الحظر الأوروبي للنفط الروسي.. عقوبات في الاتجاه المعاكس
بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من المحادثات والمفاوضات وسط الحرب المستمرة في أوكرانيا، وافق أعضاء الاتحاد الأوروبي على فرض حظر تدريجي على صادرات النفط الروسية المتجهة إلى أوروبا، ويشمل الحظر النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية التي يستقبلها الاتحاد الأوروبي عبر البحر، ويُستثنى النفط المتدفق عبر خطوط الأنابيب من الحظر. يصل نحو 65% من صادرات النفط الروسية إلى أوروبا عن طريق ناقلات النفط البحرية، في حين تتدفق باقي الصادرات عبر خط أنابيب "دروجبا" (Druzhba).
استبقت روسيا قرارات الحظر الأوروبية منذ اليوم الأول في الحرب، وتمكنت من تحويل غالبية صادرات النفط التي تجنبتها أوروبا إلى الأسواق الآسيوية، وساعدها في تلك الخطوة أن أسواق النفط العالمية تتميز بالمرونة وسهولة الشحن من موقع لآخر بعكس أسواق الغاز المسال، مما أسهم في أن يشق النفط الروسي طريقه بسهولة إلى أماكن أخرى غير الأسواق الأوروبية
في الوقت نفسه، منح الاتحاد الأوروبي استثناء مؤقتا من الحظر للدول التي تعتمد بشكل كبير على النفط الروسي ولا تستطيع توفير بدائل في المدى القريب، ويشمل الاستثناء كلا من المجر والتشيك وسلوفاكيا، بحيث تواصل الدول الثلاث استقبال النفط الروسي عبر خط أنابيب دروجبا، بينما تعهدت ألمانيا وبولندا بوقف شراء الخام الروسي من خط دروجبا بحلول نهاية العام الجاري. وبناء على ذلك، فإن الحظر التدريجي من المفترض أن يُمكّن أوروبا من الاستغناء عن 65% من واردات النفط الروسية خلال الشهور القادمة، وسترتفع هذه النسبة بحلول نهاية عام 2022 إلى نحو 90%.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا كان هناك زخم متزايد ونقاش متواصل حول قدرة الاتحاد الأوروبي على حظر النفط الروسي والخسائر المتوقعة داخل أوروبا والانعكاسات على أسواق النفط العالمية، وبدا خلال هذا النقاش أن ثمة فرضية قد تخطاها الجميع باعتبارها حقيقة بشأن خسائر روسيا الكبيرة من الحظر الأوروبي، في حين يبدو الآن وبعد موافقة الاتحاد الأوروبي على حظر النفط الروسي أن الهدف الرئيسي للقرار المتمثل في محاصرة صادرات النفط الروسية ومنع موسكو من تحصيل إيرادات صادرات النفط الضخمة والتي تغذي آلة الحرب الروسية في أوكرانيا؛ يحتاج إلى مزيد من النقاش الموضوعي للتأكد من تحقيق واشنطن وأوروبا الهدف من الحظر دون أن تكون هناك عواقب مؤثرة على الاقتصاد الأوروبي والعالمي.
النفط الروسي وطريق ممهد نحو الأسواق الآسيوية
صدرت روسيا في عام 2021 حوالي 3.1 ملايين برميل يوميا من النفط الخام إلى أوروبا، بالإضافة إلى 1.3 مليون برميل يوميا من المنتجات البترولية، وتشكّل الصادرات الروسية حوالي 30% من إجمالي صادرات النفط الخام إلى أوروبا، وتوفر هذه الكميات نحو 18% من احتياجات أوروبا من النفط. في حين يصل متوسط إنتاج روسيا اليومي من النفط الخام والمنتجات البترولية نحو 10 ملايين برميل؛ وهذا يعني أن أوروبا وحدها تشتري حوالي نصف الإنتاج الروسي من النفط، وبمعنى آخر، فإن عائدات النفط التي تحصلت عليها روسيا من أوروبا خلال عام 2021 تناهز 90 مليار دولار (250 مليون دولار يوميا).
استبقت روسيا قرارات الحظر الأوروبية منذ اليوم الأول في الحرب، وتمكنت موسكو من تحويل غالبية صادرات النفط التي تجنبتها أوروبا إلى الأسواق الآسيوية، وساعدها في تلك الخطوة أن أسواق النفط العالمية تتميز بالمرونة وسهولة الشحن من موقع إلى آخر بعكس أسواق الغاز المسال؛ مما أسهم في أن يشق النفط الروسي طريقه بسهولة إلى أماكن أخرى غير الأسواق الأوروبية. علاوة على ذلك، ساهمت التخفيضات الكبيرة التي قدمتها موسكو لتسهيل مبيعات صادراتها النفطية للدول غير الأوروبية في العثور على منافذ جديدة، إذ بلغ الفارق بين النفط الروسي وخام برنت أكثر من 30 دولارا للبرميل، أي أن التخفيضات الروسية بلغت ما بين 25% و30% من أسعار النفط العالمية في الشهور التي تلت الحرب.
في حين كان من النادر جدا أن تستقبل الهند صادرات النفط الروسية، قفزت واردات الهند من صفر في فبراير/شباط الماضي إلى ما يناهز 627 ألف برميل يوميا من النفط الروسي في أبريل/نيسان السابق. وارتفعت واردات الصين من النفط الروسي من 700 ألف برميل يوميا في فبراير/شباط الماضي إلى ما يقارب مليون برميل يوميا حاليا.
انعكست زيادة صادرات النفط الروسي إلى كل من الصين والهند على العائدات التي حققتها روسيا في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، والمفارقة المثيرة هنا أن روسيا حققت أرباحا تجاوزت أرباحها في الفترة نفسها من العام الماضي بحوالي 50%، ومن المتوقع إذا استمرت روسيا على هذا النحو من الصادرات أن تبلغ عائداتها من صادرات النفط والغاز معا في عام 2022 حوالي 320 مليار دولار، في حين بلغت عائداتها في عام 2021 نحو 235 مليار دولار.
الخلل المتوقع في ميزان العرض والطلب سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وضعف احتمالات انخفاض الأسعار في المدى القريب
تشير هذه الأرقام إلى أمرين لافتين: ظلت تدفقات صادرات النفط الروسية المحمولة بحرا مستقرة إلى حد كبير بعد تحولها عن بعض المستوردين الرئيسيين في الأسواق الأوروبية خلال فترة الحرب. في الوقت نفسه، كان من الواضح أن الأسواق الآسيوية لديها القدرة على استيعاب أحجام كبيرة من النفط الروسي الذي كان من المفترض أن يتجه إلى أوروبا.
ويبقى التحدي الرئيسي أمام روسيا هو مدى قبول كبار موردي النفط لآسيا، وعلى رأسهم السعودية، بعدم منافسة النفط الروسي منخفض الأسعار، وهو الأمر الأكثر ترجيحا، إذ من المتوقع أن تقوم المملكة وباقي دول الخليج بتبادل أدوار مع روسيا والتوجه نحو الأسواق الأوروبية لتعويض النفط الروسي، نظرا لرغبة السعودية في الحفاظ على علاقتها القوية مع موسكو، ومن ثم الإبقاء على "أوبك بلس" (OPEC+) كتحالف متماسك قادر على ضبط أسعار النفط العالمية.
معادلة العرض والطلب دائما في صالح روسيا
نظرا لأن أسواق النفط في الوقت الحالي تعاني من تقلبات بسبب الأوضاع التي تسببت فيها الحرب الروسية الأوكرانية، فإن تخفيض الإنتاج بكميات ضئيلة من أحد أكبر منتجي النفط الدوليين سيؤدي إلى تعرض أسواق النفط لنقص في العرض، إذ تشير بعض التقديرات إلى فقد مليون برميل نفط يوميا من الإنتاج الروسي بسبب قرار الحظر الأوروبي.
في الجانب الآخر، كان الإغلاق العام الذي فرضته بكين على مدينة شنغهاي خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين، قد تسبب في خفض الطلب الصيني على النفط، مما أدى إلى كبح جماح ارتفاع أسعار النفط إلى حد كبير؛ ولكن مع إعلان الصين انتهاء الإغلاق في بداية شهر يونيو/حزيران الجاري، فمن المرجح أن يزداد طلب بكين على النفط بنسبة 4% على أساس سنوي، بحيث تضيف زيادة قدرها 600 ألف برميل نفط يوميا إلى صادراتها في النصف الثاني من عام 2022.
لذلك، فإن الخلل المتوقع في ميزان العرض والطلب سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وضعف احتمالات انخفاض الأسعار في المدى القريب. تقودنا معادلة العرض والطلب القائمة إلى أنه على الرغم من التراجع الضئيل المتوقع للصادرات الروسية وبيعها للنفط بأسعار منخفضة؛ فإنه مع ذلك ستستفيد موسكو من ارتفاع أسعار النفط بالقدر الذي يحقق عائدات تقترب من تلك المخطط لها قبل بداية الحرب.
وبناء على ما سبق، فإن القرار الأوروبي بحظر النفط الروسي والذي بدا أنه تأخر أكثر من اللازم، لن يستطيع شلّ روسيا ماليًا أو التسبب في خسائر كبيرة لعائدات صادراتها النفطية، إذ ستتمكن موسكو بسهولة من إيجاد مسارات أخرى بديلة للتصدير في المدى القريب والمتوسط، بالإضافة إلى الحفاظ على عائداتها من الصادرات النفطية في ظل الأسعار المرتفعة، مما سيجعل الحظر الأوروبي محدود التأثير. والأهم من ذلك أنه كما أظهر قرار حظر النفط الروسي نجاح دول الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق سياسي؛ فإنه كشف أيضا حجم الصعوبات التي يواجهها الغرب لمعاقبة روسيا على الحرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.