النقد السينمائي البديل في العصر الرقمي

يُخرج سلطان مسدسا من جيبه في حركة تشبه أفلام "الكاوبوي" الأميركية، ثم ينطلق بجسده الرياضي وراء شخص آخر لمطاردته؛ ينطلق صوته في الخلفية قائلا إنه شخص لا يحب المشاكل لكن الظروف أجبرته عليها. وبينما يعمل في مركز رياضي ملاكما ومدربا رياضيا يجد نفسه متورطا مع عصابة لتزوير الأموال، تتحول حياته بعد ذلك من أداء رياضي للملاكمة إلى ساحة صراع جسدي مع منافسيه يختلط فيها ما هو حركة و"أكشن" مع ما هو كوميدي فكاهي في فيلم "عمهم" من إخراج حسين المنياوي وبطولة محمد عادل إمام الذي يُعرض في موسم عيد الأضحى السينمائي في دور السينما المصرية.
يثير الفيلم حفيظة الشاب محمود مهدي فينتقد غياب البوصلة الأخلاقية فيه، ويشرح كيف أن قصة الفيلم تخلق تعاطفا مع مجرمين ومزورين وتجار عملة، وأن عواقب أبطال الفيلم الذين تورطوا في الإجرام لا تشي بأنهم ارتكبوا خطايا. يعرض محمود رؤيته للفيلم عبر قناته على اليوتيوب "فيلم جامد" التي حققت انتشارا واسعا وحظيت بمتابعة ما يقرب من 700 ألف مشترك. وقد بدأ قناته قبل نحو 9 سنوات، وهي تقدم محتوى نقديا لأفلام السينما بشكل يمزج بين المعلومة والطرافة.
وتعدّ هذه القناة واحدة من أبرز قنوات اليوتيوب المعنية بمراجعة الأفلام، إذ تقدم محتوى متنوعا من حيث الشكل والمضمون، فهي تحلل عناصر الفيلم من تأليف وإخراج ومونتاج وموسيقى ومؤثرات بصرية كما تعرض فيديوهات معلوماتية عن النجوم والممثلين، وهي جزء من ظاهرة جديدة على الوسط السينمائي والفني نشأت في السنوات الماضية فيما يعرف بالنقد السينمائي البديل الذي لا يقدم تحليلا فنيا مكتوبا للفيلم بشكل تقليدي ولكن بشكل بصري مصور في فيديوهات يظهر فيها مقدم المحتوى بنفسه أحيانا.
أحد مظاهر هذه الظاهرة أيضا هو الشاب التونسي عبد الرحمن الذي أنشأ قناة على اليوتيوب باسم "فينوكس" متخصصة في تحليل أفلام الرسوم المتحركة "المانجا" أو "الأنمي" حصريا، وتختلف عن غيرها في أنها تخاطب جمهور هذه الأفلام بشكل محدد، وفيها لا يخوض عبد الرحمن تجربة النقد بالشكل التقليدي بل يعدّ نفسه جزءا من القصة، يدور معها ويحاول فك غموض العلاقة بين شخصيات الفيلم، ويظهر عبد الرحمن في أستديو منزلي ذي خلفية زرقاء توحي كأنه جزء من قصة الفيلم.
أما الشاب محمد أبو سليمان فقد حوّل قناته "سينماتولوجي" على اليوتيوب إلى حلقات "بودكاست" مصورة يمزج فيها بين تقنية البودكاست والفيديو، فبعد أن كان يقدم محتوى بصريا تحليليا للأفلام والممثلين اتجه إلى أسلوب الحوار مع شخص آخر رافعا شعار "دردشة عن كل ما هو عظيم في السينما المصرية والعالمية"، وهي حلقات يقدمها يوم الجمعة من كل أسبوع. هذا بخلاف القنوات الأخرى التي ربما لا تحظى بعدد متابعين بعشرات الآلاف مثل هذه القنوات، ولكنها استطاعت أن تكون مصدرا مهما للجمهور لتقييم الأفلام ومعرفة أفضل الترشيحات للمشاهدة.
هناك مستوى آخر من النقد السينمائي يتعلق بريادة الحركة السينمائية وتوجيهها، فقد كان الناقد الراحل الدكتور سمير فريد مثلا شخصية موسوعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو من ألّف موسوعة "السينما في دول الاتحاد الأوروبي" في 4 أجزاء فضلا عن عشرات الكتب.
بين الصحافة الفنية والنقد السينمائي
ظهور مثل هذا الشكل الجديد للنقد السينمائي يدل بوضوح على الفراغ الكامن في الساحة السينمائية والفنية العربية لدور الناقد، فكثيرون ربما يرون في النقد السينمائي عنصرا نخبويا ترفيا غير ضروري في إطار صناعة الترفيه والمتعة التي توفرها الأفلام؛ فالأفلام تعدّ ملاذا آمنا بعيدا عن ضغوط الحياة والعمل، يلجأ الناس إليها وآخر ما يعنيهم هو ممارسة التفكير العميق في دلالات المشاهد والقصص. وبعد أن كانت أبواب النقد السينمائي الرصين وزواياه تملأ الجرائد والمجلات العامة والمتخصصة، طغت أخبار النجوم والفنانين وحلّت صحافة المشاهير وأخبارهم محل تحليلات الأفلام في خلط واضح بين مهمة الصحفي الفني ومهمة الناقد السينمائي.
وكأي عمل فني، يحمل أي فيلم زوايا نظر متعددة ويعتمد اعتمادا كبيرا على حاسة التذوق لدى المتلقي، ومهمة الناقد الرئيسة ليست إثبات صحة أو خطأ الفيلم أو أحد عناصره، وإنما تفكيك العمل الفني وتوضيح جوانب الجمال فيه وبيان عناصر النقص. والمشاهد يحتاج إلى هذا التحليل من حين لآخر، فهو ليس تحليلا معلوماتيا بقدر ما هو إضافة لمستوى آخر من المتعة لدى المتلقي عندما تتفتح أمامه جوانب أخرى من الجمال؛ تماما كما يحب عشاق كرة القدم الاستماع للأستديو التحليلي قبل المباريات وبعدها.
وهناك مستوى آخر من النقد السينمائي يتعلق بريادة الحركة السينمائية وتوجيهها، فقد كان الناقد الراحل الدكتور سمير فريد مثلا شخصية موسوعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو من ألّف موسوعة "السينما في دول الاتحاد الأوروبي" في 4 أجزاء فضلا عن عشرات الكتب، والأهم أنه كان من المبشرين بسينما جديدة جمالية تخرج من ربقة العنصر التجاري والارتهان لشباك التذاكر، وكان معبرا عن تيار فني يدعو لهذا الأمر منذ بداية السبعينيات. ورغم أن الظروف كانت أقوى منهم ولم يستطيعوا أن يبلغوا هذا الهدف المنشود عربيا، فإن فريد أرسى أسسا فكرية وفنية مهمة في مجال السينما العربية، كما كان حاضرا في تأسيس معظم المهرجانات السينمائية العربية، وجمع في ذلك بين الإنتاج الفكري والخبرة العملية في نشر الثقافة السينمائية.
غيّب الموت الدكتور سمير فريد وغيره مثل الناقد الراحل يوسف شريف رزق الله، وتركوا من خلفهم عصرا رقميا يشهد تحولات جذرية لا تقف عند حدود تغيير أنماط الإنتاج السينمائي ودخول أنماط جديدة غير مسبوقة، كمنصات العرض المدفوعة الثمن مثل "نتفليكس" وغيرها، بل تمتد إلى مصادر استقاء التحليل السينمائي والنقد. وليس سرا أن المنصات الرقمية أو قنوات اليوتيوب ليست مصدرا مهما للمشاهد وحده وإنما تعدّ مصدر تثقيف للعاملين في الحقل السينمائي من ممثلين ومخرجين ومؤلفين ومنتجين. ونحن هنا لا نقيّم مدى رصانة ما تقدمه من محتوى بقدر ما نكشف عن وجودها وتأثيرها الذي نشأ نشأة عفوية لحاجة جماهيرية ماسّة غابت عن وسائل الإعلام فابتكرها غير المتخصصين باستخدام وسائل عصرية جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.