نهاية الحوار الوطني في مصر

الحوار الوطني الدائر في مصر
الحوار الوطني في مصر 2022 (مواقع التواصل الإجتماعي)

هل بدأت جلسات الحوار الوطني لينتهي؟

نعم انتهى؛ لأنه حقق غرضه للسلطة دون أن تدفع فيه كثيرا. نعم انتهى؛ لأن نظام السيسي على حاله لم يغير شيئا من سياساته ولا طبيعته. نعم انتهى؛ لأن القوى السياسية التي قبلت المشاركة منقسمة مجزأة، وأضعف من أن تؤثر على مجريات الحوار ونتائجه.

نعم انتهى؛ لأن تركيبة الحوار من أول مجلس الأمناء إلى طريقة إدارته بها خلل لا يمكن معالجته. نعم انتهى؛ لأن تأثيره على اهتمامات المصريين يكاد يكون صفرا. نعم انتهى؛ لأن الحوار ليس هنا وإنما في مكان آخر أهم وأكثر فاعلية.

النظام ولقطة الحوار

فهْم الدوافع التي حركت النظام للإعلان عن الحوار في إفطار الأسرة المصرية رمضان الماضي؛ بداية التفكير والتقويم لمدى فاعلية هذه الخطوة التي جاءت على خلاف نهجه السابق الذي استمر سنوات والذي ارتكز على تجفيف منابع السياسة في مصر، والتعامل بالقمع مع جميع مخالفيه.

تتعدد الدوافع ولكنها تدور بالأساس حول تحسين صورته في الخارج، مع توفير بعض الشروط التي تسمح له بإتمام الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي بما يضمن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بالإضافة إلى المناورة مع الضغوط الاقتصادية الداخلية؛ وأقول المناورة لأنه يعلم أنه لا تأثير حقيقيا للحوار ولا للمشاركين به على هذه المسألة، وإنما رطانات قد تشغل الجمهور قليلا، فمنهج النظام في السنوات الثماني الماضية يقوم على فلسفة "اضحك الصورة تطلع حلوة"؛ من هنا تأتي أهمية تصميم اللقطة لتحقق غرضها، وقد تحقق ذلك من وجهين:

  • الأول؛ مقابلة بايدن منتصف هذا الشهر بما يمثله من شرعية القبول والاعتراف بالسيسي على المستوى الدولي وفتح حسابات جديدة مع الدكتاتوريين في المنطقة وليس كما صرح بايدن في حملته الانتخابية بأنه لن يعطي الدكتاتوريين في المنطقة شيكات على بياض. أعقب ذلك نشاط مكثف على المستوى الخارجي؛ حين التقى السيسي مباشرة المستشار الألماني وزار ماكرون -الرئيس الفرنسي- بالإضافة إلى زيارة صربيا وزيارة وزير الخارجية الروسي للقاهرة، وفي هذا كله تم تدشين لغة خطاب جديدة تستخدم لقطة الحوار في مواجهة الانتقادات المتعلقة بحقوق الإنسان – كما ظهر في مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني.
  • الوجه الثاني: فهو توفير أحد الشروط التي يتطلبها الاتفاق مع الصندوق؛ وهو تحقيق قدر من الاستقرار بما يضمن نمو الاقتصاد وتدفق الاستثمارات الأجنبية. وتتبقى تهيئة الأجواء لقمة المناخ التي تستضيفها مصر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل؛ وهو ما يحققه استمرار الحوار لسبتمبر/أيلول المقبل -كما صرح به المنسق العام للحوار السيد ضياء رشوان- حين أكد في أكثر من مناسبة أن أمامنا وقتا في الحوار؛ فبرغم انعقاد جلستين لمجلس الأمناء لساعات مطولة لم يتم الاتفاق على جدول زمني له حتى الآن. ولكن هل تغيرت سياسات النظام في الشهور الثلاثة الماضية؛ أي منذ الإعلان عن الحوار، أو حتى خطابه؟! نشير أولا إلى استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فمن تم القبض عليهم خلال هذه الفترة ضعف مَن أُطلق سراحهم.

وقد جرى الحكم على السياسيين عبد المنعم أبو الفتوح -رئيس حزب مصر القوية ونائبه بأحكام قاسية، بالإضافة إلى أحكام الإعدام في قضايا سياسية، وحجب المواقع مثل "المنصة"، كما استمرت الممارسات التي تضيق على المسجونين السياسيين كما هي دون تغيير ومثلها البارز ما يجري مع علاء عبد الفتاح. وتطول القائمة ولكن السياسة هي هي لم تتغير، وبعد سنة ونصف السنة من إعلان الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ازداد الوضع سوءا.

أما الدافع الثاني: فهو استمرار نفس السياسات الاقتصادية التي اتبعها النظام سابقا والتي أنتجت أوضاعا معيشية ضاغطة على جموع المصريين من قبيل زيادة الديون الخارجية التي بلغت حتى الآن 175 مليار دولار -وفق تقديرات هذا العام، بالإضافة إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي على اتفاق جديد يعطي قوة دفع جديدة لوصفته المرتكزة إلى نيوليبرالية شرسة، كما استمرت سياسة الإنفاق العام على البنية الأساسية وليس مشاريع إنتاجية تمثل قيمة مضافة للاقتصاد وتعالج خلله الهيكلي. كل هذا وغيره جعل البعض يتساءل عن أي شيء سنتحاور إذن؟!

لغة الخطاب

لغة الخطاب يسودها التبرير للأزمة الاقتصادية بكورونا والحرب الأوكرانية، والتعميم الذي وإن كان يعترف بالأزمة بشكل صريح فإنه يبعد الرأي العام وصناع القرار عن معرفة أصل الأزمة، وبالتالي يبقيه بعيدًا عن إمكانية حلها من الجذور ويمنع تكرارها في المستقبل، بالإضافة إلى استمرار تحقير السياسة ودورها في الخروج من الأزمة.

تتعدد المداخل وتتنوع لغة الخطاب ولكن ما يجمعها نفس الطبيعة التي استمرت على مدار السنوات الثماني الماضية.

اختلفت المؤسسات السيادية في الدولة حول مدى جدوى الحوار من عدمه، وحول مشاركة الإسلاميين وخاصة الإخوان فيه، وحول إطلاق سراح المعتقلين، وواضح أن من انتصر أو سادت رؤيته هم المتعنتون حيث استبعد الإخوان بعد أن أشار منسق الحوار لحضور بعض المحسوبين عليهم

الحوار في مكان آخر

في تقديري أن الحوار الحقيقي في مكان آخر يدور حول موضوعات أخطر؛ وإن كان الحوار الوطني شرطا لنجاحها، فالنظام يفصل بين السياسي وبين الاقتصادي منها.

الأول: مع صندوق النقد الدولي -كما قدمت- وفيه يجري التفاوض على مزيد من تحرير أو مرونة سعر الصرف، ودور الجيش في الاقتصاد تحت بند المنافسة العادلة وإعطاء قوة دفع للقطاع الخاص في الاقتصاد، بالإضافة إلى تخفيض الدعم إن لم يكن إلغاؤه بالكلية.

أبدى الرئيس المصري انزعاجه من هذه الشروط وتكلفتها على الاستقرار في المؤتمر الصحفي مع شولتز -المستشار الألماني. لقد تطلب الحوار أو التفاوض مع الصندوق بدء حوار حول سياسة ملكية الدولة التي سترسم حدود دور الدولة في الاقتصاد ووزن القطاع الخاص فيه والذي من المستهدف أن يصل إلى 70% على مدار السنوات الثلاث المقبلة بما يتطلبه ذلك من انسحاب كلي أو جزئي من بعض القطاعات أو إعادة تموضع للدولة في قطاعات أخرى سواء بزيادة الاستثمارات فيها أو الشراكة مع القطاع الخاص، والأهم أنه ستجري حركة بيع مكثفة لأصول الدولة المصرية بمبلغ 40 مليار دولار على مدار السنوات الأربع المقبلة.

دلالات ذلك كثيرة وقد سبق لأحد الباحثين مناقشتها في مقال له حول الموضوع ولكن ما يهم هو مدى تأثير تطبيق هذه السياسات على تحالف الحكم وموقع المؤسسة العسكرية فيه؛ خاصة أن الأمر سيطال بشكل مباشر اقتصادها وما تملكه من مؤسسات، والتي أعلن عن بيع اثنتين منها في البورصة هذه الأيام. ويلاحظ أن المخاوف من هذا بدأ يبرز في الإعلام المصري ومثله البارز مصطفى بكري الذي اشتهر بأنه المعبر إعلاميا عن آراء الجيش.

المكان الثالث الذي جرى ويجري فيه الحوار هو بين مؤسسات الدولة الأمنية -وهو ما اشتهرت تسميتها في مصر بالمؤسسات "السيادية"، ويلاحظ المراقب أنه قد كانت هناك أصوات متعددة لهذه المؤسسات يجري التعبير عنها من خلال بعض الواجهات الإعلامية.

اختلفت هذه المؤسسات حول مدى جدوى الحوار من عدمه، وحول مشاركة الإسلاميين وخاصة الإخوان فيه، وحول إطلاق سراح المعتقلين، وواضح أن من انتصر أو سادت رؤيته -ولو إلى حين- هم المتعنتون (hard liner) حين استبعد الإخوان بعد أن أشار منسق الحوار لحضور بعض المحسوبين عليهم، كما أن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين جرى بأعداد محدودة دفعت السيد كمال أبو عيطة -عضو لجنة العفو الرئاسي- يعلق عضويته بها ويعلن صراحة أن بعض أجهزة الدولة هي من يعيق إطلاق سراحهم؛ بل لو طالت حبس الجميع لفعلت.

قوى سياسية مجزأة وهشة

لبّت القوى السياسية المكونة للحركة المدنية والمحسوبة على المعارضة سريعا نداء الحوار الذي أطلقه السيسي؛ صحيح أن الحركة المدنية قد اشترطت بعض الشروط  التي استجاب النظام للقليل منها، ولكن يلاحظ أنها لم تستطع حتى الآن أن تتمسك بهذه الشروط -خاصة تشكيل الأمانة العام للحوار وإطلاق سراح عدد معتبر من المعتقلين- مما زاد من توتراتها الداخلية.

المعارضة المصرية ممن قبلت الحوار؛ تدخله بلا عملية نقد ذاتي، وقد حطت منها السنون الثماني وتركت، وهي لا تملك رؤية مشتركة ولم تستطع أن تطورها على مدار الأشهر الثلاثة الماضية؛ ناهيك عن تبنيها لخطاب النظام فيما يخص مسألة الإرهاب، ولا تزال تقع في فخ الاستقطاب ضد الإخوان الذي كان أحد العوامل وراء عودة الاستبداد إلى ربوع مصر بعد 2013.

مارس النظام عملية إقصاء لبعض رموز المعارضة المصرية بالداخل ومكوناتها؛ خاصة ممن يحمّلون السيسي المسؤولية عما انتهت إليه الأحوال في مصر مثل أحمد الطنطاوي الذي قدم استقالته من رئاسة حزب الكرامة ذي التوجه الناصري.

عملية يتحكم فيها النظام

شابت عملية الحوار عيوب جسيمة؛ وقد علّمتنا خبرات الحوار الوطني في بلدان أخرى أن تصميم العملية مسألة مهمة في نجاحها، وهم عادة يتحدثون عن عدد من المحددات المهمة التي افتقدها حتى الآن الحوار المصري:

  1. غاب الشمول عنه وجرى فيه الإقصاء لأطراف مهمة ومؤثرة؛ ليس الإخوان فقط وإنما معارضة الخارج أيضا وكذا جرى استبعاد بعض الشخصيات التي كانت مقربة من النظام لأسباب غير مفهومة أمثال أنور السادات -رئيس حزب الإصلاح والتنمية، وكذا جرى التعامل بالتمييز داخل الكيان الواحد حين جرى قبول البعض واستبعاد آخرين. ويطلق البعض على هذا الحوار أنه حوار بين النظام والقريبين منه وليس المعارضين.
  2. وفق اللائحة التي تنظم عمل الحوار؛ فإن من يمسك بتلابيبه ويتحكم فيه المنسق العام للحوار الموظف الرسمي في الدولة.
  3. حتى الآن؛ يعرف المتحاورون ما لا يجب الحوار فيه -وهو بالمناسبة الأهم- لأنه يدور حول مسؤولية قيادة النظام عما انتهى إليه الحال في مصر، وهو مستبعد الحديث فيه.
  4. تصريحات منسق الحوار لا تستجيب للدافع الأساسي لقوى المعارضة لقبولها المبدئي للحوار، وهو إطلاق المعتقلين السياسيين بما يجعل إجراءات بناء الثقة وتوفير الأجواء للحوار غير متوفرة.
  5. غلبة الموالاة على المعارضة في تشكيل مجلس الأمناء؛ فعندما ترى أن حزب الموالاة الصريح "مستقبل وطن" ممثل بمقعد واحد في مجلس الحوار وعندما ترى أن التيارات الأيديولوجية والأحزاب المدنية موجودة بتنوعها بل وأن المستقلين يتفوقون على الحزبيين من موالاة ومعارضة قد تشعر أن المجلس عبر عن تكافؤ في صنع القرار داخله بين السلطة ومعارضيها، ولكن هذه المعايير تصبح معايير نظرية أبعد ما تكون عن العملية عندما تضعها جميعا تحت اختبار واحد هو علاقة كل هذه التنوعات الأيديولوجية والحزبية بالدولة النهرية المركزية القوية التي تدور الساسة والنخبة حولها دوران القمر حول الشمس.
    فمثلا من ينتمون للمؤسسة الإعلامية والصحفية يمثلون نحو نصف عضوية مجلس الأمناء، وبسبب هذا الطابع المركزي فإن هذه المهنة تعتمد كمؤسسات ونقابات ومجالس خاصة في السنوات الثماني الأخيرة اعتمادا شبه كامل على موارد الدولة ويعرف جميعهم بالتالي الحدود التي يستطيعون أن يصلوا إليها في اختلافهم معها. كما أن الكثير منهم يشغل حاليا أو شغل من قبل أرفع المناصب التحريرية فيها، وتعود لسنوات طويلة على السير فوق سلك رفيع يقوم على الموازنة بين مقتضيات المهنة وقيود المؤسسة العامة.
  6. أخيرا وليس آخرا؛ فإن الاتفاق على جدول زمني لانتهاء الحوار لم يتم حتى الآن، بما يجعل المحدد الأساسي في ذلك هو رؤية النظام للمدى الزمني المناسب للتوظيف الممكن له وفق الأهداف التي أشرت إليها سابقا. ولم يتضح حتى الآن كيفية التصرف في نتائج الحوار غير أنها سترفع للرئيس -المسؤول الأول عن السياسات التي طبقت على مدار 8 سنوات مضت.

تأثير محدود على أولويات المصريين

لم يظهر بشكل واضح كيف يمكن أن يؤثر هذا الحوار على المعاناة الاقتصادية والمعيشية التي تلقي بوطأتها على المصريين. وأظهر استطلاع الباروميتر العربي لسنة 2021/ 2022 هذه الحقيقة بجلاء؛ فالمواطنون العرب ومنهم المصريون يبحثون عن فاعلية النظام السياسي أكثر من طبيعته؛ وإن انحازوا إلى الديمقراطية باعتبارها أفضل نظم السياسة، والمثال الأبرز لهذه الفاعلية هو قدرته على حل المشكلة الاقتصادية التي تتعدد مظاهرها من ارتفاع للأسعار وبطالة -خاصة وسط الشباب، وفقر وعدم قدرة على توفير متطلبات الغذاء الأساسية.. إلخ؛ ناهيك عن الفساد واللامساواة في توزيع الدخل والثروة والفرص.

في دراسة مهمة للحوار التونسي الذي جرى في الفترة بين 2013/ 2014 وأسهم بنجاح في معالجة الأزمة السياسية التي تفاقمت وقتها نتاج عوامل كثيرة؛ تنتهي هذه الدراسة التوثيقية إلى أن إحدى مشكلات الحوار هي أن الجمهور قد رأى فيه معالجة لأزمة النخب السياسية وحلا لمعضلاتها هي لا مشكلاته هو؛ فالجمهور التونسي لم يلحظ تأثيرا لنجاح حوار النخبة على معيشته وأولوياته الاقتصادية، وهو ما أسهم في الوصول إلى الأزمة التونسية الحالية والتي تعكس الانفصال والخلف بين المجالين السياسي من ناحية والاقتصادي الاجتماعي من ناحية أخرى.

بعد كل هذا ما الذي تبقى من الحوار المصري:

  1. انفتاح إعلامي محكوم.
  2. توظيفه في علاقات عامة مع الخارج.
  3. رطانات حول الحوار لا تهم الناس كثيرا؛ ولكن قطاعات محدودة من النخبة.وقد ينتج عنه بعض النتائج المحدودة التي لا تغير في المجال السياسي شيئا!!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان