الصراع مع إسرائيل والظواهر الاجتماعية في أفلام علي عبد الخالق

الفيلم المصري ” العار ” 1982
من الفيلم المصري "العار" عام 1982 (مواقع التواصل)

تنطلق صفارة الإنذار في مدينة السويس المصرية بعد هزيمة 1967 تحذيرا من غارة وشيكة يشنها الطيران الإسرائيلي. وفورا، يهرع الناس إلى المخابئ تحت الأرض طلبا للحماية. وبعد انتهاء الغارة، يخرج أهالي السويس ليمارسوا حياتهم الطبيعية وكأن شيئا لم يكن. حفلات الزفاف وصلاة العيد تقام مع آثار القصف الذي طال المباني والمنشآت في المدينة الواقعة على خط الجبهة الحربية حينذاك.

فيلم "أغنية على الممر" هو أول أفلام عبد الخالق التي تناولت الصراع مع إسرائيل، وقد جسد المعاناة الإنسانية وأحلام الجنود البسطاء أثناء حرب 1967، بعد أن حاصرهم الجيش الإسرائيلي في ممر من دون إمدادات أو أكل أو شرب، مع انقطاع الاتصال بقيادتهم العسكرية.

ترصد الكاميرا حركة الناس وحياتهم مصحوبة بموسيقى من دون حوار أو تعليق صوتي في فيلم "السويس مدينتي" الوثائقي، من إخراج علي عبد الخالق إبان حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل عام 1970.

يعدّ الفيلم باكورة أعمال المخرج المصري علي عبد الخالق التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وحصد وقتها الجائزة الأولى من مهرجان وزارة الثقافة الأول للأفلام التسجيلية عام 1970. بعدها انطلق عبد الخالق -الذي وافته المنية قبل أيام قليلة- بقوة في سماء السينما الروائية، وأخرج عديدا من الأفلام التي تناولت محطات الصراع مع إسرائيل عبر 30 عاما. كان أول هذه الأفلام هو فيلمه الروائي الأول الشهير "أغنية على الممر" الذي جسد المعاناة الإنسانية وأحلام الجنود البسطاء أثناء حرب 1967، بعد أن حاصرهم الجيش الإسرائيلي في ممرّ من دون إمدادات أو أكل أو شرب مع انقطاع الاتصال بقيادتهم العسكرية.

إعلان

كان الفيلم من أعمال جماعة السينما الجديدة التي أطلقها جيل من المخرجين الشباب، سعوا إلى مقاومة سينما الهزل التي أعقبت هزيمة 1967. وعكس الفيلم طبيعة ثقافة هذه الجماعة مع شخصية حمدي الفنان الملحن الذي يكره الابتذال ويسعي للفن الراقي. وبينما يجسّد الفيلم ذكرياته سائرا بعيدا عن الملاهي الليلة نحو العمال الذين يغنون بشكل جماعي، يترنم حمدي بلحن أغنية جديدة يحاول ضبطه طوال مدة الفيلم، هو لحن أغنية "تعيشي يا ضحكة مصر"، في تجسيد لمعاني دور القيم في مجابهة الهزيمة وليس الهروب منها عبر الابتذال.

بداية علي عبد الخالق مع الفيلم الوثائقي جعلته وفيا للواقع، لا يبتعد عنه نحو الخيال سوى ليقترب من مشاكل الناس ومعاناتهم. وهي معادلة نادرة مع كثير من المخرجين الذين بدؤوا مشوارهم الفني مع الفيلم الوثائقي كنوع فني أرخص إنتاجيا وفرصه أكثر، قبل أن يولوا ظهرهم له بعد أن فتحت لهم السينما الروائية أبوابها. فقد ظل عبد الخالق بعد نجاحه في السينما الروائية يخرج أفلاما وثائقية، معظمها أو كلها غير متاح للعرض للأسف لأنها لم تعرض على السينما ولا التلفزيون. وظل واقع الصراع مع إسرائيل يلهب خياله، فجسد معاني الخيانة في فيلمي "بئر الخيانة" عام 1987 و"إعدام ميت" عام 1985 اللذين تناولا قصة مصريين تخابروا مع إسرائيل. وهي أفلام تناولت قصصا معقدة دراميا أفضت إلى موت شنيع للشخصيات المتخابرة في نهاية كلا الفلمين.

استطاع عبد الخالق أن يجسد أحلام معظم الرجال في نموذج غير تقليدي سينمائيا للمرأة، مع الدور الذي أدته نورا في شخصية "روقة" زوجة نور الشريف في فيلم "العار" عام 1982، وأصبحت به أيقونة نسائية ترمز لفتاة الأحلام التي تسعد زوجها وتقف جواره في الأزمات.

ولم تشفع هذه المسيرة من النجاح في تجسيد الصراع مع إسرائيل في نجاح فيلمه "يوم الكرامة" عام 2004، الذي تناول دور القوات البحرية المصرية في إغراق المدمرة "إيلات" بعد هزيمة 1967. واعترف عبد الخالق في تصريحات صحفية وقتها بأن هذا الفيلم أنهى مسيرته الفنية، وأنه فشل في تقديم ما يريده الجمهور حاليا. وهي تصريحات مهمة تشير إلى أن نبل القضايا العادلة لا يصنع بالضرورة عملا فنيا ناجحا، فروح علي عبد الخالق الشاب الغاضب في ظروف الهزيمة يختلف عن علي عبد الخالق الكهل وسط أجواء مطلع الألفية.

إعلان

نقد الظواهر الاجتماعية

ينتمي علي عبد الخالق أيضا لتيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية الذي بدأ عام 1982، وأطلق عليه الناقد الراحل الدكتور سمير فريد هذه التسمية تيمنا بالواقعية الجديدة في السينما الإيطالية التي انتشرت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، واقتربت من الواقع عبر تجسيد حالات الفقر والمعاناة. ومن رواد هذا التيار المصريين المخرجون: عاطف الطيب، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، بالإضافة لعبد الخالق، الذين خرجوا بالسينما من الأستديوهات إلى المواقع الحية وتجسيد المشاكل الاجتماعية بجرأة كبيرة. ونجح عبد الخالق في وضع كثير من مشاكل المصريين في تلك الفترة تحت مجهر السينما بشكل عميق، إذ تناول قضايا حساسة مثل المخدرات والخرافة وطبيعة الرزق والقدر.

وبعد أكثر من 4 عقود، لم ينس المصريون والعرب شخصيات وحوارات هذه الأفلام التي تحولت بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى أيقونات ومضرب للأمثال. منها حديث حسين الشربيني المفعم بالإيمان مع نور الشريف في فيلم "جري الوحوش" عام 1987 حول تقسيم الأرزاق والرضا، والحوار الفلسفي بين تاجر المخدرات جميل راتب مع أستاذ الكيمياء يحيى الفخراني في فيلم "الكيف" عام 1985 حول غش الجماهير مع نشارة الخشب في الشاي. وقد استطاع أن يجسد عبد الخالق أحلام معظم الرجال في نموذج غير تقليدي سينمائيا للمرأة مع الدور الذي أدته نورا في شخصية "روقة" زوجة نور الشريف في فيلم "العار" عام 1982، والتي أصبحت أيقونة نسائية ترمز لفتاة الأحلام التي تسعد زوجها وتقف جواره في الأزمات.

المعادلة الصعبة في مسيرة المخرج الراحل علي عبد الخالق الفنية رحمه الله هي الجمع بين الوفاء للمهنة وأصولها وتحقيق النجاح الجماهيري والتجاري. فأن تكون مخرجا ذا تاريخ فني ووطني كبير وحاصدا للجوائز السينمائية المحلية والدولية ثم لا تجد متسعا للعمل في وطنك، هو أمر لا يستطيع كثيرون تحمله. وقبل وفاته بأكثر من 10 سنوات، احترم علي عبد الخالق نفسه واعتزل الإخراج قائلا إن الأوضاع الإنتاجية لا تناسبه. هاجم أيضا ظروف الإنتاج الحالية وخاصة الاعتماد على فكرة ورشات العمل، وكان نموذجا للمخرج صاحب الرؤية الاجتماعية والسياسية والوطنية الذي تؤرخ أفلامه للحظات الهزيمة والانكسار والأمل والألم وتشريح المجتمع وأزماته.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان