جولة في الأفق مع الشنقيطي.. مشكلة الفكر والتجديد والدستور في العالم الإسلامي

Omran Abdullah - بيت الحكمة الذي أسسه هارون الرشيد كان مركزاً علمياً وفكرياً خلال العصر الذهبي الإسلامي - قبل الحداثة والطباعة.. كيف عرف العرب الملكية الفكرية والأدبية في العصور الإسلامية الوسيطة؟
بيت الحكمة الذي أسسه هارون الرشيد كان مركزاً علمياً وفكرياً خلال العصر الذهبي العباسي- قبل الحداثة والطباعة. (الجزيرة)

هل بإمكاننا القول إن حالة الفكر ومستواه في العالم الإسلامي يختلفان كثيرًا عن حالة السياسة ومستواها؟

سؤال أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه؛ فانطلاقًا من الوضع السيئ الذي وصلت إليه الحالة السياسية اليوم نجد أن البعض يحمّل مسؤولية هذا المستوى للتردي الذي يسيطر على الفكر الإسلامي، ويمكن لأولئك أن يريحوا أنفسهم بهذا التبرير، إلا أنني لا أرى أن ذلك قد يُصلح شيئا أو يُغيّر النتائج، فضلا عن إنتاج خطاب قهر وألم إضافي باسم المسلمين.

الفكر الإسلامي بالتأكيد ليس فكرًا يتشكّل في الهواء أو في الفراغ بمعزل عن البيئات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، لكن ما يمكن الجزم به أنه لا يوجد تمثيل سياسي حقيقي للفكر الإسلامي منذ قرن على الأقل. وهذه أهم نتيجة جلبتها الحرب العالمية الأولى إلى تاريخ العالم، ولم يتمكن العالم ولا المسلمون حتى الآن من مواجهة هذه النتيجة بالمعنى الكامل؛ أعني بذلك أنه حتى هذه اللحظة يتعامل العالم مع بعض الأداءات السياسية المتردية على أنها تمثل الفكر الإسلامي، ومن ناحية أخرى يتصور بعض المسلمين أن هذه الأداءات تعبر عن الفكر الإسلامي بالفعل، وهو الشيء غير الصحيح أبدا.

تتجاهل الجهود المبذولة باسم الفكر الإسلامي اليوم هذه الحقيقة، وتحاول الحديث عن استدعاء حضارتنا التي تداعت منذ سنين طويلة، مخلفة مشهدا غريبا ومأساويا. هذا المشهد يتمثل في محاولة استدعاء أمثلة حدثت في فترة ما من التاريخ ويُظن أنها مثالية واقتراحها بوصفها هدفا لحاضرنا ومستقبلنا. لا أظن أنه يمكن بناء حضارة حقيقية من دون الارتكاز على فكر إسلامي متماسك يفهم الواقع بشكل جيد؛ فتنشأ عنه ممارسات سياسية تُغير هذا الواقع، وبناءً عليه تُشيد حضارة تعلو على هذا الواقع المتردي وتضع العرب والمسلمين في صدارة الدنيا، سواء توافق هذا البناء الجديد مع شكل ذلك الآخر التاريخيّ الذي نعيش على أمجاده أو اختلف عنه، ما دام هذا الاختلاف لا يمس المبادئ والأسس الحضارية التي قامت عليها حضارة المسلمين قبل ذلك.

سيحصل تقدم في ذلك الطريق نحو هذا البناء المتماسك من خلال مواجهة أولئك الذين يعترضون ويعيقون محاولات الممارسة السياسية الذكية المبنيّة على فهم الواقع من دون خيالات لا تمت للواقع بصلة. أيضا ينبغي القول إن هذا البناء أو تلك الحضارة ستصبح حلمًا هزيلا لأولئك الذين فقدوا أنفسهم ومبادئهم في الطريق.

كل مجتمع إنساني كان ينضم إلى الإسلام لم يكن يتخلى عن ثقافته وتاريخه وخصائصه لتذوب وتفنى بين طيات الحضارة الإسلامية، بل كان يمسح عنها الصدأ ويقوم بضمها إلى مجموع الحضارة الإسلامية

ممارسة الفكر الإسلامي

قام البروفيسور الموريتاني مختار الشنقيطي -الذي برز مؤخرًا كواحد من أهم المفكرين الإسلاميين، من وجهة نظري، واكتسب قيمة كبيرة عبر دراساته الواعدة في مجال الفكر الإسلامي- بطرح أفكاره القيّمة في المؤتمر الذي انعقد في معهد الفكر الإسلامي في أنقرة برئاسة البروفيسور محمد غورميز، تحت عنوان "مفكرو التجديد الإسلاميين الاصطناعيين في العصر الحديث".

يُدرك الشنقيطي نقص التمثيل السياسي الذي عانى منه العالم الإسلامي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن، كما أنه على دراية كافية بالإنتاج الحالي للفكر الإسلامي.

هناك ما يقرب من ملياري مسلم في العالم الذي نعيش فيه، لكن ليس لهؤلاء وجود سياسي حقيقي، وهذا يجعل من المسلمين مجرد مدنيين أو حفنة من المعارضين أو أصحاب حركات أقلية. ومع غياب التمثيل السياسي للمسلمين؛ تكون جهودهم باسم الفكر الإسلامي عشوائية وليست لها أية صلة بالعالم الحديث في كثير من الأحيان.

مع تأثير الضوضاء الناتجة عن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أو الوسائط المختلفة الأخرى؛ تظهر لدينا صورة مختلفة تمامًا عما كان في الماضي، أصبح هناك عرض مستمر للأفكار ومناقشات مستمرة مع كل أطياف الفكر، وأصبح التقاء الناس بأفكارهم وتصوراتهم ومناقشتها أسهل كثيرًا من ذي قبل، وهناك بعض الأفكار القيّمة التي أراها بالفعل من حين لآخر.

فهل يمكن أن يخلق هذا الوضع فرصا حقيقية لسطوع فكر إسلامي جديد؟

أقول إن الوضع الراهن يسمح بذلك ويساعد عليه استنادًا إلى حقيقة أن المسلمين واجهوا مثل هذه اللقاءات والحوارات مع الآخرين عبر التاريخ. وأكد الشنقيطي على السُّنَّة الإسلامية التي اتبعها المسلمون في تلك اللقاءات، موضحًا أن الأصل في الشيء من وجهة نظر الإسلام هو الإباحة، وأن الإسلام لم يطالب المجتمعات والثقافات المختلفة التي وصل إليها بالتخلي عن خصائصها الثقافية ما لم يكن هناك تعارض بينها وبين المبادئ الأساسية للإسلام، بل جعل الإسلام تلك السمات التي لا تتعارض مع جوهر الدين جزءًا من الحضارة الإسلامية؛ وهكذا اتسمت الحضارة الإسلامية بالتوسع بشكل عملي عبر التاريخ.

فكل مجتمع إنساني كان ينضم إلى الإسلام لم يكن يتخلى عن ثقافته وتاريخه وخصائصه لتذوب وتفنى بين طيات الحضارة الإسلامية، بل كان يمسح عنها الصدأ ويقوم بضمها إلى مجموع الحضارة الإسلامية. لكن كنتيجة لذلك كان لا بد من القلق من إمكانية حدوث تحريف في الحضارة الإسلامية، حيث إن ضم تلك الخصائص الثقافية التي كانت موجودة قبل الإسلام من دون التحقق منها وإذا كانت لا تتعارض فعلًا مع الدين؛ قد أدى إلى حدوث انحراف في مسار الحضارة الإسلامية.

لذا؛ كان لا بد من ظهور التجديد مرارا وتكرارا عبر التاريخ كي يُشير إلى هذه التجاوزات، ولتذكير المسلمين الذين فقدوا حماستهم نتيجة شعورهم بالرتابة بنشوة الإيمان والإسلام من جديد.

الشئ المميز هنا هو أن المسلمين يمكن أن يأخذوا من الآخرين من دون أن يفقدوا أنفسهم أو أن ينسوا ثوابتهم؛ حيث إن أداء المسلمين عبر التاريخ في الحفاظ على هذا التوازن لم يُشاهد في أي حضارة أخرى، فقد حافظ المسلمون على هذه المبادئ حين أخذوا أشياء عديدة من الصين والهند وأفريقيا واليونان القديمة.

ورغم أنهم لم يترددوا في أخذ الفكر العلمي من اليونان القديمة، فإن إعجاب بعض الفلاسفة المسلمين في هذا المجال أدى إلى الوهم بأنهم يمكن أن يأخذوا أيضًا ما قاله الفلاسفة اليونانيون عن اللاهوت أو خلق العالم.

في الحقيقة؛ هذا هو الشكل المعروف للانحراف، فلقد فشلوا في رؤية حقيقة أن معرفتهم الجيدة في مجال معين لا يجعلهم أصحاب سلطة في جميع المجالات، ومن أمثلة ذلك ما نراه في طلب بعض الشخصيات -التي تدعي سلطتها في مجال التاريخ أو الفيزياء مثلًا- فرض سلطتها على مجالات السياسة والدين أيضًا.

إن الطريق الذي يجب أن نخوضه اليوم لإعادة الحضارة الإسلامية إلى صدارة المشهد مختلف تمامًا عن ذلك الذي خضناه في الماضي. وكما ذكرنا في البداية؛ يفتقر المسلمون إلى آليات التمثيل السياسي في العالم، وهذا له أولوية كبرى يجب أن يأخذها المسلمون بعين الاعتبار.

بناءً على ذلك؛ أكد الشنقيطي أن المشكلة الأكثر أهمية للعالم الإسلامي اليوم هي مشكلة الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، وقدم لنا الدراسة الأفضل والأكثر شمولا على الإطلاق في هذا المجال.

المقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيا، ولا يزالون يعانون من تبعاته حتى اليوم، ثم ما نتج عن تلك المفارقة من صراع على الشرعية السياسية في تاريخ الحضارة الإسلامية منذ منتصف القرن الأول الهجري إلى اليوم.

يرى الشنقيطي أن النقاش الذي شهده العالم الإسلامي منذ جيل النهضويين الأوائل ومدرسة محمد عبده ومحمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني، أي نقاش الأصالة والمعاصرة وما يتصل به من قضايا، سواء في العلاقة مع الغرب أو في التفاعل مع أطروحاته من حيث تحديد موقف المسلمين المنشطر على نفسه من الموروث أو في قراءة الدين، وتحديدًا في المجال السياسي؛ لا زال يحتاج منا إلى كثير من الجهد.

ويرى الشنقيطي أنه بسبب الشعور الإسلامي الفاقد للثقة؛ ثمة قطيعة بين مدرسة الإصلاح في عصر عبده والأفغاني، التي كان همها النهضة، وبين الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين الذي يركز على الهوية ويحاول استعادة هذه العلاقة باسترجاع مراجع لها مكانها الدائم فيه، مع تركيز على استعادة بعض المرجعيات التي لم تستنفد أفكارها بعد -خاصة في المنطقة العربية- أو لم تأخذ مكانها بقدر الأفكار التي أشاعتها، مثل الشاعر محمد إقبال، ومالك بن نبي وسواهما، فضلًا عن استعادة المراجع والرؤى الغربية التي اعتمدوها في مقارباتهم الإصلاحية.

وفي سياق هذه المعاصرة المطلوبة، يبحث الشنقيطي عن تصورات أشمل تسمح للنص بأن يستعيد مكانه في الواقع، وذلك عبر:

  1. إخضاع التاريخ الإسلامي للنقاش، وذلك بفصله أو تمييزه عن الوحي.
  2. إعادة قراءة "الفرص" المتاحة للنص أو للقيم التي يمثِّلها، كي تظهر في الواقع بصورة معيارية.

ويرى الشنقيطي أن هناك 3 نماذج للدول من حيث قربها أو بعدها من المعيار الإسلامي:

  1. الدولة الإسلامية المعيارية: وهي التي "تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورى والمرجعية الإسلامية".
  2. دولة العدالة البشرية: وهي الدولة التي "تتأسس على التراضي والتعاقد، لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية"، ويدخل تحت هذا الصنف أغلب الدول الديمقراطية المعاصرة.
  3. دولة الهوى: "وتتأسس على القهر والجبر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية"، ومنها دول الاستبداد ودول الطغيان العسكري.

ثم ينتهي بتوضيح أن الدولة الإسلامية المكافئة لما دعاه ابن خلدون "الخلافة الشرعية" بمعناها المعياري لا التاريخي، هي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية، وهذا مما يتوافق مع رؤيته القائمة على أن هناك "تلاقيًا واسعًا بين القيم السياسية الكبرى التي جاء بها الإسلام، والقيم الديمقراطية التي توصل إليها العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الماضية".

وفي ضوء ما ذكرناه؛ فإن السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو كيفية فرض هذه السياسة والسلوك الدستوريين على المجتمعات الاستبدادية؟ لكن دعونا اليوم نكتفي بالسؤال فقط.

يُتبع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.