أوكرانيا وتايوان والصدع العالمي الكبير

رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي مع أعضاء آخرين من الوفد وهم يستقلون الطائرة قبل مغادرة تايوان (رويترز)

مضت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان الأسبوع الماضي من دون أن تؤدي "على الفور" إلى اندلاع أزمة خطيرة بين الصين والولايات المتحدة، لكنّ الزيارة أشعلت بالفعل فتيل الأزمة بين أكبر قوتين عالميتين، وقد تُصبح أخطر مشكلة أمنية تواجه العالم منذ عقود طويلة.

ردّا على الزيارة، أطلق الجيش الصيني تدريبات عسكرية قرب تايوان تُحاكي على ما يبدو حصاراً بحرياً للجزيرة وتُشكل تصعيداً غير مسبوق في التكتيكات العسكرية الصينية في مضيق تايوان. من خلال ضبط ردّ فعلها، تجنّبت بكين الوقوع في فخ تصعيد عسكري غير محسوب مع واشنطن، لكنّها حوّلت عاصفة بيلوسي إلى فرصة لفرض واقع إستراتيجي جديد في المنطقة. إذا أصبحت التدريبات العسكرية الصينية روتينية بالفعل، كما يُعتقد، فإنها ستُعطل بشكل كبير اقتصاد الجزيرة وتعزلها نسبياً عن العالم. منحت بيلوسي عن غير قصد هدية ثمينة للزعيم الصيني شي جين بينغ، لتصعيد الحملة الصينية لإعادة التوحيد مع تايوان.

نجحت بيلوسي في تحدي الصين وإظهار التزام الولايات المتحدة بدعم تايوان، لكنّها تركت الجزيرة في موقف ضعيف للغاية وخطير. حقيقة أن الولايات المتحدة لا تمتلك إستراتيجية واضحة للتعامل مع حالة الحرب يجعل بكين أكثر جرأة في فرض قواعد جديدة للتنافس مع واشنطن حول تايوان

من خلال استعراض القوة هذا، تريد الصين إظهار تصميمها الكامل في الدفاع عن الوحدة مع تايوان حتى لو اضطرها الأمر إلى الدخول في حرب. تبقى الحرب خياراً غير مثالي لبكين على الرغم من تزايد النزعة القومية الصينية لإعادة تايوان إلى البر الرئيسي بالقوة. وفقًا لمسح أجرته صحيفة غلوبال تايمز التي تديرها الدولة، يؤيد 70% من الصينيين بشدة استخدام القوة لتوحيد تايوان مع البرّ الرئيسي. ويعتقد 37% أنه سيكون من الأفضل لو اندلعت الحرب في غضون 3 إلى 5 سنوات. لدى بكين خيار آخر أقل تكلفة من الحرب، وهو حرب "المنطقة الرمادية" التي هي جزء من قواعد اللعبة التي تمارسها الصين مع تايوان والدول المجاورة التي لديها نزاعات إقليمية معها. في حال تصاعد الأزمة الراهنة، من المتوقع أن تلجأ بكين إلى فرض حصار بحري طويل الأمد على الجزيرة، وربما ضرب أهداف عسكرية تايوانية كما في فعلت في أزمة مضيق تايوان السابقة. كما يُمكنها سنّ تشريعات جديدة للتسريع في عملية التوحيد. مثل هذا السيناريو يُنذر بصدام كارثي بين بكين وواشنطن ويضع موقف إدارة بايدن على المحك.

