الدول لا تذهب إلى الجنة.. ولكن صناع القرار يفعلون

blogs قيس بن سعيد
الرئيس التونسي قيس سعيد (رويترز)

أثار الحديث السابق للرئيس التونسي قيس سعيد عن وضع الإسلام من مسودة الدستور التونسي المنتظر جدلا واسعا داخل تونس وخارجها، إذ عبّر الرئيس التونسي بأكثر من صيغة وفي أكثر من مناسبة عن نقطة جوهرية: الإسلام دين الأمة "التونسية" وليس دين الدولة. الأمر الذي يمثل إشارة واضحة إلى استهداف المادة الأولى من دستور 2014 الذي ينص على أن دين الدولة التونسية هو الإسلام.

كانت الحجة الرئيسية للرئيس التونسي كالتالي: الدولة شخص اعتباري، مجرد تصور يمكن الدولة من الفعل القانوني. وكونها شخصا اعتباريا، فلا يمكن أن يكون للدولة دين. فالدول لا تدخل الجنة أو الجحيم على حد تعبيره. من المصادفات المثيرة للاهتمام، على الأقل بالنسبة لي، أن كتابي الأول الذي نشر في 2013 باللغة الإنجليزية كان عنوانه: "الدول لا تذهب إلى الجنة: نحو نظرية للفاعلية الإسلامية في العلاقات الدولية". لا شك لدي في أن سيادة الرئيس لم يقرأ كتابي، وفي كل الأحول لا أتوقع أن ينال إعجابه، وذلك لسببين: أولا أن الكتاب ينطلق من مقاربات متجاوزة للبعد القانوني للدولة، ثانيا أن الحجة الرئيسية للكتاب تضع عبئا أخلاقيا وشرعيا ثقيلا على الرؤساء وصناع القرار.

هل تستطيع الدولة التونسية، بوصفها شخصا اعتباريا، الاختيار بين المشاريع ومقابلتها بالقبول والرفض؟ وعلى أي أساس؟ إن قلنا إنه يمكنها ذلك لأن الإطار المؤسسي والقانوني يعكس قيم المجتمع، إذن لماذا لا يعكس دينه أيضا؟

نعم الدول لا تذهب للجنة أو الجحيم، ولكن صناع القرار يفعلون. نعم الدولة شخص اعتباري، ومن ثم لا يمكن الحديث عن المسؤولية الأخلاقية والشرعية للدولة، ولكن ماذا عن الشخص الطبيعي المتموضع في الإطار المؤسسي والقانوني الذي يمثل "جسد" هذا الشخص الاعتباري؟ ألا يفضل هؤلاء أن يكون ذاك الإطار المؤسسي والقانوني أقل تقييدا لسعيهم نحو تحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والشرعية؟ فصناع القرار في النهاية جزء من الأمة التي يرى الرئيس قيس سعيد أنها محل الدين والتدين به. هم وكلاء عنها مفوضون، ضمن أمور كثيرة، للتعبير عن مصالحها السياسية والاقتصادية وهويتها الثقافية من خلال مشاريع جماعية تستلزم حشد وتوجيه الموارد في إطار مؤسسي وقانوني.

المشكلة عندما لا تتوافق المشاريع الجماعية مع الإطار المؤسسي القانوني لتفعيلها وحملها من خلال القوة السببية التي تتمتع بها الدولة. في القلب من هذا كله صانع القرار الذي يفترض أن يعمل على التنسيق بين المشاريع الجماعية من جهة، وبين ما يسمح به الإطار المؤسسي القانوني للدولة من جهة أخرى. عادة تكون المشاريع الجماعية هي الحلقة الأضعف، أي أن تلك المشاريع يجب أن توافق الإطار المؤسسي والقانوني وليس العكس. هنا من المهم توضيح ما أقصده بالمشاريع الجماعية: تلك الأفكار التي تلهم المجتمع والدولة للانخراط في عمل جماعي يتطلب تخطيطا وتنفيذا لتحقيق هدف ما.

هذا الهدف قد يكون حلا لمشكلة عامة، أو سد حاجة جماعية، أو رؤية مستقبلية، قد يكون الهدف مرتبطا بإصلاح اجتماعي، أو تحسين النسيج القيمي للمجتمع، أو تطويرا ماديا، أو حتى تعزيزا للأمن الإقليمي. بشكل أكثر تفصيلا قد يكون المشروع الجماعي خاصا بحقوق المثليين (إصلاح اجتماعي) أو مبادرة لنشر أخلاق الإسلام (تحسين النسيج القيمي للمجتمع) أو جذبا للاستثمارات الصينية لبناء وإدارة الموانئ (تطوير مادي) أو اتفاقية سلام مع إسرائيل (تعزيز الأمن الإقليمي).

الآن هل تستطيع الدولة التونسية، بوصفها شخصا اعتباريا، الاختيار بين تلك المشاريع ومقابلتها بالقبول والرفض؟ وعلى أي أساس؟ إن قلنا إنه يمكنها ذلك لأن الإطار المؤسسي والقانوني يعكس قيم المجتمع، إذن لماذا لا يعكس دينه أيضا؟ خاصة عندما يعتقد جزء كبير من المجتمع أن الدين المصدر الأساسي للقيم. وإن قلنا إن رفض المثلية الجنسية والتطبيع مع إسرائيل، على سبيل المثال، بعد أن فتحت الدولة أبوابها لهم، هي مهمة المجتمع وليس الدولة، فنحن نحمل المجتمع ما لا يستطيع: أن يقاوم مشاريع قيمية ذات أبعاد سياسية واقتصادية تدعمها دول ومنظمات حكومية وغير حكومية دون دولة تدعمه.

