سينما المؤلف والبحث عن الذات العربية في مهرجان كان

فيلم “حمى المتوسط” من تأليف وإخراج المخرجة الفلسطينية مها الحاج (مواقع التواصل الإجتماعي)

على ضفاف البحر المتوسط في مدينة حيفا، تنعقد صداقة بين وليد وجلال، الأول نموذج للأب ورب الأسرة المثالي؛ حياته هادئة على السطح، في حين تموج المشاكل داخله كبحر هائج، ويحمل الهم الفلسطيني على كتفيه أينما حل، ولا يواظب على جلسات العلاج النفسي بسبب معاناته مع الاكتئاب.

كانت المفاجأة في قائمة الجوائز فيلم "حرقة" الذي حصد فيه الممثل التونسي آدام بيسا جائزة أفضل ممثل، ومبعث المفاجأة أن مخرج الفيلم مصري أميركي، وهو لطفي ناثان الذي استطاع أن يستعرض تفاصيل المعاناة التي يعيشها المواطن التونسي وأحلامه بعد الثورة.

أما الثاني جلال فهو نقيض جاره وصديقه في كل شيء تقريبا، ينشد حياة المرح واللهو وغير عابئ بالهم الفلسطيني العام ويرتبط بعالم الجريمة؛ الأمر الذي يراه وليد حافزا للاقتراب منه كي يستقي منه تفاصيل هذا العالم السري ليسكبه أدبا في روايته الأولى، وتتطور علاقة الصديقين في فيلم "حمى المتوسط" من تأليف وإخراج المخرجة الفلسطينية مها الحاج، والذي حاز على جائزة أفضل سيناريو ضمن فئات جائزة "نظرة ما" في مهرجان كان هذا العام، وهو إنتاج مشترك بين عدة دول: فلسطين وألمانيا وفرنسا وقطر وقبرص.

يعد الفيلم نموذجا لسينما المؤلف في أحد تجلياتها العربية، وهذا النوع من السينما نشأ قبل أكثر من 7 عقود على يد الناقد الفرنسي أليكسندر أستروك، الذي دعا عام 1948 إلى أن تتحول السينما إلى لغة، ومن ثم الكاميرا إلى قلم، والمخرج إلى مؤلف. وبذلك يصبح المخرج ليس مجرد منفذ مبدع لنص السيناريو، بل شريك كامل فيه، حتى وإن لم يكن هو نفسه المؤلف.

وفي فيلم "حمى المتوسط" جمعت المخرجة مها الحاج (ابنة مدينة الناصرة) بين مهمتي التأليف والإخراج معا، وقدمت رؤيتها للواقع الفلسطيني والعربي بعيون جديدة أدخلت فيها البحر المتوسط طرفا مجازيا معبرا عن الواقع العربي من دون أن تغوص في تفاصيل الواقع في البلدان المختلفة. وكانت المفاجأة أنها اختارت أن تغوص داخل عالم الرجال لتكشف عن مواطن القوة والضعف الظاهر العام والباطن النفسي ومستويات المعاناة المختلفة التي يعاني منها الرجل. ويعد الفيلم تتويجا جديدا للسينما الفلسطينية في المحافل والمهرجانات الدولية.

وكانت المفاجأة في قائمة الجوائز فيلم "حرقة"، الذي حصد فيه الممثل التونسي آدام بيسا جائزة أفضل ممثل. ومبعث المفاجأة هنا أن مخرج الفيلم مصري أميركي هو لطفي ناثان الذي استطاع أن يستعرض تفاصيل المعاناة التي يعيشها المواطن التونسي وأحلامه بعد الثورة.

وتدور قصة الفيلم حول شاب تونسي يعيش حياة منعزلة ويبيع النفط المهرب في السوق السوداء، ويجد نفسه متحملا مسؤولية شقيقتين أصغر منه بعد أن فارق والده الحياة بعد معاناة مع مرض السرطان وغياب الأم التي توفيت في وقت سابق وشقيقه الذي انتقل لمدينة ساحلية للبحث عن عمل. والمخرج هنا جمع بين دوري الإخراج والتأليف لتترسخ في العمل تفاصيل فكرة سينما المؤلف، إذ عرض أحلام الفتى التونسي بعد خيبات الأمل التي يمر بها، وتعصف بطموحه في عيش كريم، وتفكيره اليومي في الهجرة عبر قوارب الموت لأوروبا. والفيلم من إنتاج عدة دول: بلجيكا وفرنسا ولوكسمبورغ وتونس.

نشأت سينما المؤلف في فرنسا أول الأمر، وهي نقيض النمط السينمائي الهوليودي؛ فبينما يركز النمط الأخير على الربح والعامل التجاري في المقام الأول، يركز نمط سينما المؤلف على العامل الجمالي والتعبير عن الذات ورؤية القصص والقضايا من منظور المخرج. إنه نمط يتحول فيه الفيلم إلى رواية والمخرج إلى مؤلف. وأتى ظهور هذا النمط في فرنسا منطقيا بالنظر إلى الاهتمام الفرنسي العام بالأدب مقابل الاهتمام الأميركي بالرأسمالية والتجارة، مثل الاهتمام الألماني بالفلسفة.

تجلى هذا النوع من السينما في ما تعرف بالموجة الفرنسية الجديدة في السينما، التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وقادها شباب طامح إلى إحداث تغيير ثوري في النمط السينمائي للخروج من الأستديوهات إلى الشارع، ومن الإنتاج الضخم إلى الأقل سعرا. ويرى المؤرخون أن هذه الموجة هي التي مهدت -بل وسعت- لثورة طلاب فرنسا عام 1968 بعد أفكار وأعمال رواد هذه الموجة، مثل جان لوك غودار، وفرانسوا تروفو، وجاك ريفيت.

سينما المؤلف العربي

سعى كثير من النقاد إلى تصنيف أعمال مخرجين مثل يوسف شاهين ويسري نصر الله وداود عبد السيد وعاطف الطيب بأنهم رواد سينما المؤلف في العالم العربي؛ إذ إن لكل من هؤلاء المخرجين توقيعه الخاص على الفيلم وبصمته التي لا تخطئها عين.

والحقيقة أنه وفقا لأحد التعريفات الإجرائية لسينما المؤلف، فإن أعمال هؤلاء المخرجين يمكن أن تصنف ضمن هذه الفئة تحديدا، لكن من الصعب الحديث عن موجة سينمائية أو تيار سينمائي عربي يستلهم من نموذج سينما المؤلف سمة غالبة لأعماله، والأرجح أننا أمام محاولات إبداعية دؤوبة لم ترق لتشكيل حركة أو تيار له نمط وأسلوب محدد وواضح.

تحتاج مثل هذه الظواهر الإبداعية لمناخ اقتصادي وسياسي عام وليس بالضرورة أن يكون مفروشا بالورود، ولكن على الأقل يتعاطف أو لا يتعارض أو يعرقل هذه التجارب ويسمح لها بالنمو والازدهار. لقد كان بزوغ سينما المؤلف في فرنسا نابعا من عالم النقاد بشكل أساسي. وهنا نقطة أخرى تتعلق بدور الناقد السينمائي عربيا، والذي ينبغي أن يتجاوز دور التحليل السينمائي أو ترشيح وتقييم الأفلام إلى النبش والاستكشاف وسبر أغوار الأعمال السينمائية والوجوه الجديدة وتقديم الحلول والاقتراحات لما يعتري مجتمع السينما من تحديات ومشاكل وفرص.

لقد وفر مهرجان كان السينمائي الدولي وغيره من المهرجانات الدولية فرصة مهمة لكثير من الوجوه الشابة كي تعبر عن نفسها وذاتها سينمائيا، وتعرض قضايا مجتمعها برؤية جمالية متميزة، لكن ستبقى الفجوة قائمة بين الأفلام التي تحصد الجوائز الموسمية في المهرجانات الدولية وأفلام دور العرض المنتشرة في المدن العربية المختلفة، وهي أفلام يسيطر على معظمها النمط التجاري الذي لم يصل لمستوى هوليود بالطبع، فهو ليس من مصادر الدخل القومي الأساسية. كما أن هناك صعوبة في عرض هذه الأفلام الفائزة للجمهور بسبب حقوق الإنتاج المتفرقة بين عدة دول. وأحد الخطوات المهمة في هذا المجال هو سعي المنتجين والمخرجين لوضع شرط في عقودهم المستقبلية ينص على إمكانية عرض هذه الأفلام مستقبلا في السينما أو أي من المنصات أو القنوات لضمان أن يرى الجمهور هذه الأعمال سعيا لسد هذه الفجوة، وهذا الشرط ليس سهلا لأن المخرج غالبا يكون الطرف الأضعف في مثل هذه الاتفاقات، ويحتاج الأمر لضغوط مختلفة من أجل تحقيقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.