نجحت بيلوسي في تحدي الصين وإظهار التزام الولايات المتحدة بدعم تايوان، لكنّها تركت الجزيرة في موقف ضعيف للغاية وخطير. حقيقة أن الولايات المتحدة لا تمتلك إستراتيجية واضحة للتعامل مع حالة الحرب يجعل بكين أكثر جرأة في فرض قواعد جديدة للتنافس مع واشنطن حول تايوان. لعقود، ظلت تايوان عالقة في منطقة رمادية بين الولايات المتحدة والصين، تماماً كما كانت أوكرانيا بين روسيا والغرب. كانت العلاقة التي أقامها ريتشارد نيكسون مع الصين بعد زيارته التاريخية إليها مستقرة بما يكفي لطمأنة التايوانيين بأن بكين لن تُهاجم الجزيرة، كما أن تركيز الزعيم الصيني على خطة التجديد الوطني وتعميق العلاقات الاقتصادية مع الغرب بمثابة ضامن آخر بأن بكين لن تُغامر بتهديد نهضتها الاقتصادية وسياساتها الاقتصادية الناعمة في العالم. لكنّ كل هذا تغيّر الآن. العلاقة بين واشنطن وبكين دخلت مرحلة مضطربة منذ تولي ترامب السلطة، والجيش الصيني كثّف عملية تحديث كبيرة لترسانته التقليدية والنووية، كما استثمرت الصين بكثافة في أسطولها البحري الذي فاق عدد السفن الأميركية، وحققت تقدماً في الحرب ضد الغواصات. يمنح ذلك الصين ميزة التفوق العسكري في أي صراع بحري مع الولايات المتحدة حول تايوان.

رغم أن الولايات المتحدة كررت تعهداتها بضمان قدرة تايوان في الدفاع عن نفسها، فإن سياسة الغموض الإستراتيجي التي تنتهجها واشنطن مصممة على ردع استباقي لبكين قبل أن تهدف إلى الانخراط في حرب معها من أجل تايوان. الولايات المتحدة منخرطة في صراع عسكري بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا واقتصادها يعاني من تضخم مفرط، كما أن الديمقراطيين يواجهون احتمالا كبيراً بخسارة الأغلبية البرلمانية في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، مما يُقيد قدرة بايدن على الدخول في مواجهة عسكرية مع الصين. علاوة على ذلك، فإن الاضطرابات الجيوسياسية العالمية التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا تجعل التكاليف العالمية لأي صدام عسكري حول تايوان كبيرة للغاية. نجح الأميركيون على نحو متزايد في تصوير الصراع مع روسيا والتنافس مع الصين على أنه صراع بين الشرق والغرب على إعادة كتابة القواعد الدولية، لكنّ آخر ما يحتاجه العالم في هذه المواجهة السياسية الكبرى بين القوى العظمى هو خلق صراع عسكري جديد في جنوب آسيا.

تُشكل تايوان حالياً بؤرة توتر عالمية ثانية إلى جانب أوكرانيا، لكنّ تداعيات النزاع بشأنها تفوق بعشرات الأضعاف تداعيات انهيار العلاقات الروسية الغربية. اجتماع الأزمتين معا كفيل بانهيار كامل للقواعد التي تُدير العلاقات بين القوى العظمى. على الرغم من أن البيت الأبيض لم يدعم علناً زيارة بيلوسي، فإن واشنطن تمارس لعبة أدوار متقنة لاستفزاز بكين واختبار صبرها. مواجهة عسكرية محتملة حول تايوان ستكون مدمرة للاقتصاد العالمي المنهك أصلاً بفعل الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كورونا والتغير المناخي.

يُخطئ الاعتقاد الغربي بأن العواقب المحتملة على الصين إذا ما مضت في إعادة التوحيد بالقوة مع تايوان ستردعها. إن القلق الرئيسي للصين لا يتعلق بالتكاليف المترتبة على أي مواجهة، بل يرتبط بالسيادة الوطنية. والرئيس شي -الذي يسعى لتجديد قيادته للبلاد في اجتماع الحزب الشيوعي الصيني المقبل- يحتاج قبل كل شيء إلى إظهار تصميمه القوي على مواجهة المساعي الأميركية لجعل حلم استعادة تايوان صعباً بمرور الزمن.

إن الاستعراض العسكري الصيني في تايوان مع تصعيد الولايات المتحدة للهجتها ضد بكين يزيد من مخاطر التوتر بين قوتين تتنافسان منذ سنوات على القيادة العالمية. وفي حين أن البلدين استطاعا لعقود طويلة إدارة الخلاف بينهما بشأن تايوان بطريقة لم تُخرجه عن السيطرة، إلاّ أن الاضطرابات المتزايدة في العلاقات والشكوك المتزايدة حول مستقبل النظام الدولي بفعل صراع جيوسياسي آخر يدور في أوروبا بين روسيا والغرب، يزيدان من صعوبة احتواء الصراع حول تايوان. إن أكثر ما يُقلق في هذه المواجهة الجيوسياسية بين روسيا والغرب من جهة، والصين والولايات المتحدة من جهة ثانية، هو السلاح النووي الذي عاد ليُصبح جزءًا من أدبيات القوى العظمى في تحدي بعضها البعض. لقد استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التلويح بهذا السلاح خلال حقبة الحرب الباردة بغرض استعراض القوة، لكنّ القواعد الصارمة التي نجح العالم في تكريسها إزاء الأسلحة النووية خلال فترة الحرب الباردة وبعدها، بدأت تتراجع على نحو مثير للذعر.

لقد استثمرت الصين بكثافة في زيادة ترسانتها النووية خلال السنوات الماضية، وتقدر وزارة الدفاع الأميركية أنها ستصل إلى ألف رأس حربي على الأقل في غضون العقد، أي أكثر من 3 أضعاف العدد الذي تمتلكه حاليًا. بناءً على هذه التوقعات، قد يعتقد القادة الصينيون أنه في وقت مبكر من 5 سنوات من الآن، سيحقق الجيش الصيني ما يكفي من المكاسب التقليدية والنووية التي يمكنه خوضها والفوز في حرب من أجل الاتحاد مع تايوان. ما يُقلق الغرب الآن أن انتصار بوتين في حرب أوكرانيا سيُشجع شي على القيام بمغامرة مشابهة لاستعادة تايوان، لأن الغرب سيكون حينها أضعف من أن يردعه عسكرياً أو يُعاقبه اقتصادياً.

لقد صاغ الصينيون بذكاء سياسة رمادية تجاه أوكرانيا. أبدوا دعمهم للمظالم التي عرضها بوتين بخصوص التهديدات الأمنية المتصورة من جانب الناتو، لكنّهم لم يدعموا الحرب علناً. لدى بكين مصالح اقتصادية كبيرة مع الغرب ولا تُريد تهديدها، كما أنها جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي. 8 من أكبر 10 شركاء تجاريين للصين هم من الديمقراطيات، وحوالي 60% من صادرات الصين تذهب إلى الولايات المتحدة وحلفائها. إذا استجاب الغرب لهجوم صيني على تايوان بقطع العلاقات التجارية، فإن التكاليف الاقتصادية يُمكن أن تُهدد المكوّنات التنموية لخطة التجديد الصينية.

المُحرّك الرئيسي للشراكة الصينية الروسية هو الشعور المشترك بالتهديد المتصور من جانب الغرب. يعتبر بوتين -وهو محق جزئياً في ذلك- أن تمدد الناتو باتجاه روسيا يُهددها، بينما يرى شي في الدعم الغربي لتايوان أنه تشجيع لفصلها عن الصين، وهو محق جزئياً كذلك، كما ينظر الزعيمان إلى التفوق الغربي العالمي على أنه يُحد من الطموحات المشروعة لبلديهما في لعب دور أكبر على الساحة الدولية. في حين أن بوتين صاغ التهديدات المتصورة من جانب أوكرانيا كمبرر للحرب، فإن التوتر مع الولايات المتحدة سيدفع شي إلى صياغة تهديدات متصورة. الصين اليوم بالنسبة للولايات المتحدة مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبل أكثر من 50 عامًا. لقد أصبحت التهديد الأول، وتلجأ إلى القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لإعادة تشكيل النظام الدولي. وبالمثل، فإن الولايات المتحدة بالنسبة للصين تختلف اليوم، وأصبحت أكثر عدوانية تجاهها وتتراجع ضمنياً عن مبدأ الصين الواحدة وتحشد حلفاءها في آسيا ضد بكين. لقد دخل العالم مرحلة خطيرة من التنافس غير المقيّد بقواعد بين القوى العظمى.