عن جمهرة الأمن الغذائي
من المعلوم أن الحكومات يمكنها أن تلعب دورا فعالا وبصورة غير مباشرة في تحقيق الأمن الغذائي عن طريق سياسات دعم المزارعين واستصلاح الأراضي وتنمية موارد المياه وتوجيه كل من الواردات والصادرات الزراعية، وقد نوقش هذا النهج في مقالة سابقة. هذه الحلول المركزية قد تكون فعالة، غير أنها تحتاج إلى ميزانيات كبيرة قد يتعذر تدبيرها كما هو في الحالة المصرية، أو قد لا تجد حكومة مركزية لتنفيذها كما هو في الحالة اليمنية والصومالية والسورية والفلسطينية، وحتى السودانية.
وهنا تبرز الحاجة إلى حلول لامركزية أو جهود شعبية تعتمد في الأساس على توجيه الموارد متناهية الصغر عند الأفراد، فضلا عن تفعيل دور المنظمات الخيرية؛ وهي الأكثر قدرة على حشد وتوجيه المجتمعات التي تبعد عن المركز.
دور المواطنين لا غنى عنه في تحقيق الأمن الغذائي، إذ إن الغذاء هو عبارة عن مورد يؤخذ منهم ويرد إليهم، والاستعانة بوسطاء في سلسلة الغذاء له تكاليف باهظة لا يتسع المقال إلى سردها. وذلك لأن السلسلة الغذائية تبدأ بين أيادي المواطنين وفي مزارعهم وتنتهي في أفواه أبنائهم. أضف إلى ذلك أن مساهمة العمل الخيري في تحقيق الأمن الغذائي ما زال محدودا مقارنة بدوره البارز في الرعاية الصحية والتربية الدينية والتنمية الاجتماعية. وهذا ما سنتطرق إليه في السطور التالية:
الاستغلال الأمثل للمساحات المزروعة
سد فجوة الغذاء العربية يحتاج إلى تبني ممارسات لاستغلال كل شبر من المساحات الزراعية المحدودة. ومن الممارسات التي يجب استدعاؤها زراعة خضراوات الظل في مزارع الفاكهة والذرة. وأهم خضراوات الظل الشائعة في البيئة العربية الملوخية والسبانخ والجرجير والفجل والبصل الأخضر والخس، ناهيك عن الكرنب. وهكذا يمكن زراعة مئات الآلاف من الأفدنة المزروعة بالفاكهة وأشجار النخيل بهذه المحاصيل قصيرة الأجل وعالية القيمة الغذائية. ولنتذكر أن العديد من أشجار الفاكهة (مثل العنب والجوافة والمشمش) تفقد أوراقها في الشتاء مما يسمح باستغلال مزارعها في الزراعات الشتوية.
وفى السياق نفسه، يمكن الاستفادة من المساحات المهدورة في الطرق وحواف الترع ومجاري الأنهار بتشجيرها بالفواكه، مثل النخيل والمانجو والمشمش والتوت. فمن الشائع في دول الخليج العربي غرس أشجار النخيل على حواف الطرق وفي حدائق الهيئات الحكومية، بينما يقبل المصريون على أشجار الزينة، وأشهرها شجرة الفيكس.
كما يمكن استغلال حقول الأرز والأنهار والترع والبحيرات في تربية الأسماك والبط والأوز، وهذا النشاط الزراعي منتشر في الدول الآسيوية. وأقترح عرض مساحات كبيرة من شواطئ البحار والبحيرات والأنهار على الأهالي للانتفاع بها وبناء مزارع للأسماك أو البط أو الأوز. ومما يذكر أن هيئة تنمية الثروة السمكية في مصر كانت تضع زريعة السمك الصغير في النيل.
ومن الأنشطة الجديرة بالاهتمام تربية الماعز والأغنام على الحشائش الضارة في المزرعة، وهذا النشاط يقلل الاعتماد على الحبوب والأعلاف التقليدية. وتحديدا، تعد الماعز من الوسائل البيولوجية الفعالة لمكافحة الحشائش الضارة في مزارع الفاكهة والتمور، كما يمكن تغذيتها على المخلفات الزراعية.
ومما يذكر أن الفلاح المصري قديما كان يعتمد سياسة الاكتفاء الذاتي؛ فيزرع ما يحتاجه من البصل والفول واللفت والفجل والكرنب والقرنبيط. ومن عبقريته الاقتصادية أنه كان يغرسها على حواف قنوات الري وحدود الحقل كي يستفيد من هذه المساحات المهدورة في إدارة المزرعة. كما اعتاد الفلاح نفسه أن يزرع محصول الحلبة مع القمح ليزيد خصوبة التربة ويرفع إنتاجية الفدان، في ما يعرف اصطلاحا بسياسة تحميل المحاصيل الزراعية. وعلى المنوال نفسه، يمكن زراعة اللفت والفجل في محصول البرسيم لمنع احتراقه. وفضلا عن ذلك كانت المرأة الريفية قديما تكتفى ذاتيا من المخللات وبعضها كان يصنع من قشر البرتقال والليمون ومخلفات الكرنب.
البحث عن مصادر جديدة للغذاء
تحظى بيئتنا العربية بمصادر أولية لتغذية الإنسان والحيوان، ويتعين علينا استغلالها لمواجهة أزمة الغذاء الراهنة؛ فبالنسبة لطعام الإنسان فهناك الجراد الذي يقبل عليه أهل الجزيرة العربية والسودانيون، وهو مصدر جيد للبروتين حلال أكله. فمن حين لآخر تغزو بلادنا جحافل فتاكة من الجراد الصحراوي يصل عددها أحيانا إلى 30 مليون جرادة في السرب الواحد. ولحسن الحظ أنه يمكن تجفيفه وترحيله إلى مواسم قادمة. وفى السياق نفسه، أفتى الشيخ ابن العثيمين بجواز أكل التماسيح. كما تتوفر أعشاب غذائية بكثرة في المزارع والبيئة العربية مثل البقلة والسلق والحميض والسريس.
فضلا عن ذلك، يمكن توظيف الماعز والدجاج والبط والنعام والأوز في المقاومة البيولوجية للأعشاب والحشرات الضارة في المزارع. فالمقاومة اليدوية تستغرق جهدا وموارد كبيرة من المزارعين. زد على ذلك أن المقاومة الكيميائية تضر صحة الانسان وتحد من قدرة السلع على المنافسة عالميا. ومن الجدير بالذكر أن الأوز الذي يستخدم في المقاومة البيولوجية للحشائش يطلق عليه اصطلاحا "Geese Weeder". وهذه الطريقة البيولوجية في مقاومة الحشائش والقوارض شائعة في دول مثل تايلند والولايات المتحدة. بمعنى آخر، يمكن تحويل مزارع الأرز والذرة والفاكهة إلى مزارع مفتوحة لتربية البط أو الأوز والدجاج، مما يؤدى في النهاية إلى زيادة خصوبة التربة ومضاعفة إنتاجية المحصول.
تدوير المواد الغذائية
من المعلوم أن الأنشطة الزراعية وسلسلة الغذاء تلفظ أكواما متراكمة من المخلفات الزراعية التي يمكن إعادة تدويرها في سلسلة الغذاء. فمثلا، يمكن استخدام قش محاصيل الأرز وقصب السكر والذرة والقطن كغذاء للماشية والماعز وقطعان الجمال، ويمكن استخدامها في صناعة السماد العضوي، ومن ثم زيادة إنتاجية الفدان.
فمن الشائع أن يقوم المزارعون بحرق هذه المخلفات بعد الحصاد، مما يؤدي إلى تلوث البيئة وإهدار هذه الموارد القيمة. وبالمثل، يمكن رعي الأغنام في حقول البطاطا والبطاطس والفاصوليا والفول السوداني والقطن والقمح بعد الحصاد للتخلص من المخلفات الزراعية. وفي السياق نفسه، قامت بعض الدول العربية -مثل سوريا والمملكة العربية السعودية- بتنمية المراعي الطبيعية عن طريق جلب بذور حشائش صحراوية تتحمل الجفاف والملوحة من أميركا وأستراليا والعراق. وبذلك يقل الاعتماد على الحبوب والأعلاف التقليدية في تغذية قطعان الماشية ليتم توفيرها للإنسان.
دور ربة المنزل
لا تقتصر جهود سد أزمة الغذاء على المزارع فقط، بل يمكن لربة البيت أن تلعب دورا حيويا أيضا. فمثلا، يمكنها تقليل الفاقد الغذائي عن طريق طهي الخضراوات كاملة من دون تقشير أو تقليم. وهذا النمط الغذائي يناسب محاصيل الكرنب والقرنبيط والكوسة والباذنجان. وقديما، أتقنت المرأة المصرية صناعة المخللات من قشر البرتقال وورق الكرنب وبعض الفواكه التي تتساقط من أشجارها قبل النضج.
كما أصبح من الشائع صناعة خبز صحي ولذيذ من نخالة القمح. ومن الشائع أن تقوم ربات البيوت بنقع القمح والفول واللوبيا والفاصوليا في الماء قبل الطهي، مما يزيد حجمها وقيمتها. وهناك أساليب أخرى تعتمد على خلط الخضراوات الأساسية بأعشاب أخرى لزيادة حجمها أو تحسين طعمها أو تعظيم قيمتها الغذائية. فمثلا، كانت المرأة الريفية تخلط نبات الخبيزة بالسلق أو الحميض أو الرجلة عند الطهي. فهذه النباتات العشبية متوفرة بكثرة في الحقول الزراعية وتنافس المحاصيل الرئيسية على عناصر التربة الرئيسية. وهناك ممارسات أخرى تركز على تخزين الطعام فترات طويلة، وتحديدا يمكن حفظ الخضراوات والفواكه بالتمليح والتسكير والتجفيف؛ وبذلك يتم تخفيف آثار تذبذب الأسعار، فضلا عن نقل فائض السلع الغذائية من موسم الوفرة إلى مواسم الندرة والعوز.
أساليب جمهرة الأمن الغذائي
بناء على ذلك، تدفعنا ندرة موارد المياه في محيطنا العربي ومحدودية المساحات الرعوية إلى تبني نماذج جديدة للرعي وتنمية الثروة الحيوانية، وتدوير المخلفات الزراعية، واستغلال كل شبر من المساحة المزروعة، والبحث عن مصادر غير تقليدية للغذاء، غير أن المشكلة تكمن في توعية أفراد المجتمع، وهذا دور الجمعيات التعاونية ووسائل الإعلام والمدارس والمساجد.
فعلى سبيل المثال، دشنت مؤسسة بنيان التنموية بمحافظة صنعاء اليمنية مبادرة لتوزيع دعم مشروع غرس مليون شتلة عنب على أفراد المجتمع. وتتطلب جمهرة الممارسات سالفة الذكر تقديم جوائز لربات البيوت والمزارعين المتميزين وعرض تجاربهم على الجمهور في وسائل الإعلام المختلفة.
فعلى سبيل المثال، يقدم المركز الوطني للنخيل والتمور السعودي جائزة لتطوير إنتاجية التمور. وبالمثل، وزعت شركة مصر هايتك الدولية للبذور ألف و160 جائزة عبارة عن جرارات وماكينات لمقاومة الآفات الزراعية على المزارعين المتميزين. ولا ننسى دور المساجد في التوعية بأهمية غرس الأشجار كصدقة جارية. ومن القصص الجديرة بالذكر أن أهالي مركز سدوان بللسمر بالسعودية وزعوا ألفي شجرة توت صدقةً جارية عن شيخهم علي بن عبد الله بن مسفر. وهناك حملة "الصومال الأخضر" لزراعة 10 ملايين شجرة في الصومال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.