رمضان والعيد.. هل يمكن أن نعود بالحياة إلى البداية مرة أخرى؟

جامع اتشاملجا أكبر مساجد أوروبا فتح أبوابه للزائين قبيل رمضان (صورة خاصة).
جامع تشاملجا أكبر مساجد أوروبا فتح أبوابه للزائرين قبيل رمضان (الجزيرة)

ها هو رمضان آخر يأتي إلينا في وقته المخصص له من كل عام، في حياتنا هذه، فيقيم فينا وينفذ حكمه، ويذكرنا بما نسيناه، ويخبرنا بما يجب أن نتذكره، ويجعلنا نعتاد عليه وعلى ما فيه من خير وصحة وبركة، وفي الوقت الذي نعتاد عليه تمامًا، يذهب ويتركنا.

لا يستطيع أحد تجاهله، ولا يستطيع أحد التظاهر بعدم وجوده؛ حتى أولئك الذين ليسوا سعداء بقدومه، سيشعرون بوجوده بالتأكيد بطريقة ما، إنَّه يبدو وكأنه طيبٌ جميلٌ خفيف ملموس من الله إلى عالمنا هنا، فينعكس برحمته وبركته علينا وعلى الفقراء والمشردين

في كلِّ عام؛ وعندما يحين الوقت، يأتي ويقيم وسط حياتنا المشتتة والممزقة، فيجمعها في لحظة؛ ويوحد تلك الحيوات المشتتة وتصوراتها وخبراتها. بالتأكيد، يلتقي بكلَّ واحدٍ فينا بمفرده، وفي المكان الذي يجد فيه كل واحد منا نفسه، ولكنَّه عند مجيئه سيزيل عن كل واحدٍ فينا تبعثره واضطرابه.

لا يستطيع أحد تجاهله، ولا يستطيع أحد التظاهر بعدم وجوده؛ حتى أولئك الذين ليسوا سعداء بقدومه، سيشعرون بوجوده بالتأكيد بطريقة ما، إنَّه يبدو وكأنه طيبٌ جميلٌ خفيف ملموس من الله إلى عالمنا هنا، فينعكس برحمته وبركته علينا وعلى الفقراء والمشردين.

وفي ظلِّ مناخه الروحي؛ يشعر الناس بشكلٍ عميق بأنَّهم ليسوا وحدهم، وأنَّ ما يعيشونه ليس خاصًّا بهم. رمضان؛ تجربةٌ يبني فيها الإنسان جسورًا إلى الله وإلى الآخرين وإلى أتباع الديانات الأخرى، وإلى الماضي والمستقبل، فيشعر بأنَّه قد تجاوز الزمن. في الوقت ذاته يعيش الناس نفس هذه التجربة في جميع أنحاء العالم، تجربة اسمها الصيام.

علاوةً على ذلك، فإنَّ هذه التجربة -التي يتمُّ اختبارها في جميع أنحاء العالم- قد عاشها أناسٌ آخرون منذ أقدم العصور، منذ الإنسان الأول. وأكثر من ذلك؛ ستستمرُّ هذه التجربة حتى آخر إنسان. هذا الإحساس؛ الذي يجعل الإنسان يشعر بأنَّه ذرةٌ من وجودٍ عظيم، يمتد من الزمن القديم إلى المستقبل، فلا يتبقى منه إلا وعيه بوحدانية الله، ومهما قاوم الإنسان هذا الوعي، فإنَّه سيظلُّ محفورًا في أعماق روحه كشعار، ومن هناك سيؤثر بطريقةٍ ما في حياة وسلوك كلٍّ منَّا.

لهذا السبب لا يمكننا إهمال هذه الشعارات، ولكن حتى لو تمَّ إهمالها، فإنَّ الله قد وضعها في عالم الإنسانية بحيث لا يمكن انتزاعها. فها هي الصلاة، وها هو الحج، وها هي الأضحية، وها هو الأذان، وها هو الحجاب.

كلٌّ من هذه الشعارات موجودة هناك في مكانٍ ما، وسواءً اتفقنا مع تلك الشعارات أم لم نتفق، فإنَّها ستواصل فرض وجودها، وكأنَّ لديها الأدوات الخاصة بها لذلك، ومن خلال تلك الشعارات؛ يتواصل حفظ الله تعالى لدينه كبابِ مغفرةٍ ورحمةٍ للناس. إنَّنا عندما نطبق تلك الشعارات، نجد حماسةً وفرحةً، كتلك التي تكون موجودةً عند من يطبقونها دائمًا، فنحن نجد الحياة مع تلك الشعارات، ولكن هل يمكننا المساهمة بشيءٍ تجاههم؟ لا بدَّ أنَّنا نفعل، ولكنَّها ليس كأي شيءٍ آخر يمكننا التعامل معه. بل على العكس من ذلك؛ إنَّ الله يمنُّ علينا بإبقائه لتلك الأبواب مفتوحةً لنا على الدوام.

وهكذا؛ عندما يأتي رمضان، لا يمكن لأحدٍ أن يقول له لا تأتِ. إنَّه يأتي ويُقيم بيننا، فكلُّ فردٍ منَّا كان له نصيبٌ من رمضان وسيكون، حتى أولئك الغافلين عنه، سيشعرون به بالتأكيد بطريقةٍ ما، وحتى أولئك العنيدين اللامبالين به، لن يكون بإمكانهم ألَّا يتعلَّقوا به.

وفي أسوأ الأحوال؛ فإنَّه بتحديده لكلِّ من الوقت والتقويم، وبتأثيره على الحياة اليومية، سيظلُّ يُذكِّرك باستمرار بأنَّه موجودٌ هناك، وأنَّه يهتمُّ بك، وأنه مرتبط بوجودك بدرجةٍ كبيرة.

بعدها يذهب

يذهب بعد أن يُعلِّمنا ويُذكِّرنا مرةً أخرى أنَّ الله موجود، وأنَّه ليس ربُّ أفرادٍ منَّا وحسب، بل ربُّنا جميعًا وربُّ جميع العالمين، وأنَّه أقرب إلينا منَّا، وأنَّه أرحم بنا منَّا. لكنَّه يذهب بقصد أن يعود مرةً أخرى. ففي العام المقبل، من سيكون في عمره بقية؛ سيلتقيه مرةً أخرى. نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد للقائه بشكلٍ أفضل عندما يعود.

سيعود رمضانُ مرةً أخرى؛ لهذا السبب يترك عيدًا كهديةٍ لك لتبدأ من جديد. العيدُ، هو عيد البدء من جديد. لنعود إلى البداية؛ ولكن لتكن عودتنا بتغير وتقدم على مستوى حياتنا ومكاسبنا.

الحياة تجربةٌ إلى الأمام. في الحقيقة؛ لا أحد يستطيع العودة إلى البداية، فعندما يعود إلى نفس النقطة، يعود وقد تغيَّرت أشياء كثيرة في حياته، وازداد حِمله. بعد عام؛ عندما يدرك رمضان ثمَّ العيد من بعده مرة أخرى، ستكون قد أُتيحت له الفرصة ليعرف مقدار تغيُّره. في كلِّ عامٍ؛ في الأعياد؛ يتجاهل الناس الفروقات بينهم وبين الآخرين، ومهما كنَّا وبغضِّ النظر عن عملنا أو مهنتنا أو عمرنا أو جنسنا، فإنَّنا نعودُ ونجتمعُ في المكان الذي تلتقي فيه البشرية جمعاء.

أذكرُ أنَّني كتبتُ هذا من قبل، في العيد، لا يوجدُ مكانٌ للنسبية. قد تكون لكلِّ فردٍ منَّا خبراتٌ مختلفة، وعوالم مختلفة من المعاني، ولكن في العيد، لا أحد منَّا يحتاج إلى الحديث عن دوره مهما يكن. الجميع يشارك في مسرحيةٍ وُضعت مسبقًا للعرض، وكُتب معناها ونصُّها من قبل أحدٍ آخر منذ زمنٍ بعيد. "في العيد، يجلسُ كلُّ شيءٍ في مكانه الصحيح، وتُستعاد توازنات الحياة وعلاقاتها مجدَّدًا. لست متأكدًا من العلاقة الدلالية بين العودة والعيد، لكنَّ التقارب اللفظي ليس مصادفةً، وحقيقة أنَّ هذه العودة مصحوبةٌ بالحماس والفرح تتناسب تمامًا مع طبيعة الأشياء".

ولذلك فإنَّ العيدَ عودة؛ عودةٌ إلى حيث بدأنا، وعودةٌ لما فقدنا، وعودةٌ لحقيقتنا، ولإخلاصنا، ولصدقنا، وعودةٌ لأنقى حالاتنا.

بالإضافة إلى ذلك؛ يأتي رمضان ويذهب مرارًا وتكرارًا؛ ففي كلَّ عامٍ يُذكِّرنا ويُعلِّمنا أنَّه لا الأملاك ولا الأوقات ملكٌ لنا، حتى في زمنٍ صار يُنظر فيه إلى رمضان على أنَّه ملكية أيضًا (سلعة ونقود) مثل كلِّ شيءٍ آخر.

إنَّ وجود الأعياد رحمةٌ ونعمةٌ تُرشد ذلك الإنسان الميَّال دائمًا نحو الضلال، رحمةٌ ونعمةٌ تعمَّان الوجود؛ عسى ألَّا تغيب عنكم هذه الرحمة والبركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.