معاناة الغرب والشرق مع أفكار السيناريو

film-belfast فيلم بلفاست Belfast
فيلم "بلفاست" الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي لعام 2022 (مواقع التواصل)

يحمل الطفل -الذي يدعى- بادي لعبتي السيف والدرع بينما يلهو مع أصحابه في أحد أزقة مدينة بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية. ولا يفهم الطفل ذو السنوات التسع ما الذي يدور حوله حين تندلع اشتباكات دامية بين جيرانه البروتستانت والكاثوليك، الذين كانت تحفهم السكينة قبل اشتعال الحرب الأهلية هناك عام 1969. وعلى وقع أصوات تهشيم النوافذ وصراخ الضحايا، يعيش بادي عالما طفوليا موازيا ساحرا ويتعامل مع الحرب وكأنها لعبة. يرفض والده خوض أتون المعارك ويركز على حماية عائلته. لكنه يضطر للسفر إلى إنجلترا، سعيا وراء لقمة العيش وتسديد الديون، ويترك وراءه الأسرة الكبيرة. إنه فيلم أشبه ما يكون بسيرة ذاتية شخصية بالأبيض والأسود لمخرج ومؤلف فيلم "بلفاست" (Belfast) البريطاني كينث براناه الذي حاز على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي هذا العام.

فيلم بلفاست Belfast
في فيلم "بلفاست" يحمل الطفل بادي السيف في أحد أزقة مدينة بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية (مواقع التواصل الاجتماعي)

يمزج الفيلم بين ما هو شخصي وذاتي وما هو تاريخي وديني وسياسي، وهي خلطة ربما نجحت هذه المرة في اقتناص واحدة من أهم الجوائز في العالم. غير أنها تعبير عن نوعية الأفكار التي تملأ الساحة السينمائية خلال الفترة الماضية والتي تتمحور بشكل عام حول اللجوء إلى التاريخ أو السياسية أو إعادة إنتاج أفكار قديمة من أجل المضي قدما بالسيناريو نحو مرحلتي الإخراج والتوزيع وتحقيق الأرباح. وهي تعبير عن أزمة كبرى، يدق كثيرون ناقوس الخطر بسببها، وهي مشكلة غياب أفكار السيناريو الجيدة. وهذا الأمر يشمل أفلام هوليود وغيرها من مراكز الثقل الإنتاجي السينمائي في الدول الغربية، حتى أن هناك إحصاءات تكشف عن دورة تكرار أفكار الأفلام كل 23 سنة. وهناك قصص أفلام أعيدت 5 مرات مثل أفلام "روبن هود" و"أوليفر تويست" و"جين آير" و"ملايين بروستر".

والأزمة لا تتعلق بحجم الأموال المتدفقة على هذا القطاع، فلو كان المال يشتري الأفكار والإبداع لكانت ملايين هوليود وشركات الإنتاج الغربية قادرة على شراء أفضل السيناريوهات للأفلام، ولكن الحقيقة خلاف ذلك. إن قريحة كاتب السيناريو تحتاج إلى ثقافة وخبرة ورؤية للحياة وحلم يتمخض عنها جميعا نص أدبي يحوله المخرج إلى قصة بصرية، وبعد هذا يحتاج إلى إتاحة الفرص والتجريب. وهي أشياء لا تُشترى لأنها نتيجة مناخ عام وثقافة متراكمة.

الأمر وصل إلى تقليد الأفلام العربية أفلاما مكررة أصلا، أي تكرار التكرار، مثل فيلم "عريس من جهة أمنية" المقتبس من الفيلم الأميركي "والد العروسة" الذي أنتج عام 1991، والفيلم الأميركي نفسه مقتبس من فيلم أميركي آخر يحمل الاسم نفسه أنتج عام 1950. وفيلم "الإمبراطور" مقتبس من الفيلم الأميركي "سكارفيس"، وهو أيضا مقتبس من فيلم أميركي قبله بعقود يحمل العنوان نفسه.

وحقيقة الفقر في الأفكار الجديدة للسيناريو لا ينكرها القائمون على هذه الصناعة هناك، وهم يتقاذفون كرة الاتهامات؛ بين من يلقي باللائمة على شركات الإنتاج التي تضع عينها دائما على شباك التذاكر من دون أي اعتبار لجودة العمل الفني أو القصة وعدم رغبتها في خوض غمار أي تجربة غير مضمونة الربح، وبين من يتهم المؤلفين الجيدين بأنهم عزفوا عن هذه الصناعة.

ويبدو أن للمشكلة جذورا في مقر إنتاجي بارز مثل هوليود، إذ كتب المؤلف وأستاذ السيناريو الأميركي سيد فيلد -في مقدمة كتابه "السيناريو" عام 1979- كيف أنه قضى عدة سنوات في فحص السيناريوهات المقدمة لشركة الإنتاج "ديفيد ولبر" وأن 99% منها كانت غير صالحة للعرض. جمع فيلد بين الخبرة العملية في الإنتاج، والخبرة النظرية في تدريس مادة السيناريو في كلية "شيروود أوكس" في هوليود، وألف كتابه هذا الذي يعد مرجعا هاما في كتابة السيناريو وتُرجم للغة العربية. وهو أحد المصادر المهمة التي تكشف عن حجم أزمة السيناريو التي لم تجد حلا جذريا لها حتى الآن.

أزمة السيناريو العربي

ولأن أفلام هوليود وكثيرا من الأفلام الغربية تُعرض في العالم العربي، فإن تأثيرها على المشاهد العربي لا مفر منه. ففقر الأفكار وتكرارها يؤثر على ذائقة الجمهور، كما أنه يؤثر أيضا على صانعي الأفلام العرب الذين ينظرون بعين التبجيل والاحترام والتعلم للتجربة الغربية في صناعة الأفلام. وتعد المرجع الفني بالنسبة للعديد منهم؛ فكثير من المخرجين العرب في السنوات الأخيرة اتجهوا للاقتباس من الأفلام الغربية مباشرة من دون حتى فاصل زمني كبير بين الفيلم الأصلي والفيلم المقلَّد.

ففيلم "رسالة إلى الوالي" مقتبس من الفيلم الفرنسي "الزائر"، وفيلم "الحرب العالمية الثالثة" مقتبس من الفيلم الأميركي "ليلة في المتحف". ووصل الأمر إلى تقليد الأفلام العربية أفلاما مكررة أصلا، أي تكرار التكرار، مثل فيلم "عريس من جهة أمنية" المقتبس من الفيلم الأميركي "والد العروسة" الذي أنتج عام 1991، والفيلم الأميركي نفسه مقتبس من فيلم أميركي آخر يحمل الاسم نفسه أنتج عام 1950. وفيلم "الإمبراطور" مقتبس من الفيلم الأميركي "سكارفيس"، وهو أيضا مقتبس من فيلم أميركي قبله بعقود يحمل العنوان نفسه.

وبعيدا عن الجدل الأخلاقي ونقاشات الملكية الفكرية بشأن حدود الاقتباس، فإن هذا التكرار في الاقتباس كاشف عن أن أزمة مشابهة لأفكار السيناريو السينمائي موجودة في العالم العربي. وجذور الأزمة في العالم العربي مختلفة عنها في الغرب. وفي تقديري ترتبط بعدة عوامل:

  • أولها: النظرة للسيناريست؛ إذ يُقبِل كل من يدخل المجال السينمائي على قطاع التمثيل ثم الإخراج، سعيا وراء النجومية والوجاهة، ومن ثم المكانة والربح.
  • ثانيا: محاولة حل مشكلة أفكار السيناريو بمشكلة أكبر، وهي إنشاء ما يسمى "ورش السيناريو" التي تتمثل في القيام بكتابة سيناريو جماعي يضمن الحدود الدنيا التقنية للسيناريو للدفع به إلى التنفيذ وهو خال من بصمة المؤلف، وشديد التباين في لغته وأجزائه؛ مما ينعكس على شعور الجمهور وإحساسه به.
  • ثالثا: نخبوية القطاع الفني في العالم العربي بشكل عام، فهو غير مستعد للانفتاح على السواد الأعظم من سكان القرى والبوادي والمناطق النائية رغم أن خيال هؤلاء غالبا ما يكون خصبا وقادرا على توليد أفكار جديدة، بسبب قوة عملية السرد المتوارثة شفهيا جيلا بعد جيل عبر مستويات شعبية مختلفة في الأسر الممتدة والمجتمعات الصغيرة والتقليدية.
  • رابعا وأخيرا: تراجع التقدير للثقافة والمثقف؛ لأن كتابة السيناريو -في نهاية الأمر- نمط من أنماط الكتابة التي تسعى للتعبير عن الواقع أو تغييره بدافع ما يحمله الكاتب من أفكار ورؤى قبل أن تكون مجرد وظيفة.