تركيا.. قصة الصعود والطموح

Turkish President Recep Tayyip Erdogan
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وكالة الأناضول)

تركيا تلك الصاعدة بوتيرة لافتة والحاضرة بقوة إقليميا ودوليا وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والصناعية والثقافية وغيرها.. لها قصة تعاف وتنامٍ وصعود كُتب عنها الكثير.

وفي هذه القصة الكثير من العبر والدروس من دولة ذات تاريخ عريق وماض قريب فيه الكثير من المعاناة والمصاعب، فتحولت من دولة مَدينة إلى دولة دائنة، ومن حال اقتصادي متواضع إلى دولة موجودة بثبات ضمن قائمة الدول الـ20 الأقوى اقتصاديا، وما زالت تتقدم بفعالية لا يمكن إنكارها مع كل ما يترتب على ذلك التنامي الاقتصادي والحضور القوي من تبعات.

وما ينبغي النظر إليه بعمق هو ما خلف تلك الصورة وما يترتب عليها، وما قد تستتبعه من تفاعلات، وما تفرضه من مطامح، وما قد يعوقها من مخاطر وتهديدات، والنظر فيما لذلك من تداعيات تتجاوز بآثارها الحيز الجغرافي لتركيا، وربما ينعكس بالكثير على الإقليم، وخصوصا أن النظام الدولي يمر بمخاضات عسيرة تجعل العالم يئن وهو يكابد تفاعلاته الحادة، ويقاسي من تناقضاته في عدة ميادين.

الرجل حقق زعامته عبر تواصل دافئ مع مختلف شرائح الشعب وفي كل أرجاء تركيا، وقدم لمحافظاتها ما يحقق تنمية شاملة، والبداية كما الاستمرارية كانت بتقديم رؤية ملهمة، وباستنهاض الشعب خلفها، وحشد الطاقات حول أداء مثابر يضع الخطط، ويحدد المواعيد ويلتزم بها

لقد أرسى الرئيس أردوغان رباعيته الوطنية "شعب واحد وعلم واحد ووطن واحد وجيش واحد" بأداء مثابر ونهج دؤوب قدم نموذجا مميزا من الزعامة والقيادة جعل الكثيرين يستعيدون مقولة "أتعب من بعده"، وقد حقق ذلك برباعيته التي التزم بها، وهي: "رؤية وطنية، وتخطيط طموح، وأداء مثابر، وتواصل نشط"، وقد أشاد ذلك على مفهوم متطور للعلمانية المتفهمة لكل شرائح الشعب والتي سمحت للمجتمع التركي بإطلاق طاقاته، وتحييد إمكاناته عن صراعات الهوية والتغريب، وزجها كلها في ملحمة وطنية نقلت تركيا إلى صدارة الدول الصاعدة، وما يهمنا هنا هو ما خلف هذا المشهد الكبير.

إذ إن أردوغان ليس بسلطان وليس بإمبراطور، وليس قائدا عسكريا، ولم يأت بالقوة التي فرضت سلطاته كأمر واقع، وبالتالي فكل ما ينسب إليه من إنجازات وتحديثات سياسية وفكرية اقتصادية هي حقائق تُسجل للرجل، إلا أنها في الوقت ذاته هي إرادة شعب، ولولا انخراط ذلك الشعب في ماكينة الصعود لما كانت تركيا على ما هي عليه اليوم.

فالرجل حقق زعامته عبر تواصل دافئ مع مختلف شرائح الشعب وفي كل أرجاء تركيا، وقدم لمحافظاتها ما يحقق تنمية شاملة، والبداية كما الاستمرارية كانت بتقديم رؤية ملهمة، وباستنهاض الشعب خلفها، وحشد الطاقات حول أداء مثابر يضع الخطط، ويحدد المواعيد ويلتزم بها، وكل ذلك قد تجددت الثقة به عبر عدة انتخابات حرة نجح فيها كلها، ومن هنا ينبغي سبر الواقع التركي واستقراء مستقبله القريب.

وكما قيل عن نموذج أردوغان في الحكم والقيادة، فقد قيل الكثير كذلك عن أنه من رؤوس "العثمانيين الجدد"، ولكن ذلك لم يمنع من يكره خلفيته الدينية من إعادة انتخابه لأنه خيار وطني ومصلحة وطنية، ومن هنا نجد من يقول بأن النموذج العلماني الدافئ الذي يقدمه أردوغان، ورغم ترديده الكثير من المفردات ذات الخلفية الدينية، فإنه رجل الدولة الذي حافظ على وطنيته، وراعى أنه رأس الدولة ككل، وأنه اختيار الشعب لصالح كل الشعب دون تحيز أو إقصاء.

وأن هذه الحقبة هي في عمقها استنهاض وطني ونموذج عصري للأتاتوركية بوعي جديد لمتطلبات العصر ولطبيعة المجتمع التركي ذاته، إذ يُجمع الأتراك على أن أتاتورك هو باني الدولة التركية، وأنه قد قدم نموذجا فريدا من البسالة الوطنية والقرارات الشجاعة وفقا لمقتضيات بناء الدولة وقيامة الوطن في عصره، ويرون في أداء أردوغان مسيرا على الخطى ذاتها، إذ إنه يجمع الاعتداد الوطني مع المرونة السياسية والصلابة في مواجهة التحديات والشجاعة في الإقدام على فعل ما يلزم المجتمع ليبقى مجتمعا متماسكا في إطار دولة قوية.

ومن هنا تأتي زعامة أردوغان المديدة ونجاحه في حشد ما يكفي خلف وطنيته التي يكرر التأكيد عليها، والتي أدهش الداخل والخارج في قدرته على إبقاء التفهم الشعبي لها ولتقبل أدائه والصبر معه، رغم كل ضغوط التضخم ورغم تبعات الوضع الإقليمي والدولي على الاقتصاد والحياة اليومية.

ويدلل أصحاب هذا الاتجاه على صحة قراءتهم بثلاثة أمور: أولها سقوط العديد من الانقلابات العسكرية التي ارتكزت في أدائها على ظاهر القرارات التي تبناها المؤسس أتاتورك، ولم تدرك ما وراءها وما دعاه إليها كرجل دولة وقائد أمة في عصر ينذر بالحروب العالمية وينزلق نحو تحولات كبرى. وثانيها هو أن شريحة لا بأس بها ممن تُكرر انتخاب أردوغان هي في حقيقتها شريحة ذات وعي وطني وإن كانت ذات خلفية لا تتبنى التدين، وثالثها وربما يكون الأهم هو أن حوالي 70% من شهداء إسقاط الانقلاب الأخير لم يكونوا من عناصر الحزب الحاكم، وهذا أكبر دليل بنظرهم على أن الوقفة ضد الانقلاب كانت وقفة مع هوية الحكم الديمقراطية وتركيبته الوطنية أكثر مما كانت انتصارا للحاكم بشخصه وحزبه.

وتكتسي هذه المقاربة بعدا خاصا وتركيا على أعتاب استحقاق انتخابي جديد مختلف في سياقاته وأجوائه واستعدادات الجميع له، ومختلف في إرهاصاته وفي الألغام السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بها، ويترافق مع بروز نزعات للحس القومي تبدي نزقا إعلاميا وتفرز شحنا للأجواء بأبعاد عنصرية، وهنا يستدعي القارئون لبواطن الأمور ما يرونه بخلاف ما يبدو على السطح.

إذ يرون في التفاعلات الحالية إرهاصات بلورة لشخصية وطنية جامعة خلف القيم الأتاتوركية التي بنت دولة وحمت شعبا وأخرجته من أتون حروب كبرى، ويتعزز لهذه الشخصية الوطنية وئام هوياتي يؤطر المواطنة في تركيا وينأى بها عن التنافس البرامجي بين القوى السياسية المحافظة والقومية والعلمانية واللبيرالية، ويبتعد عن أن تكون صراعا على الهوية وعلى تأطير المجتمع أو تنميطه.

كما يرون في المشهد الحالي تأكيدا لهذا التنامي وافتراقا عن معارضتين: الأولى لها هواجسها من النظام الرئاسي فيما بعد أردوغان، والثانية تريد انتزاع النظام الرئاسي من أردوغان، وهي تلتقي على معارضة إعادة انتخاب أردوغان رئيسا للمرة الثانية في النظام الرئاسي بنسخته الحالية.

ويرون ضعفا في أداء المعارضة التي تكاد لا تأتلف على ما سوى إزاحة أردوغان، رغم إرثه الكبير والكاريزما التي يتمتع بها، دون بلورة خيارات أقرب لوجدان الشعب تتغلب على تلك التي عهدها من الرئيس الحالي لأكثر من 20 سنة، ومن هنا سيسفر المشهد عن تنامي لشريحة أوسع من الوطنيين الذين يقيمون الأمور والبرامج من منظور بناء الدولة أكثر من التصلب على خيارات بعينها، وسيكون للرئيس أردوغان عهدته الرئاسية الثانية رغم كل المناكفات، ورغم كل ما يطفو على سطح الإعلام الجديد من انغلاق هوياتي وخطاب عنصري.

ولكن هذه المقاربة سابقة لأوانها ويكتنفها ما يكتنف كل الاستحقاقات الانتخابية من مفاجآت كلما اقتربت من لحظة الحقيقة، ويرون أن الرهان الحقيقي هو على النموذج الجديد من الوعي القومي التركي الذي يتصالح مع منطق الدولة ويتفهم مقتضيات صعودها وصمودها في عالم الكبار، ويقدم نموذجا متصالحا مع الآخر، ومحافظا في الوقت ذاته على إرثه واعتزازه بتاريخه وأمجاده، ويقتحم المستقبل ببسالته التي عرف بها، والطموح بالوعي السياسي بذلك، وببراعة التعامل معه.

ولا يستبعدون في الوقت ذاته أن يقدم أردوغان لشعبه ووطنه مفاجأة جديدة تخلط الأوراق وتعيد رسم المشهد وتمهد لرسم المستقبل حين يعد شعبه بالعمل في رئاسته الثانية على خيارات دستورية جديدة، ليقدم لتركيا نموذجا رئاسيا مطورا من النسخة الحالية، وهو الذي اعتاد أن يبادر ويُقدم على الخيارات الصعبة ببسالة، ويضيف لسجله الحافل علامة جديدة في نموذج الحكم الذي لا يتثاءب رغم السنين والتحديات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان