هل نجحت قطر في إرساء نموذجها القيمي لبطولة كأس العالم؟
ذكرتُ لأحد مقدمي برامج القنوات الأجنبية قبل انطلاق مونديال قطر وهو يحاورني حول الانتقادات الغربية لقطر، أن قطر ستقدم أفضل البطولات تنظيما في تاريخ كأس العالم، فرد عليّ قائلا "لا يمكننا الحكم بذلك الآن، فلننتظر ونرى".
مع اشتداد حملات التشويه والهجمات العنصرية ضد قطر كلما اقتربنا من موعد البطولة، قلتُ إنه يجب ألا يزعجنا ذلك كثيرا، فهي بكل تأكيد ستأتي بنتائج عكسية لما يريدونه، فستجذب الانتباه والاهتمام أكثر للبطولة ولقطر، وذلك ما كنا نبغي، وسيكشف ذلك زيف تلك الادعاءات، والصورة النمطية المشوهة التي يراد إلصاقها بالعرب والمسلمين، وستنجذب العيون أكثر نحو قيمنا وثقافتنا وحضارتنا وقضايانا، وهو ما قد حدث بالفعل.
كانت بطولة تدعو إلى قيم وأخلاق أمة تحمل رسالة للبشرية، وكما أطلق عليها سمو الأمير مبكرا "بطولة العرب"، كان يجب بالضرورة أن تعكس أخلاقهم وقيمهم العربية الأصيلة، التي هي في الأساس إسلامية، فأصبحت بطولة للعرب وللمسلمين، بل لشعوب الشرق والجنوب من دول العالم الثالث
حرب ثقافية
لم تكن هذه بطولة كسابقاتها، ولم تكن عادية أبدا، فقد حشد لإفشالها خصوم أقوياء، لإثبات أن قطر الصغيرة بحجمها والفخورة بقيمها والمستقلة بقرارها، غير مؤهلة لتنظيم هذه البطولة العالمية الكبيرة، حتى أن رئيس الفيفا السابق أقرّ بذلك في عدة مواقف، فقد نجحت البطولة وخسر كل من راهن على فشلها، فما كان ينبغي لمنافق نيل فضل ولا منة من نجاح بطولة قطر.
كانت البطولة صراعا ثقافيا من الدرجة الأولى، ولا أقول صراعا حضاريا، لأنني لا أستطيع أن أرى في حضارة الغرب الآن سوى الأفول والهبوط.
نعم، كانت بطولة رياضية، ولكنها كانت أيضا حلبة صراع بين القيم المختلفة، بين الفضائل الحقيقية لمنطقتنا العربية التي نعتز بها، وبين ما يحاول الغرب تصديره لنا كل يوم على أنه مبادئ القبول للآخر واحترامه، صراع بين القيم والأخلاق لكل طرف حسبما يؤمن به ويعتقده ويسلكه في حياته، صراع طبقي بين من يظن أنه يدير العالم ثقافيا وأخلاقيا، وبين ثقافتنا الجديرة بالاحترام والتي لم ولن نتنازل عنها في أي محفل.
صراع بين غرب مستعلٍ يفرض نهجه في الحياة، وشرق يستذكر حضارته ويذود عن قيمه، ولكن الله غالب على أمره، فنُظمت البطولة في قطر ونجحت بكل المقاييس، على المستويين التنظيمي والقيمي.
العالم يصوّت لنموذج القيم والحضارة العربية الإسلامية بالدوحة
فعلى المستوى التنظيمي، مكّنت كفاءة البنى التحتية ووسائل الموصلات والأمن والنظام الجماهير من حضور أكثر من مباراة في يوم واحد، والتنقل بسلاسة وسلام ودون أي مشقة، وزاد حسن تعامل أهل قطر وقاطنيها مع زوارهم، حبا وتعلقا بها وتقبلا لنموذجها القيمي والحضاري للبطولة.
فكانت البطولة الأفضل تنظيما في تاريخ كأس العالم، بشهادة رئيس الفيفا وغيره من المنصفين. وحقيقة لم يفاجئني ذلك، فقد توقعته في ظل ما أنفقته قطر على تنظيم البطولة، وما قامت به من جهود تنظيمية جبارة على مدى 12 عاما، منذ أن تحملت هذه المسؤولية بشجاعة، وما تراكم لديها من خبرات سابقة.
المثير للاهتمام، هو النموذج القيمي والحضاري الذي أصرت قطر على تقديم البطولة به، مع ما صاحبه من مخاطر بسحب البطولة في ظل حملات التضليل والتحريض المغرضة ضد قطر، ولو لم تقدم البطولة بهذا النمط لما تميزت على سابقاتها، ولربما أتى من ينظم مثل أو أفضل من قطر مستقبلا، فتبقى الميزة الحقيقة، هي أن لهذه البطولة هدفا ورسالة أبعد من مجرد كونها لعبة للتسلية والمتعة.
كانت بطولة تدعو إلى قيم وأخلاق أمة تحمل رسالة للبشرية، وكما أطلق عليها سمو الأمير مبكرا "بطولة العرب"، كان يجب بالضرورة أن تعكس أخلاقهم وقيمهم العربية الأصيلة، التي هي في الأساس إسلامية، فأصبحت بطولة للعرب وللمسلمين، بل لشعوب الشرق والجنوب من دول العالم الثالث، والمنصفين من الغرب، وأصبحت كأنها تصويت عالمي على نموذج قطر، أو نموذج القيم والحضارة العربية الإسلامية مقابل نموذج الانحلال الغربي، وقد انتصر الأول بكل وضوح.
هنا أستذكر مقالا نشر في مجلة "ذا نيشن" (The Nation) الأميركية الشهر الماضي للكاتبين كارون وليفي، يذكران فيه "أن الغرب قد فقد قيادته الكونية في الدوحة، أكثر من أي وقت مضى، فقد أعلن ذلك بوضوح مليارات البشر من سكان جنوب العالم في مونديال 2022، عندما حضروا وتابعوا وأعجبوا بالعرب، ولم يأبهوا بتحذيرات واتهامات الصحافة والساسة والمنظمات الحقوقية الغربية لقطر، التي أثبتت أنها قادرة على تحقيق أعظم نجاح تنظيمي للمونديال في التاريخ. وكذلك بدد رقيّ التعامل الرسمي والأمني، وكرم ولطف الشعوب العربية وسماحة الدين الإسلامي، كل الصور النمطية لهذه المجتمعات والدول، وفضحت التغطيات الإعلامية الغربية تحيّز وعنصرية وعجرفة الرجل الأبيض"، وهذا ما ذكرناه مرارا وتكرارا قبل وأثناء البطولة.
على المستوى القيمي، لو لم يكن للبطولة من مكسب سوى التالي، لكفى:
- المحاولات المستمرة لإجبار جميع الشعوب على القبول بفكرة الإعلان عن التوجه المثلي الذي يتصدر العالم الآن، ويُقاس به مدى قدرة الأفراد والشعوب على قبول الآخر، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى تفسير.
- للعالم الإسلامي مبادئه ودينه الذي يشكل بالنسبة له رأس حربة في مقاومة هذا التوجه، وإظهار أن هناك من شعوب الأرض وعقلائها من لا يقبل بتطبيعها ونشرها والتواؤم معها، ويعيد نظر من أوشكوا من الغرب على التسليم بها بلا حول ولا قوة.
- برّ الوالدين والوفاء لهما، كما صوره المنتخب المغربي العربي المسلم، مقارنة بمن يندمج في حياته ويودع والديه دار المسنين.
- تعليم الأمم "المتحضرة" الطهارة، كما أطلق أحد مشاهير التواصل الاجتماعي الأوروبي على "الشطافة" أنها أعظم اختراع بشري! فلم يخطر بخلد مخترعي الصواريخ العابرة للقارات والقنابل الهيدروجينية، أو بالأحرى لم تدفعهم الحاجة لهذه الفكرة البسيطة ذات الأهمية البالغة لأداء إحدى أهم الوظائف الأساسية البشرية، وهي الطهارة أو النظافة الشخصية. وقد كان الفرنسيون يتنظفون بالأعشاب قبل اختراع المناديل الورقية، أما مخترعها في أميركا في أواسط القرن التاسع عشر، فقد نقش اسمه عليها من شدة فرحه.
- كشفت لمن لا يزال لديه شك من السذج، عنصرية الغرب ونفاقه ومعاييره المزدوجة، ومتاجرته بحقوق الإنسان التي يبتز بها من لا يسير في تحقيق مصالحه ويغض الطرف عمن يحققها له، وإن كانوا مجرمي حرب. فالغرب، بسجله الاستعماري الذي نعلمه جيدا وما بعد الاستعماري الذي نعايشه، إن كان في مستعمراته السابقة، أو في بلدانه، وما يمارسه من تفرقة عنصرية بين مواطنيه بناء على العرق والدين، وسوء معاملة المهاجرين واللاجئين، وقتل أطفال المسلمين؛ غير مؤهل لإعطاء مواعظ في حقوق الإنسان.
- كشف حقيقة زيف التطبيع مع الكيان الصهيوني ورفض الشعوب العربية له رغم مواقف حكوماتها، وأن فلسطين الجريحة لا تزال في وجدان الأمة، وهي أمّ قضاياها، فلا يكتمل فرح ولا نصر ولا تحرر دونها.
- كسر متلازمة المسكرات والبطولة، والتي هي مصدر معظم حالات الشغب والفوضى في الملاعب الأوروبية، لتصبح البطولة الأكثر أمننا وحضورا والأفضل تنظيما وإزالة للاعتقاد المترسخ بأنه لا يمكن أن تكون هناك بطولة من دون كحول، كما ذكر لي أحد مقدمي برامج القنوات الأجنبية أنه لا يستطيع تخيل ذلك، فقلت تخيل البطولة بالكحول، وقارن النتائج؟
- اتهامنا بالتخلف والرجعية والإرهاب، لتخرج بطولتنا الأكثر أمننا وتحضرا، والأفضل قيما وأخلاقا.
كسر احتكار الغرب وفرض هيمنته الثقافية
لقد أثبتت قطر أنه بالإمكان تنظيم البطولة بنموذج مختلف عن النمط الغربي السائد، والمسلّم بفرضه على بقية شعوب الأرض، حتى أتت بطولة قطر لتعيد النظر في ذلك، وتكسر احتكار الغرب، وفرض هيمنته الثقافية وانحلاله الأخلاقي من خلالها، وكأنها أصبحت أداة استعمارية، يتم من خلالها ابتزاز الدول واختراق سيادتها وسلخها من ثقافتها وقيمها وحضارتها، وإن سميت بطولة للعالم، فالمقصود بـ"عالم" في قاموس الغرب هو "الغرب"، وللتخفيف قد يقال إن المقصود هو "العالم المتحضر، أو الديمقراطي".
نحن ندعو العالم للمقارنة وأخذ العبرة من تجربة قطر، وقد دعت بعض الصحف البريطانية وغيرها من المهتمين لأخذ الدروس من تجربة قطر والاستعانة بها في تنظيم بطولات مماثلة، وأعتقد أن بإمكان قطر تنظيم البطولة بعد فترة من الزمن لولا عنصرية الغرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.