قضايا الفرنسيين العرب في دورة مهرجان كان هذا العام

(From L) Algerian-French actress Lyna Khoudri, director Rachid Bouchareb and French actor Reda Kateb pose during a photocall for the film "Nos Frangins (Our Brothers)" at the 75th edition of the Cannes Film Festival in Cannes, southern France, on May 24, 2022. (Photo by LOIC VENANCE / AFP)
تناول فيلم "الحركيون" قضية حساسة تتعلق بالجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا ضد حركة الاستقلال الجزائرية أثناء الاستعمار الفرنسي (AFP)

خرج الطالب الشاب مالك أوسكين من أصول جزائرية من بيته كالمعتاد وسار في شوارع باريس. لم يكن يدري ما يدور حوله حين هجم عليه ثلاثة من أفراد الشرطة الفرنسية وأوسعوه ضربا حتى الموت. كان ذنبه الوحيد أنه قد مرّ في توقيت ومكان لا صلة له بهما، إذ لم يكن مشاركا في المظاهرات الضخمة التي انطلقت ضد نائب وزير التعليم العالي الفرنسي آنذاك عام 1986، لكنه دفعا ثمنا فادحا وأصبح أحد أشهر رموزها.

تتواطؤ الحكومة والشرطة الفرنسيتان لعدم محاسبة رجال الشرطة الذين ارتكبوا جريمة قتل أوسكين وطالب آخر من أصول جزائرية، وتكافح عائلاتا الضحيتين من أجل العدالة وفهم ما حدث في فيلم "إخواننا" للمخرج الفرنسي من أصول جزائرية رشيد بوشارب، والذي انطلق عرضه الأول في مهرجان كان السينمائي الدولي في فرنسا بدورته الـ57 هذا العام.

يتناول فيلم "الحركيون" قضية حساسة تتعلق بالجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا ضد حركة الاستقلال الجزائرية أثناء الاستعمار الفرنسي، وكيف تخلت فرنسا عنهم بعد نيلها الاستقلال لينالوا مصيرهم وانتقام الجزائريين. اختار فيليب فوكون أن تكون مشاهد العنف حاضرة بقوة في الفيلم، ويلقي باللوم فيما حدث على الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول

ينكأ بوشارب جرحا تاريخيا في فرنسا، ويدون بالكاميرا تاريخا اجتماعيا هاما يتعلق بحادث حقيقي وقع قبل أكثر من ثلاثة عقود بمشاركة ممثلين من أصول جزائرية مثل رضا كاتب وسمير قاسمي ولينا خوذري. ورغم أهمية ورمزية الحدث، فإن فيلم "إخواننا" هو أول تجسيد سينمائي له. وبذلك استبق بوشارب منصة ديزني بلس التي أطلقت أيضا هذا الشهر مسلسلا من أربع حلقات بعنون "أوسكين"، يتناول الشخصية ذاتها والأحداث التي مرت في هذه الفترة.

يعد الفيلم والمسلسل حدثين كبيرين للفرنسيين، وتحديدا للمهاجرين من أصول عربية، لأن مالك أوسكين رمز من رموز الكفاح ضد العنصرية وعنف الشرطة في البلاد. يكفي أن نعرف مثلا أن عائلة مالك وذكراه كانا حاضرين بقوة في التجمع الذي انطلق في ساحة الجمهورية بباريس في أعقاب الموجة العالمية ضد العنصرية قبل عامين في 2020 بعد مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد. وحينها كررت عائلته المطالبة بتحقيق العدالة له وباعتذار من الشرطة الفرنسية.

وبهذا الفيلم فإن بوشارب يلقي بحجر كبير في مياه الثقافة الفرنسية، وهو المخرج المعروف عنه التغريد خارج السرب وإثارة القضايا ذات الحساسيات التاريخية والاجتماعية. فقبل مشاركة هذا العام التي مثل بها فرنسا، كان قد شارك عام 2010 في المسابقة الرسمية في المهرجان بفيلم باسم الجزائر بعنوان "خارجون عن القانون"، الذي تدور أحداثه بين عامي 1945 و1962، ويتناول فترة حساسة من تاريخ استقلال الجزائر، ويعرض فيه مجزرة سطيف التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين الذين خرجوا في مظاهرة عام 1945 في منطقة سطيف شرق العاصمة الجزائرية. الفيلم أثار جدلا كبيرا وقتها في دورة مهرجان كان عام 2010، ونظمت الأحزاب اليمينية الفرنسية مظاهرة ضخمة أمام مقر المهرجان، مطالبة بوقف عرضه متهمة إياه بتحريف التاريخ.

