مهرجانات السينما العربية بين النخبة والجمهور

small body movie
بطلة فيلم جسد صغير التي جسدت دور الأم "أغاثا" للمخرجة الإيطالية للورا ساماني (مواقع التواصل الإجتماعي)

تسير الفتاة الإيطالية أغاثا بين السهول والوديان في رحلة خطرة من أجل طفلتها التي ولدت ميتة. تخبئ جثة الطفلة في صندوق صغير تحمله معها وهي تطوف بين شعاب الجبال يحدوها الأمل في تحقيق معجزة عودة ابنتها للحياة ولو لثانية واحدة بعد أن سمعت عن مكان يعيد الأطفال الميتين للحياة. تلقي الجبال بها من منطقة لأخرى وتتغير الأجواء لتعكس رحلة روحية تخوضها الأم موازية لرحلتها المادية.

يشارك أغاثا رحلتها فتى التقته مصادفة حيث يساعدها ويشاركها غمار الرحلة التي تدور وقائعها قبل أكثر 100 عام في فيلم "جسد ضئيل" للمخرجة الإيطالية للورا ساماني. وهو فيلم من إنتاج مشترك بين إيطاليا وفرنسا وسلوفينيا، وحاز على الجائزة الكبرى في مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط في دورته الـ27 في المغرب والتي اختتمت قبل أيام.

ويعد المهرجان واحدا من التجارب القليلة في العالم العربي الذي تتصالح فيها المدن التاريخية، من غير العواصم العربية، مع فن السينما، وتعقد شراكة بين النخبة والجمهور بحضور البعدين التاريخي والسياحي للمكان. فالمهرجان الذي يقترب من العقد الثالث من العمر يقيم شراكة مع المؤسسات التعليمية في المدينة في كافة المراحل الدراسية، رافعا شعار دور السينما في عملية إصلاح وتطوير التعليم. وذلك من خلال الالتزام بعملية شراكة وعروض خاصة للأطفال والمراهقين وورش العمل وغيرها من الأنشطة. ولأن المدينة صغيرة نسبيا، فإن أنشطة المهرجان تبسط أثرها على كافة أنحاء المدينة ويعتبر حدثا مركزيا هاما.

تجربة المهرجان ثرية وتوضح فائدة جسر الهوة بين الجمهور والمهرجانات السينمائية التي تتسم عادة بالنخبوية. والمغرب من الدول التي تشهد ظاهرة سينمائية فريدة عربيا وربما عالميا وهي أن بها عددا من المهرجانات السينمائية سنويا يفوق عدد دور السينما. حيث يتم تنظيم ما يربو على 90 مهرجانا سينمائيا كل عام في كافة أنحاء المدن والبلدات المغربية، أي أن هناك مهرجانا للسينما كل 4 أيام تقريبا. الأمر الذي دعا المهدي بنسعيد، وزير الثقافة والتواصل المغربي إلى المناداة مؤخرا بتقليص هذا العدد، معتبرا أنه تمدد للكم على حساب الكيف والجودة. واقترح دمج عديد من المهرجانات الصغيرة ليكون هناك 12 مهرجانا سنويا موزعة بالتساوي على ولايات البلاد المختلفة.

الاقتراح الرسمي المغربي يقابله رأي آخر من قبل سينمائيين وجمهور يرون في هذه المهرجانات تعويضا لغياب دور السينما وفتح أعين الجمهور المغربي على آفاق مختلفة ومتنوعة من الفن السابع. والمحصلة النهائية هي أن فكرة المهرجان السينمائي تجاوزت عتبة النخبة في المغرب لتشتبك مع الجمهور الواسع بطرق مختلفة وهي ظاهرة فريدة في العالم العربي تستحق التأمل والدراسة.

السؤال الذي قد يتبادر لذهن كثيرين، ما الفائدة من فكرة المهرجان السينمائي للمشاهد العادي وسط طوفان المنصات الفيلمية التي تعرض ما لذ وطاب من إنتاج سينمائي جذاب ومتنوع؟

المهرجان كأداة تواصل

بعيدا عن الحالة المغربية، فإن السمة الأساسية لطبيعة المهرجانات السينمائية في العالم العربية هي النخبوية أو بالأحرى الحكومية بشكل أساسي. إذ ليس بمقدور الأفراد أو الهيئات القيام بمثل هذا النشاط بشكل مستقل رغم أنه ممكن من الناحية النظرية. ولهذا فإن الفجوة قائمة بين المهرجانات السينمائية في عموم أرجاء العالم العربي وبين الجمهور. وحتى داخل النخب المثقفة، فإن فكرة الحضور أو التفاعل مع المهرجان السينمائي محصورة بطبقات معينة من الفنانين والممثلين وليست تعبيرا عن الوضع الثقافي الشعبي العام السائد في بلد من البلدان.

