المخرج جان لوك غودار.. رائد السينما التجريبية وصديق الفلسطينيين

تعطي المخرجة إشارة البدء للمصور بأن يدير الكاميرا وهي تحدثه بالفرنسية. يخيم الصمت لثوانٍ قليلة لا يقطعه سوى صوت صحفية تقلب أوراقها استعدادا للقاء شخصية لا نرى من هي، كما لا نرى وجوه المخرجة أو الصحفية. الجميع يبدون كأشباح سوداء باستخدام تقنية الصور الظلية، أو ما يعرف بالسلويت (Silhouette).
نرى فقط الشارع والسيارات وبعض الأشجار في الخلفية من وراء زجاج شفاف. وهنا تنطق الصحفية قائلة: محمود درويش، ثم تسترسل في طرح أسئلتها باللغة العبرية. يجيب درويش باللغة العربية ووجهه معتم متحدثا عن الرواية الإغريقية والضحية الطروادية، ثم يظهر لنا وجهه فجأة وهو يقول: "أنا ابن شعب غير معترف به بما فيه الكفاية حتى الآن. أريد أن أتكلم باسم الغائب. باسم شاعر طروادة. فإن الوحي الشعري والمشاعر الإنسانية قد تظهر أكبر في الهزيمة مما في النصر". وتتنقل الكاميرا بين درويش والمصور والصحفية في لغة بصرية غير مألوفة، قدمها الفيلم التجريبي "موسيقانا" للمخرج الفرنسي السويسري جان لوك غودار عام 2004.
بعد هزيمة عام 1967 بدأ اهتمامه بقضية فلسطين، وذهب عام 1969 إلى مخيمات اللاجئين في كل من الأردن وسوريا ولبنان من أجل تقديم الثورة الفلسطينية للعالم، وأخرج فيلمه عام 1970 تحت عنوان أصلي "حتى النصر: أساليب العمل والتفكير للثورة الفلسطينية"
كان الفيلم أحد الأعمال السينمائية التجريبية لغودار الذي رحل عن دنيانا قبل أيام. وهو نموذج لأسلوب غودار الذي يقفز فوق التقسيمات السينمائية، ويقدم فيلما لا هو بالوثائقي ولا هو بالروائي ولا هو بالدراما الوثائقية أو ما يعرف بالدوكيودراما (docudrama).
يتكون الفيلم -الذي عرض في مهرجان "كان" السينمائي الدولي في العام ذاته- من 3 فصول رئيسية، هي: الجحيم والطهارة والجنة، في استعارة واضحة للكوميديا الإلهية، أبرز الملاحم الشعرية في الأدب الإيطالي. وفيه يمزج المخرج بين الواقع والخيال والتاريخ والفلسفة، ويظهر غودار بنفسه كجزء من الفيلم في رحلة مع طلابه إلى سراييفو، ويأخذهم إلى جسر موستار الشهير الذي دمرته الحرب، ويناقش في فيلمه قضايا الحرب والاستعمار والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
كان الفيلم يعبّر عن رؤية مخرج ليس متعاطفا فقط مع القضية الفلسطينية ولكنه شخص من داخل القضية، سبر أغوارها وعرف تاريخها ومكان قوتها وضعفها. وهو ذلك بالفعل، لأنه من بعد هزيمة عام 1967 بدأ الاهتمام بقضية فلسطين، وذهب عام 1969 إلى مخيمات اللاجئين في كل من الأردن وسوريا ولبنان من أجل تقديم الثورة الفلسطينية للعالم، وأخرج فيلمه عام 1970 تحت عنوان أصلي "حتى النصر: أساليب العمل والتفكير للثورة الفلسطينية" قبل أن يتغير ويصبح بعدها "من هنا وهناك". ورغم أن الفيلم كان ممولا من منظمة التحرير الفلسطينية، فإن غودار تعامل معه كمهمة نضالية وليس عملا عاديا.
وبعد رحيله عن عمر يناهز 91 عاما، تتذكر فرنسا مواطنها جان لوك غودار ممثلة في رئيسها إيمانويل ماكرون الذي امتدح عبقريته وكونه أستاذا للسينما في فرنسا. ويتذكره السينمائيون لأنه رمز للموجة الفرنسية الجديدة التي انطلقت في أواخر الخمسينات. ويحق للعرب والفلسطينيين أن يتذكروه كصديق وفي للقضية الفلسطينية.
غودار الثائر فنيا وسياسيا
يعدّ جان لوك غودار شاعرا بمرتبة مخرج، ومناضلا في ثوب موسيقار ضل طريقه نحو السينما. يتعامل مع السينما كما يتعامل الملحن مع الموسيقى، وقيثارته هي الكاميرا. ليس هذا وحسب، بل يكسر القواعد ويبتكر قواعد أخرى. أغراه الجمال فراح يعزف منفردا. يتعامل مع السينما كلوحات جمالية لا يميزها عن تلك التي تعرض في المتاحف سوى المونتاج. فالسينما من وجه نظره هي فن المونتاج. ويتنبأ بأن الجيل الحالي سيشهد نهاية السينما في صورتها الأصلية، وسيحل محلها شيء آخر، ولن يبقى منها سوى المونتاج. فكل العناصر يمكن أن تغيب عدا هذا النسق البصري المتحرك للصورة المسمى مونتاجا.
حين قدم مسرحية شكسبير الشهيرة "الملك لير" سينمائيا عام 1987، بدا وكأنه ينتقم من شكسبير نفسه. فقد أصرّ على أن يكون الحوار باللغة الإنجليزية الشكسبيرية الأصلية العصية على فهم المعاصرين، وبدت القصة التي تحمل اسم المسرحية وكأنها غير مقتبسة من القصة الأصلية. كما بدا الفيلم الذي شارك في بطولته وودي آلان غير مفهوم لكثير من المشاهدين في الولايات المتحدة الذين اعتادوا على النمط الهوليودي في السرد السينمائي. حينها خسر الفيلم ماليا وخسر المنتجون وربح غودار ما يريد أن يوصله بصريا.
وكما كان غودار ثائرا فينيا من ناحية شكل ومضمون أفلامه، فهو ثائر سياسي أيضا له لون سياسي يساري فاقع وواضح لا يخفيه ولا يداري انحيازاته، تماما كاللون الأزرق الذي لطخ وجه البطل بيير في فيلمه الملون الشهير عام 1965 "بيير المجنون"، والذي أصبح صورة ملصق الفيلم الرئيسية.
وفي بحثها عن دور الماركسية سينمائيا في أفلام، ترى الدكتورة مورين كيرنان أن كل الأفلام هي سياسية بالضرورة إلى درجة ما؛ لأن كل فيلم يحمل مجموعة أفكار وقيم، وسواء أكانت هذه الأفكار والقيم سياسية أم لا، فإن الفيلم يجسد بالضرورة أيدلوجية ما. ومن هنا ترى أن أفلام غودار لم تكن أفلاما سياسية وحسب، بكل كانت تسبح ضد التيار وضد الثقافة السائدة وتعيد صياغة علاقة المخرج بالمجتمع وبالصناعة السينمائية بشكل عام، لكونه حاول دائما أن يكون مستقلا عن النمط الهوليودي في الإنتاج والتوزيع.
لا يمكن اختزال شخصية سينمائية تاريخية هامة مثل غودار في موقفه السياسي، لكن لا يمكن أن ننكر أن رائدا من رواد السينما في العالم كان صديقا للعرب والفلسطينيين، وقدمهم بقلبه وفنه سينمائيا في وقت يعاديهم -أو على الأقل يتجاهلهم- فيه كثيرون. والسؤال الذي تطرحه مسيرة غودار هو: هل يحق للمبدع أن يكون مسيسا؟ حياة غودار وفنه أجابا عن هذا السؤال بالإيجاب، وهنا تكمن الإشكالية في كيفية رسم خطوط رفيعة وواضحة بين الإبداع الحقيقي المعبر عن الرؤية الذاتية والعالم وبين الدعاية السياسية الرخيصة أو البروباغندا، فالأولى باقية والثانية كزبد البحر يذهب جفاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.