في الحقيقة من الصعب اليوم الحديث عن مشاريع جماعية محلية خاصة عندما يتعلق الأمر بدول صغيرة شكلت هوياتها الحديثة في إطار عملية القبول السياسي والاجتماعي في المجتمع الدولي، خاصة تلك التي ما زالت تقبع في مناطق نفوذ ثقافي لقوى دولية. فأغلب المشاريع الكبرى تأتي من الخارج ومعها تبريراتها القيمية التي تسبق عادة الموارد المادية اللازمة لتنفيذها سواء على شكل مساعدات أو استثمارات، حتى تكون الأرضية الثقافية معبّدة لها.

بالطبع هناك طرق مختلفة للتخلص من عبء أصالة المشاريع الجماعية التي يلهمها الإسلام بوصفه دينا حاكما للأخلاقيات العامة، أسهلها وأشهرها وأكثرها قبولاً في العالم اليوم هو الحديث عن الدين والإسلام تحديدا بوصفه عقيدة شخصية، وبالتالي تهميشه كمصدر للمنطلقات القيمية للمشاريع الجماعية.

يحسب للرئيس قيس سعيد أنه لم يسر في هذا الطريق السهل المزدحم بكثير من أفراد النخب السياسية والثقافية العربية، بل تحدث عن الأمة التونسية كمحل للتدين بالإسلام، وأن الدولة تحقق مقاصد هذا التدين. فالحديث عن الأمة هنا يفترض أن الإسلام يتجاوز العقيدة الشخصية وإرشاد السلوك الأخلاقي الفردي ليجعل من الأمة مرجعية أخلاقية وتحليلية له. أي أن الإسلام لا يعود للأفراد فقط، بل يعود للجماعة وشؤونها وقيمها وهويتها وكل ما ينبثق عن التفاعل بين الأفراد في المجتمع التونسي ليشكل بعدا جماعيا متجاوزا للأفراد من سمات واحتياجات ومصالح ومقاصد.

أرى أن هذه ليست معادلة سيئة تماما، إن صحت ملاحظتها في الفكر والواقع التونسي والعربي بشكل عام. فالركون إلى عبارات مثل "دين الدولة الإسلام" أو "الشريعة الإسلامية (المصدر رئيسي للتشريع)" أنتج نوعا من أنواع الكسل المجتمعي في التعامل مع سعة الإسلام وأبعاده القيمية والاجتماعية. حيث أصبحت هذه العبارات وكأنها نوع من أنواع التخلص من العبء الإسلامي، ولكن هذه المرة من المجتمع نحو الدولة.

ومن ثم فإن تلك المعادلة تحمل إمكانات إنتاج موازنة مقبولة في حمل شرف التدين بالإسلام بين الدولة والمجتمع، ولكن هذا يتطلب عدة أمور، من بينها:

أولا، أن يعكس هذا في الدستور، أن يذكر أن "الإسلام دين الأمة التونسية" أو "الشعب التونسي جزء من الأمة الإسلامية"، وأن "الدولة التونسية تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام". هذا مهم لاستقرار الذاكرة التونسية، وبالتالي هويتها في عالم يزدري الهويات ليس الجماعية فقط بل بشكل متزايد الفردية أيضا.

ثانيا، أن يعكس الدستور مستوى عاليا من الحريات تسمح بالعمل الجماعي غير الحكومي لتمكين المجتمع من تحمل مسؤولياته في التحلي بالتدين وتجسيد مقاصد الإسلام وقيمه في المجال العام. إذا كانت الدولة تريد أن تلقي بالجزء الأكبر من التدين على الأمة، فمن البديهي أن يضمن الدستور مساحة واسعة لهذه الحركة المجتمعية التي تعبر من خلاها الأمة التونسية عن نفسها، خاصة وأن منطلق هذه الحركة كما يقترح الرئيس التونسي هو المقاصد وليس الأحكام الجزئية، على سبيل المثال، والمقاصد تتطلب مساحة اجتماعية وثقافية واسعة لملاحظتها، ومن ثم ينبغي أن تمكّن الأمة التونسية من تلك المساحة.

ثالثا، وعلى مستوى الواقع، من المهم التعامل مع المقاصد بجدية، فالمقاصد في الشريعة الإسلامية وإن كانت تقدم مساحة معتبرة للحركة السياسية والمجتمعية كما ذكرنا، إلا أن سعتها ومرونتها لا ينبغي أن تستغل لتكون مجرد بوابة للإدماج في ثقافة استهلاكية سطحية أو مجرد إطار خاوٍ تملؤه بما تريد حتى لا تتحول هذه المقاصد لنسخة مهترئة من قيم الجمهورية الفرنسية مثلا. هنا يأتي دور النخبة الثقافية والفقهية والقانونية والسياسية التي قد تجد نفسها في موقع بين تفعيل المقاصد الإسلامية وبين ضغوط دولية لامتطائها وتوجيهها. باختصار فإن معادلة: الأمة والمقاصد تعمل فقط إذا تحمّلت النخب وصناع القرار، الأشخاص الطبيعيون وليس الاعتباريين، مسؤولياتهم الأخلاقية والشرعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.