لا تنبع أهمية المهرجان السينمائي من كونه وسيلة لحصد الجوائز فقط، بل هو أشبه ما يكون بسوق عكاظ للفيلم. تتم فيه أحيانا مباريات سينمائية بين الأفلام وتعقد على هامشه ندوات وورش عمل وأيضا فرصة لعقد الاتفاقات بين المخرجين والمنتجين والممثلين. كما أنه فرصة لتعريف الجمهور بنمط من السينما مختلف عن النمط التجاري حيث يفتح نافذة لمشاهدة أفلام ذات رابط واحد هو موضوع المهرجان، وأيضا لقاء الجمهور بالقائمين على الفيلم أحيانا ومناقشتهم. إنه أشبه ما يكون بموسم للفن والجمال تتضافر فيه جهود المبدعين والمشاهدين تحت سقف واحد.

لقد انتشرت وسائل الإعلام في العالم العربي بشكل كبير سواء مقروءة أو مسموعة أو مرئية، بخلاف مواقع الإنترنت. ولم يواكب ذلك انتشار لمفهوم المهرجان السينمائي. وربما ارتبط المهرجان عند البعض بفكرة عروض الأزياء واستعراضات النجوم والممثلين، رغم أنه جانب هامشي دعائي لفكرة المهرجان السينمائي. الأمر الذي حرم الجمهور العربي من الدخول في أية مبادرات لخوض تجربة تأسيس مهرجان سينمائي تحت أي مظلة من المظلات.

هذا الوضع العربي يختلف عن كثير من الدول في العالم. ففي بريطانيا مثلا، تشير تقديرات معهد الفيلم البريطاني إلى أن المملكة المتحدة فيها أكثر من 50 مهرجان أفلام سنويا، بواقع كل أسبوع مهرجان أفلام يقام في منطقة ما. وهو رقم يزيد عن رقم مهرجانات المغرب 5 أضعاف. وفوق ذلك يوفر معهد الفيلم البريطاني دليلا مجانيا لمن يريد تأسيس مهرجان سينمائي محلي أو دولي خطوة بخطوة، بداية من الفكرة وحتى خروج المهرجان للنور مرورا بخطط التسويق والتمويل وأماكن العرض وإدارة فريق العمل، تشجيعا للجمهور على أخذ زمام هذه المبادرة وضمان حيوية وديناميكية المشهد السينمائي في البلاد.

السؤال الذي قد يتبادر لذهن كثيرين، ما الفائدة من فكرة المهرجان السينمائي للمشاهد العادي وسط طوفان المنصات الفيلمية التي تعرض ما لذ وطاب من إنتاج سينمائي جذاب ومتنوع؟ الإجابة تكمن في مثال بسيط حول مشروب الشاي والقهوة الذي يمكن إعدادهما منزليا بكل يسر وسهولة ولكن الناس لا يزالون يدمنون الذهاب للمقاهي. الفكرة ببساطة ليست في المشروب ولكن في الأجواء المحيطة والتفاعل الاجتماعي. وهي ليست بابا من أبواب الترفيه فحسب، ولكن نافذة ثقافية هامة وضرورية.

أضف إلى ذلك أن زبون المقهى يذهب إليه غالبا مع من يعرفهم بشكل مسبق، أما المهرجان السينمائي فهو فضاء ومساحة للتعارف المهني والشخصي والحوار والنقاش. وهو تجربة مهنية ثرية للمتخصصين وتجربة تذوق مهمة لغير المتخصصين. ولهذا فإن العالم العربي بحاجة لتعزيز تجربة المهرجان السينمائي على المستوى المحلي بعيدا عن فكرة المهرجانات السينمائية الدولية لكل بلد والتي تتخذ طابعا وطنيا رسميا أكثر منها فعل ثقافي محلي يقدم للجمهور مساحة ثقافية وإبداعية جديدة.