التاريخ بعيون فرنسية

لم يكن فيلم "إخواننا" هو الوحيد الذي ينبش في الذاكرة الأليمة للعلاقة بين الجزائر وفرنسا، إذ تم عرض فيلم "الحركيون" للمخرج الفرنسي فيليب فوكون ضمن "أسبوع المخرجين"، وهي مسابقة موازية للمسابقة الرسمية. يتناول الفيلم قضية حساسة تتعلق بالجزائرين الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا ضد حركة الاستقلال الجزائرية أثناء الاستعمار الفرنسي، وكيف تخلت فرنسا عنهم بعد نيل البلاد استقلالها لينالوا مصيرهم وانتقام الجزائريين. اختار فوكون أن تكون مشاهد العنف حاضرة بقوة في الفيلم ويلقي باللوم فيما حدث على الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول.

وتعد قضية ما يعرف بالحركيين أحد الملفات التي لا تزال مفتوحة من الناحيتين التاريخية والإنسانية في فرنسا. ولا تزال تفاعلاتها مشتعلة، ففي أواخر العام الماضي طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصفح منهم في حفل أقيم أواخر العام الماضي لتكريمهم. كما وافق مجلس الشيوخ الفرنسي مطلع هذا العام على قانون لطلب الاعتذار من الحركيين وأحفادهم، وتقديم التعويضات لهم معترفا بالضرر الذي تسببت فيه فرنسا لهم ولعائلاتهم والتي قدرت أعدادهم بتسعين ألف شخص.

تمثل هذه الأفلام وغيرها محاولات إبداعية من سينمائيين ولدوا وتربوا ويعيشون في فرنسا لإعادة النظر في التاريخ الفرنسي لا سيما فيما يتعلق بالماضي الاستعماري. هذا الماضي الذي يلقي بظلاله بين الفينة والأخرى على علاقات فرنسا الخارجية مع دول المغرب العربي، وخاصة الجزائر، وحتى على بنية المجتمع الفرنسي نفسه فيما يتعلق بالمهاجرين وتحديدا العرب والمسلمين. وفي هذا السياق، ينبغي القول إن السينما أكثر إنباء من وسائل الإعلام في فرنسا. فهي معبر صادق عن قضايا حياتية كثيرة ويتمتع فيها المخرجون والمؤلفون، خاصة الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين، بمساحات من الحرية وربما الفرص قد تتفوق على الفرص الممنوحة للعاملين في وسائل الإعلام.

تحظى هذه النوعية من الأفلام وغيرها لمخرجين فرنسيين من أصول عربية بشعبية في أوساط جمهور دول المغرب العربي لاعتبارات الاحتكاك الثقافي المتبادل وأيضا بسبب اللغة الفرنسية. لكنها لا تحظى بحضور يذكر عند المشاهدين في دول المشرق العربي، رغم ما تحمله من إبداع بصري رائع وتناول لقضايا تاريخية واجتماعية هامة. وتنبع أهميتها أيضا من أنها تمثل تطبيقا للمدرسة الفرنسية في السينما وهي مدرسة عريقة بدأت مع نشوء السينما وتمثل فلسفة خاصة في التعامل مع الصوت والصورة في الفيلم السينمائي تختلف عن فلسفة هوليود المنتشرة حاليا، وتعد مدرسة فنية قائمة بحد ذاتها.

ومن المفارقات أن هذه الفرص للتعبير الفني عن التاريخ والقضايا الاجتماعية ممنوحة بشكل كبير في بلد مثل فرنسا، في حين لا توجد تجارب على المستوى ذاته لمخرجين من أصول عربية ومسلمة في بلدان غربية أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية مثلا. وقد يعود هذا للمكانة التي يحظى بها الإنتاج الثقافي بشكل عام، والسينما بشكل خاص، داخل المجتمع والدولة في فرنسا. وهو اهتمام يسهل رصده لكل من زار فرنسا أو تابع الإنتاج الثقافي الفرنسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.