية في عمق القطاع مما سيقلص المخاطر على القوات المتوغلة. وسيمكن تفريغ القطاع من قاطنيه سلاحا الجو والمدرعات في جيش الاحتلال من توظيف أقصى طاقتيهما في ضرب أهداف المقاومة وبُناها العسكرية واللوجستية، فضلا عن أنه سيسمح لألوية المشاة والوحدات الخاصة في هذا الجيش بالاشتباك، في ظروف أفضل، مع مقاتلي المقاومة.

 

فكرة "الممر الإنساني" بدأت من وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية، ثم تبنتها إدارة بايدن رسميا، وهي تهدف إلى تفريغ قطاع غزة من مواطنيه لتمكين إسرائيل من مواصلة حرب الإبادة والتدمير الشامل دون ممانعة دولية تذكر، ولكن كلما تعاظم الموقف الجماهيري العربي والإسلامي المساند للمقاومة والرافض لحرب الإبادة ستدرك الولايات المتحدة أن محاولتها ستبوء بالفشل

 

ومن الواضح أن بايدن يخطط لتوظيف نجاحه في تمرير فكرة "الممر الإنساني" في حملته الانتخابية بوصفها مؤشرا على مدى التزامه بخدمة المصالح الإسرائيلية، واللافت، أن إدارته طرحت الفكرة دون التشاور مع الحكومة المصرية، فضلا عن أنها كرست انطباعا بأن القاهرة لن تعترض عليها.

لكن، لسوء حظ الإسرائيليين والأميركيين، وكل من يقف خلف خديعة "الممر الإنساني" أن فرص تطبيقها منعدمة تماما. فالفلسطينيون في قطاع غزة، و80% منهم لاجئون هاجروا أو ولدوا لعائلات هاجرت من داخل فلسطين عشية وخلال حرب 1948، لن يهاجروا مرة أخرى؛ إلا إذا عادوا إلى الأرض التي طردوا منها بقوة السلاح.

في الوقت ذاته، فإنه إلى جانب الرفض المبدئي لفكرة مغادرة القطاع، فإن الفلسطينيين يعون تماما أنه إذا غادروا غزة، فلن تسمح إسرائيل لهم بالعودة. فقبل أن تنتهي الحرب، باتت نخب اليمين الديني المرتبطة بحكومة الاحتلال تجاهر بأن الخطوة التي يجب أن تلي انتهاء الحرب يجب أن تتمثل في تدشين مستوطنات يهودية على أنقاض مدن ومخيمات اللاجئين في القطاع. ففي مقال نشره بُعيد شن إسرائيل حربها على غزة، دعا الكاتب اليميني أرنون سيغل مقالا في موقع "عولام كتان" إلى تهويد القطاع وإعادة بناء المستوطنات اليهودية التي فككتها إسرائيل عندما نفذت خطة "فك الارتباط" في 2005.

ومن نافلة القول إن تفريغ غزة والقضاء على مقاومتها ينطوي على خطر إستراتيجي يتمثل في تمكين إسرائيل لاحقا من تنفيذ نفس مخطط التهجير في الضفة الغربية.

فأحزاب اليمين الديني المشاركة في حكومة نتنياهو تجاهر بأنها معنية بتهجير الفلسطينيين من كل فلسطين. وينص البرنامج العام لحركة "القوة اليهودية" التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير صراحة على وجوب تهجير الفلسطينيين. وهذا ما يتبناه وزير المالية بتسلال سموتريتش، الذي يقود حركة "الصهيونية الدينية"، والذي سبق أن خيّر الفلسطينيين بين المغادرة، أو العيش بدون أي حقوق أو القتل.

ومما لا شك فيه أن ردة فعل الجماهير العربية كان له بالغ الأثر في فرملة هذا المشروع ونزع الشرعية الإقليمية عنه. فالمظاهرات العارمة التي تفجرت في الأردن، والعراق، والخليج، واليمن، ولبنان وغيرها دعما لغزة واحتجاجا على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عليها دفعت نظم الحكم العربية إلى التعبير عن رفضها مقترحات تهجير الغزيين من القطاع. فقد أعلنت مصر رفضها المطلق لفكرة تهجير الغزيين إلى سيناء، فضلا عن أن السعودية استبقت زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين إليها لتؤكد رفضها فكرة تهجير الفلسطينيين وإدانة عملية "طوفان الأقصى".

ليس هذا فحسب، بل إن دولا عربية والأمم المتحدة باتت تدعو بقوة إلى وجوب التركيز على إدخال الماء، والغذاء والوقود إلى غزة. وكلما تعاظم الموقف الجماهيري العربي والإسلامي المساند للمقاومة الفلسطينية والرافض لحرب الإبادة التي تديرها إسرائيل ضد القطاع، وصلت الولايات المتحدة إلى قناعة مفادها أن محاولاتها تمكين إسرائيل من مواصلة هذه الحرب في ظل أقل قدر من الممانعة الدولية، ستبوء بالفشل.

ستكتشف إسرائيل عمق إسهام "طوفان الأقصى" بالتأثير في الوعي الجمعي العربي والإسلامي الذي لن يسمح بتمرير أي مخطط يهدف إلى التآمر على فلسطين وقضيتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان