الرأي العام العربي يسبق نخبته

على عكس ما يشيع بين المثقفين العرب، فإن الرأي العام العربي قادر أن يصف مشاكله (غيتي)

 بدايةً هذا المقال -استنادا إلى استطلاعات الرأي العام العربي- يؤكد على ثلاث حقائق متكاملة:

الأولى: على عكس ما يشيع المثقفون والسياسيون العرب، فإن الرأي العام العربي قادر بشكل واضح على أن يصف مشاكله، ويرسم  أولوياته، ويحدد بشكل جليّ انحيازاته السياسية والقيمية، كما أن تطلعاته نحو الديمقراطية باتت ملمحا واضحا، وقدرته على تحديد المهددات التي يتعرض لها وطنه وأمته العربية لا لبس فيها، وأخيرا فإنه بمنتهى الصراحة والوضوح يتجاوز نخبته السياسية والثقافية، إذ يعيد صياغة الأسئلة التي سعوا على مدى عقود ولا يزالوان لفرضها عليه، رغم أنها مجرد نتاج لتصوراتهم وإدراكهم هم.

استطاع العرب أن يقيموا أوضاعهم على أسس موضوعية يدركونها بوعي، فـ35%؜ من المواطنين يرون أن بلدانهم تسير في الاتجاه الخاطئ، مقابل 42%؜ يقولون إنها تسير في الاتجاه الصحيح

واحدة من أبرز الأفكار التي يشيعها المثقفون قبل السياسيين ويروجون لها، هي ضعف وعي الشعوب، وكأن هناك نقطة يمكن أن نتحدث فيها عن اكتمال الوعي أو اختفائه، وهم بذلك يتعاملون بمنطق فوقي مع شعوبهم وإن اختلفت الدوافع بينهما، فالمثقفون باعتبارهم مناط الحكمة والوعي يريدون أن يضفوا الشرعية على الدور الذي يقومون به دون أن يتساءلوا حقيقةً عن مدى الكفاءة في أداء هذا الدور أو انحيازاتهم السياسية والقيمية، ناهيك عن الثمن الذي يدفعونه لتحقيق ذلك.

أما السياسيون فتجدهم تحت دعاوى ضعف وعي الشعوب يصبحون هم المنوط بهم التعبير عن مصالح الدولة والوطن والشعب. استطاع العرب أن يقيموا أوضاعهم على أسس موضوعية يدركونها بوعي، فـ35%؜ من المواطنين يرون أن بلدانهم تسير في الاتجاه الخاطئ، مقابل 42%؜ يقولون إنها تسير في الاتجاه الصحيح.

أورد الذين أفادوا بأن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ العديد من الأسباب: إذ عزا 40% منهم ذلك إلى أسباب اقتصادية، و14% ذكروا أن السبب هو الأوضاع السياسية غير الجيدة وغير المستقرة مثل التخبط السياسي وعدم قيام النظام السياسي بما يجب أن يقوم به، وأفاد 9% بأن السبب هو سوء الإدارة والسياسات العامة للدولة، وأشار 7% إلى عدم وجود استقرار بصفة عامة.

أما على صعيد المستجيبين الذين أفادوا بأن بلدانهم تسير في الاتجاه الصحيح، فقد استطاع 83% منهم تقديم أسباب لذلك، في حين لم يقدم 17% أسبابا أو أنهم رفضوا الإجابة. وأفاد 19% ممن قدموا أسبابا بأن الأوضاع تحسنت في البلاد، وذكر 15% أن السبب هو الأمن والأمان في بلدانهم، وعزا 13%؜ السبب إلى الحكم الرشيد، و7%؜ إلى التحسن في الوضع الاقتصادي، و5%؜ إلى توفر الاستقرار السياسي، و5%؜ إلى الشعور بالتفاؤل بالمستقبل.

يمكن أن نشير إلى عديد من الأمثلة التي امتلأ بها المؤشر العربي -الذي صدرت نتائجه لعام 2022 منذ أيام واستمر إجراؤه على مدار عشر سنوات- مثل تقييمهم أوضاعهم السياسية والأمنية في بلدانهم، وكذا الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة لأولوياتهم التي تنوعت، وإن احتل فيها الاقتصاد الأولوية الكبرى:

  • الأولى: بنسبة 60%، إذ ذكر ما يزيد عن نصف المواطنين أن البطالة وارتفاع الأسعار وسوء الأوضاع المعيشية والفقر هي التحديات التي تواجه بلدانهم.
  • الثانية: أن الحديث عن ضعف الوعي لدى الشعوب العربية يجعل من الفعل السياسي ممارسة ثقافية وإعلامية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وليس تعبيرا مؤسسيا وتنظيميا عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة. المشكل كما يظهر من استطلاعات الرأي يقع في ضعف التنظيمات السياسية والمدنية، وقدرتها على جذب فئات اجتماعية متسعة للانتماء إليها بما يضمن التعبير عن المصالح والتدافع حولها. إذ تشير النتائج إلى أن انخراط المواطنين العرب في منظمات مدنية أهلية ضعيف بنسبة لا تتجاوز 13%؜، وتصبح النسب أقل من ذلك إذا أخذنا في الاعتبار مدى مشاركة المستجيبين في الهيئات الذين أفادوا بأنهم ينتسبون إليها.
    يلاحظ -وفق نتائج المؤشر العربي الذي سبقت الإشارة إليه- أنه لا يزال الانتساب إلى جمعيات وهيئات عائلية أعلى من الانتساب إلى الجمعيات الأهلية والثقافية، كما أن أكثرية العرب (64%؜) غير منتسبين لأحزاب سياسية، ولا يوجد حزب سياسي يمثلهم، كما أن الثقة فيها محدودة وتتراجع عبر السنين.
  • الثالثة: هناك انفصال واضح بين السياسة كما تظهر من السلطة الحاكمة ونخبتها المعارضة، وبين السياسة كما يدركها المواطن ويتفاعل معها، مما يؤدي في النهاية إلى هشاشة المجال السياسي والضعف البنيوي للمؤسسات السياسية من حكومات ومجالس تشريعية وأحزاب ومجتمع مدني.
    ففي الوقت الذي تتحرك فيه السياسة الرسمية للنظم العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني أو عدم الاعتناء الكافي بالانتماء للوطن العربي، نجد اتجاهات الرأي العام العربي تناقض ذلك تماما، في مفارقة واضحة بين الرسمي والشعبي.
    ترى نسبة 80%؜ من الرأي العام العربي أن شعوب المنطقة تشكل أمة واحدة، وإن تمايزت بعضها عن بعض، مقابل 17%؜ يعتقدون أنها تمثل أمما وشعوبا مختلفة وبينها روابط ضعيفة. إن التغيرات التي طرأت على هذه النسب عبر السنوات الماضية هي تغيرات طفيفة وليست جوهرية.
    يتوافق ثلاثة أرباع الرأي العام العربي (76%؜) على أن القضية الفلسطينية هي قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ويرفض 84%؜ من المشاركين في الاستطلاع أن تعترف بلدانهم بإسرائيل مقابل 8%؜ فقط أفادوا بأنهم يقبلون اعتراف بلدانهم بها. وعلى الرغم من كل التطورات التي جرت مع الاتفاقات التي أطلق عليها "أبراهام" التي عُقدت مع الإمارات والمغرب والبحرين والسودان، فإن نسبة الذين رفضوا الاعتراف بإسرائيل قد ارتفعت في مؤشر 2022 بدرجتين مئويتين مقارنة بنتائج مؤشر 2019-2020.

بناءً على ذلك، يمكن أن نستخلص عددا من الخصائص الأساسية للرأي العام العربي:

  1.  وجود تيار أساسي متنوع، وإن كانت له ملامح محددة ومواقف واضحة، على الأقل، من القضايا الأساسية المطروحة مثل الديمقراطية وعلاقة الدين بالسياسة وتعريف العدو.. إلخ. وهو كما يظهر في نتائج المؤشر العربي لا يتسم بالتطرف، بمعني أنه لا يتخذ مواقف حدية وإن ظهر على جانبيه مواقف غير وسطية.
  2. أنه على المستوى الواقعي استطاع أن يحل عددا من الإشكالات والثنائيات المتعارضة التي حكمت تفكيرنا لعقود. جرى ذلك على مستوى الوعي والموقف والاتجاه، وإن ظلت الفجوة لدى السياسيين والمثقفين في التعبير عن ذلك في صيغ سياسية وقانونية ومواثيق قيمية وأخلاقية تحكم المجال العام.
  3. اتجاهاته العامة باتت أكثر وضوحا، بمعنى أن هناك قدرا من الاستمرارية التي يمكن استخلاصها من نتائج المؤشر التي امتدت لعشر سنوات، وهذه الاستمرارية تتصف بالواقعية وليست من طبيعة مثالية.
  4. الدين والسياسة: رغم انقسام الرأي العام العربي حول الفصل بين السياسة والدين، إذ تؤيد نسبة 47%؜ فصل الدين عن السياسة مقابل 48%؜ تعارضه، وهذا الانقسام يكاد يكون متطابقا منذ 2011، أقول رغم هذا الانقسام البادي والمستمر، فإن هناك عددا من المحددات التي تحكمه وتجعل منه في النهاية بلا معنى، هذه المحددات هي:
  • رغم تعريف الأغلبية لأنفسهم في المنطقة باعتبارهم متدينين -61% يرون؜ أنهم متدينون إلى حد ما، يضاف إليهم 24%؜ يرون أنهم متدينون جدا، في مقابل 12%؜ أفادوا بأنهم غير متدينين-، فإن هذا لم يمنع الانقسام حول الموقف من الفصل بين الدين والسياسة، بما يجعل الموقف من الفصل أو الدمج في جزء منه يتأسس على اعتبارات سياسية وواقعية وليست بالضرورة دينية، مما يخفف من حدة هذا الانقسام، وإن لم ينف إمكانية استغلاله في الصراع السياسي.
  • تنحاز أغلبية الرأي العام (57%؜) إلى التركيز على سمات أخلاقية وقيمية بوصفها أهم شرط يجب توافره في شخص ما كي يعدّ متدينا، ولم يشهد الرأي العام العربي تغيرا على هذا الصعيد عبر السنوات الماضية وفق بيانات المؤشر. يضاف إلى ذلك حقيقتان أخريان، وهما أن أغلبية الرأي العام ترفض مقولة إن كل شخص غير متدين شخص سيئ بنسبة 78%؜، وأن الأغلبية ترفض تكفير الذين ينتمون إلى أديان أخرى أو الذين لديهم وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين.
  • ترفض أغلبية المستجيبين أن يؤثر رجال/ شيوخ الدين في قرارات الحكومة أو في تصويت الناخبين، كما أن الأكثرية ترفض أن تستخدم الدولة الدين للحصول على تأييد الناس لسياستها، وترفض أيضا أن يستخدم المرشحون في الانتخابات الدين من أجل كسب أصوات الناخبين.

نحن هنا بصدد ظواهر متعددة ومتكاملة وأسئلة جديدة، واحدة من هذه الظواهر الواضحة هي رفض أطروحة الإسلام السياسي التي قام جزء منها حول دمج الديني في السياسي، ورفض الأطروحة السلفية التي تؤسس العلاقة مع المجال العام على الاعتقاد مع تهميش الأخلاقي، وأخيرا فإن السؤال لم يعد حول العلاقة بين الديني والسياسي اللذين يظلان متداخلين ممتزجين على مستوى هياكل الدولة والمجتمع وفي القانون كما في الأحزاب، ولكن حول تفاصيل هذه العلاقة التي يجب أن يحكمها التحرر من التوظيف في الصراع السياسي، كما يرى الرأي العام العربي.

ديمقراطية فاعلة

تؤيد أغلبية الرأي العام العربي النظام الديمقراطي بنسبة 73%، مقابل معارضة 19%،؜ وترفض أغلبية مواطني المنطقة مقولات ذات محتوى سلبي عن الديمقراطية، كما أن 85%؜ منهم قادرون على أن يقدموا تعريفا محددا لمحتوى الديمقراطية. وتتوافق أغلبية العرب (71%؜) على أن النظام الديمقراطي هو الأكثر ملاءمة لبلدانهم.

ورغم هذا الانحياز الواضح، فإنهم منقسمون حول مقولة "يتسم النظام الديمقراطي بأنه غير حاسم ومليء بالمشاحنات"، ولأن الوضع الاقتصادي هو أولويتهم الأولى، فإن مدى فاعلية النظم الديمقراطية في حل المشكلات الاقتصادية تصبح محل تساؤل، وهو ما أكدت عليه قراءتنا لنتائج الباروميتر العربي.

تتطلع الشعوب العربية لحكم رشيد وفعال في معالجة مشاكلهم المستعصية، وهم في ذلك ليسوا بدعا ولا استثناء بين الأمم؛ إذ تتطلع الشعوب جميعا إلى مؤسسات سياسية فاعلة قادرة على أن تلبي حاجاتهم العامة، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تتعامل مع تحديات المستقبل، وهي المعضلة التي تظهر في تراجع الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية من برلمانات وحكومات وأحزاب ونقابات.

التوظيف السياسي للقضية الفلسطينية

كانت ولا تزال قضية فلسطين عرضة للتوظيف من قبل القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، والقوى الدولية مثل روسيا والصين وفرنسا، إلا أن الجمهور العربي أكثر وعيا بهذا التوظيف، ويراها جميعا سلبية باستثناء تركيا التي ينقسم بشأن طبيعة تدخلها، إذ يري 43%؜ أنها إيجابية في حين يرى 41%؜ أنها سلبية.

أما السياسة الخارجية الإيرانية فقد قيّمها أكثر من النصف بأنها سلبية (52%؜) في مقابل 31%؜ رأوا أنها إيجابية، بل إن الرأي العام الفلسطيني ذاته منقسم بشأن دورها، إذ يرى 42%؜ أنها إيجابية في مقابل 41%؜ يرون أنها سلبية.

ورغم محاولة فلاديمير بوتين توظيف القضية الفلسطينية لتحقيق قدر من التأييد الشعبي العربي في حربه على أوكرانيا؛ فإن أكثر من 58%؜ من المستطلعين يرون أن السياسة الروسية سلبية، وكذا السياسة الفرنسية (61%؜).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.