المستفيدون من اتفاق ترسيم الحدود البحرية كُثر.. لكن ماذا عن لبنان؟

لبنان وإسرائيل يتنازعان على منطقة بحرية غنية بالنفط والغاز تبلغ مساحتها 860 كيلومترا مربعا (الجزيرة)

في الوقت الذي ينتظر فيه ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل زيارةً مكوكية جديدة للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لضخ الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه.

اتخاذ خطوات فعلية على الأرض لتصبح أمرا واقعا وتنطلق منها المفاوضات مرة أخرى تضمن لصاحبها تقدما يصعب التراجع عنه؛ هذه طريقة إسرائيل في حسم أي مفاوضات تخوضها مع أي طرف كان، والآن وفي الوقت الذي تنتظر فيه المنطقة جولة مفاوضات جديدة مع وصول الوسيط الأميركي لحل نزاع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، أعطت إسرائيل توجيهاتها لشركة التنقيب عن الغاز "إنريجيان" (شركة قبرصية/يونانية مدرجة في البورصة الإسرائيلية) بأن تبدأ عملية الضخ من حقل كاريش الواقع ضمن المنطقة المتنازع عليها بين البلدين في سبتمبر/أيلول القادم، كما أعلنت في السابق دون تأجيل، غير آبهةٍ بتهديدات حزب الله التي صدرت على لسان السيد حسن نصر الله قبل شهر ونصف الشهر بأن الحركة لن تسمح باستخراج الغاز من حقل كاريش ما دامت لم تؤخذ "حقوق لبنان" بعين الاعتبار، وجاءت تهديداته يومها بعد أن أسقطت إسرائيل 3 طائرات استطلاعية فوق سهل كاريش.

وعلى ما يبدو ستباشر "إنريجيان" عملها رغم عدم حل النزاع، متكئة بذلك على الجيش الإسرائيلي، على حد وصف الكاتب المتخصص في شؤون الطاقة في صحيفة "جلوبس" داني زاكان.

في منتصف يونيو/حزيران الماضي زارت وزيرة الطاقة الإسرائيلية القاهرة والتقت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيرها طارق الملا، وما إن وقعت الوزيرة اتفاقا مع مصر تضمن به الحفاظ على أمن الطاقة للأطراف وحماية أمن الطاقة الإسرائيلي وتمهيد نقله إلى أوروبا؛ حتى تلاشت المخاوف الإسرائيلية التي كانت قد استبعدت مصر سابقا من خط "إيست ميد"

القصة لا تكمن في حدود بين دولتين متنازعتين؛ فقضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل تأخذ صدى أوسع من سياق حربٍ وسلم بين بلدين يتشاركان تاريخا حافلا؛ فالمستفيدون من الاتفاق كثر؛ فإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عينت وسيطا خاصا لإدارة الملف (رغم أن هناك قضايا عدة في الشرق الأوسط من ضمنها القضية الفلسطينية لم تعين لها الإدارة الأميركية الحالية مبعوثا خاصا)، والأهمية في هذه المسألة تكمن في أنها إن سويت بين الطرفين فستفضي إلى توريد غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، وبذلك يربح عصافير كثر؛ أولهم إسرائيل التي ستتمكن من بيع غازها -الذي تصل صادراته اليوم بحسب وزارة الطاقة الإسرائيلية إلى نحو 340 مليار متر مكعب- إلى مستهلك متعطش للغاز كالقارة الأوروبية، وتتوج بذلك مشروع خط "إيست ميد" الذي بذلت فيه الغالي والنفيس بعقود طويلة الأمد.

مستفيدٌ آخر يتخذ الموقع الأكثر إستراتيجية في شرق المتوسط، وهو تركيا التي يخولها موقعها لكسب نقاط إضافية في أي مفاوضات حالية ومستقبلية حول مستقبل الطاقة في القارة العجوز. وضعٌ لم تغيره الحرب الروسية على أوكرانيا؛ فأنابيب تركيا باقية وإن اختلفت مصادر الغاز التي ستمر عبرها، وهي الخيار الأول لنقل غاز خط "إيست ميد" إلى أوروبا، والبدائل المكلفة كانت أحد أكبر أسباب تجديد العلاقات بين إسرائيل وتركيا، مع العلم أن أنقرة كانت عدّت خطوة تأسيس منتدى "غاز شرق المتوسط" أواخر عام 2020 -بمشاركة 7 دول على رأسها مصر وإسرائيل- تحالفا عدائيا يهدف إلى استبعادها من خارطة الطاقة في المنطقة، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا قلبت المشهد، ورسمت تحالفات جديدة في مسارات الطاقة التي تبدو العداوات والصداقات من خلالها أكثر مرونة.

في منتصف يونيو/حزيران الماضي، زارت وزيرة الطاقة الإسرائيلية القاهرة، والتقت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيرها طارق الملا، وما إن وقّعت الوزيرة اتفاقا مع مصر تضمن به الحفاظ على أمن الطاقة لجميع الأطراف وحماية أمن الطاقة الإسرائيلي وتمهيد نقله إلى أوروبا؛ حتى تلاشت المخاوف الإسرائيلية التي كانت قد استبعدت مصر سابقا من خط "إيست ميد"؛ خوفا من تحوُّل القاهرة إلى مركز إقليمي للطاقة يفضي إلى إيجادها الطريق لنقل غازها إلى أوروبا، لكن التطمينات المصرية أفضت إلى اتفاقية تسري من تاريخ توقيعها ولمدة 3 سنوات، تتجدد تلقائيا عامين آخرين؛ وبذلك تكون مصر صاحبة حقول الغاز الأكبر في شرق المتوسط قد سوقت غازها وكسبت ودّ جارتها المتنفذة إقليميا ودوليا.

أدى هذا التحول تحديدا في ظل وجود مستهلك شره كأوروبا يخشى حلول الشتاء إلى ظهور مستفيدين من خارج حوض المتوسط من اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل؛ إذ وضعت الإمارات موطئ قدم لها في شرق المتوسط عبر توقيع شركة الاستثمار الإماراتية (مبادلة) اتفاقا مع إسرائيل يقضي بشرائها 22% من بئر "تامار" الإسرائيلي الواقع إلى الغرب من شواطئ حيفا.

الولايات المتحدة يتبدل موقفها من غاز شرق المتوسط بتبدل إداراتها بين جمهوريين وديمقراطيين؛ ففي حين قللت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من شأن مشروع "إيست ميد"، واصفةً إياه بأنه مصدر رئيسي للتوتر "وشيء يزعزع استقرار المنطقة" بحسب صحيفة "ميدل إيست آي"؛ ترى فيه إدارة بايدن بديلا ضروريا وسريعا أكثر من غيره للغاز الروسي. فمن جهة سيوصل الغاز إلى شركائها في حلف الناتو، ومن جهةٍ ثانية لا تقل أهمية سيعمق الاصطفاف العالمي ضد القطب الروسي الصيني، في الوقت الذي تحلق فيه الطائرات الصينية المقاتلة فوق مضيق تايوان، وهو ملفٌ تحتاج الولايات المتحدة إلى إزالة ملفات كثيرة عن الطاولة -كتوفير بديل عن الغاز الروسي لأوروبا- من أجل الالتفات إليه.

المستفيد الذي يجلس في ذيل القائمة هو لبنان؛ فمن جهة تعول إسرائيل في مفاوضاتها معه عبر الوسيط الأميركي على دماره وحاجته الملحة للغاز اليوم قبل الغد، ومن ناحيةٍ ثانية يخشى لبنان -كما يقول الخبير في قضايا النفط والغاز طارق عواد- من أن يعيد تجربة حقل "غزة مارين" الذي دخل في حالة من الجمود نظرا للتعقيدات السياسية والنزاعات الطاردة لأي شكل من أشكال الاستثمار.

سيصل هوكشتاين إلى المنطقة الأسبوع القادم، وأمامه سيناريوهات كثيرة وعراقيل أكثر؛ ففي الوقت الذي ترى فيه جهات فاعلة في المشهد السياسي الإسرائيلي أن حكومة يائير لبيد الانتقالية غير مخولة لتوقيع اتفاق تاريخي يقتطع جزءًا من الأراضي السيادية لدولة إسرائيل، كما جاء في الرسالة التي وجهت مؤخرا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، إذ طالبه المعترضون بتقديم الاتفاقية للموافقة عليها بأغلبية ثلثي الكنيست أو إلى الذهاب لاستفتاء شعبي وفقًا لقانون أساس الاستفتاء، وتعقد الخطوة الإسرائيلية المشهد أكثر في حال بدأت بالفعل ضخ الغاز من حقل كاريش في سبتمبر/أيلول القادم، وفي ظل وجود العديد من النسخ لمقترحات التسوية المنشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعدم التوافق إسرائيليا على نسخة نهائية؛ يميل هوكشتاين لتسوية تقوم على تقسيم المنطقة المتنازع عليها، ولكن ليس عن طريق خط يمر في منتصفها، بل عن طريق تبادل المناطق الاقتصادية البحرية، في حين أبدت إسرائيل استعدادها للسماح لشركة دولية بتطوير حقل "قانا" الذي ترى أنه يقع ضمن منطقة النزاع مع إيجاد صيغةٍ لتقسيم العائد المالي.

في خضم النقاشات المطروحة يرشح رأيٌ في إسرائيل يذكّر بالعسكري ولا يستبعد السيناريو الأقرب للتنفيذ؛ وهو أن يحصل لبنان على حقل قانا في حين تأخذ إسرائيل حقل كاريش، وبذلك يتسنى لها التهديد بقصف المنصة اللبنانية أو قصفها بالفعل إذا شكلت بدورها تهديدا على الغاز الإسرائيلي.

عامل الوقت هو لاعب مركزي في المشهد، ويشكل نقطة ضعف لأميركا وإسرائيل أمام لبنان، في الوقت الذي تعولان فيه على عجزه وحاجته إلى التوقيع بأسرع وقت ممكن على الاتفاق لما سيعود عليه من أرباح، وتعرفان أسس تسويق المنتج الصحيح في الوقت المناسب؛ فإسرائيل تسوّق غازها وتنقذ أميركا شركاءها الذين يخشون البرد؛ فالشتاء على الأبواب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.