مفاوضات إسطنبول.. هل اقتربت نهاية حرب روسيا على أوكرانيا؟
اختتمت في مدينة إسطنبول قبل أيام الجولة الثانية من المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، في إطار الوساطة التركية لوقف إطلاق النار والعمل على التوصل إلى اتفاق سلام دائم بينهما، ولئن لم تخرج عن الجولة نتائج ملموسة باتجاه وقف إطلاق النار أو الإعلان عن اتفاق ما إلا أن المفاوضات قد حققت تقدما ملحوظا يمكن البناء عليه في ما يبدو.
كرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نداءاته لنظيره الروسي فلاديمير بوتين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ورغم استبعاد موسكو حتى اللحظة فكرة القمة بينهما فإنها تجاوبت مع الوساطة التركية بتأثير التطورات الميدانية والعقوبات الاقتصادية من جهة، ولمواجهة البروباغندا الإعلامية الغربية التي ركزت على عدم رغبتها في التوصل إلى حل من جهة أخرى
إشارات إيجابية
منذ بداية الأزمة وقبل التصعيد العسكري كانت رغبة الطرفين هي التوصل إلى اتفاق سياسي، فأوكرانيا تدرك أنها لا قبل لها بروسيا عسكريا وتعرف مدى صعوبة الرهان على الغرب وتحديدا حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) لمواجهة الأخيرة، وبالتالي كان التوصل إلى اتفاق مع روسيا خيارا تكتيكيا لتجنب الحرب وإستراتيجيا لضمان أمنها على المدى البعيد.
في المقابل، لم يكن احتلال كامل الأراضي الأوكرانية هدف العملية الروسية منذ البداية وإن بقي هذا احتمالا قائما طوال الوقت، ولا سيما إن طال أمد الحرب وتدحرجت لأي سبب، ذلك أن هدف روسيا الرئيسي هو عدم وصول الناتو لحدودها، فمن غير المنطقي أن تحتل كامل الأراضي الأوكرانية فتذهب هي إلى حدوده.
مرارا كرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نداءاته لنظيره الروسي فلاديمير بوتين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ورغم استبعاد موسكو حتى اللحظة فكرة القمة بينهما فإنها تجاوبت مع الوساطة التركية بتأثير التطورات الميدانية والعقوبات الاقتصادية من جهة، ولمواجهة البروباغندا الإعلامية الغربية التي ركزت على عدم رغبتها في التوصل إلى حل من جهة أخرى.
وبعد اللقاء شبه البروتوكولي بين وزيري خارجية البلدين في أنطاليا التركية قال وزير الخارجية التركي إن الأمل يزداد بإمكانية التوصل إلى إعلان وقف مؤقت لإطلاق النار كخطوة أولى، ويبدو أن اللقاءات التي تواصلت بعده عن بعد بين كييف موسكو قد وصلت إلى نقطة استدعت اللقاء الوجاهي، فكانت جولة المفاوضات الثانية في إسطنبول والتي تواترت الإشارات الإيجابية بخصوصها.
وقبيل الجولة قالت روسيا إنها حققت أهداف المرحلة الأولى من عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وأكد زيلينسكي أن بلاده مستعدة للتوافق على تقديم ضمانات أمنية لروسيا، والتزام الحياد بعد تعديل دستوري بهذا الصدد والتخلي عن السلاح النووي، وهي الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب، وفق تصريحه.
تركيًا، كان واضحا سعي أنقرة لتحقيق اختراق ما في هذه الجولة وتعويلها على ذلك من خلال عدة إشارات، في مقدمتها مشاركة أردوغان نفسه في بداية المحادثات وإلقاؤه كلمة قال فيها إن "المفاوضات دخلت مرحلة تحقيق نتائج حاسمة"، كما تابع وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو المحادثات عن كثب ولم يرافق وفد بلاده إلى أوزبكستان، إضافة إلى جلوس وفد تركي مع كل من الوفدين على حدة قبيل بدء المحادثات.
تقارب جزئي
كان الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن قال سابقا إن وجهات نظر وفديْ التفاوض قد تقاربت في 4 من أصل 6 مواد رئيسية على طاولة الحوار.
وذكر قالن أن هذه المواد الأربع هي حياد أوكرانيا، ونزع سلاحها وفق النموذج النمساوي، وما تسميه روسيا "اجتثاث النازية" منها، إضافة إلى تسهيل انتشار استخدام اللغة الروسية فيها.
ولئن صدر نفي عن كييف للتوافق التام مع موسكو على هذه البنود فإن ذلك يُحسب ضمن الأوراق التفاوضية لا أكثر، إذ إن ذهابهما لجولة ثانية من التفاوض أكد فكرة حدوث تقدم، وبالمنطق ذاته يمكن تقييم تصريح الرئيس الأوكراني بعد نهاية الجولة، إذ قال إن بلاده "تلقت إشارات إيجابية" من المفاوضات، لكنها -أي هذه الإشارات- "لا تسكت الأسلحة الروسية".
في المقابل، قال رئيس الوفد الروسي المفاوض فلاديمير ميدينسكي إن "جولة المفاوضات كانت بناءة"، فيما أعلن ألكسندر فومين نائب وزير الدفاع الروسي عضو وفد التفاوض عن قرار بلاده تخفيف حدة العمليات العسكرية في كييف وتشيرنيهيف "لتعزيز إجراءات الثقة المتبادلة وتهيئة الظروف المناسبة لإنجاح المفاوضات".
كما أن من مؤشرات حصول تقدم في المفاوضات بين الجانبين إضافة إلى تصريحات المسؤولين الأوكرانيين المباشرة المقترحات التي قدمها الوفد الأوكراني والتي شملت بعض الشروط الروسية، مثل الحياد وعدم امتلاك أسلحة نووية وعدم استضافة قواعد عسكرية لدول الناتو.. إلخ.
ثمة شكوك واضحة لدى كييف والعواصم الغربية -خصوصا واشنطن- في نوايا موسكو، وثمة من يرى أن الأخيرة تستخدم المفاوضات لكسب الوقت والمماطلة وتغيير الوقائع الميدانية، مستندة إلى سوابقها في سوريا وغيرها، ولئن كانت فكرة استثمار الوقت واستمرار الضغط العسكري الميداني صحيحة إلى حد كبير إلا أن المرونة التي تبديها كييف في المفاوضات والتي تتبدى في التصريحات والمقترحات ترجح كفة حصول تقدم نسبي في عملية التفاوض، وبالتالي إمكانية التوصل إلى اتفاق ما مستقبلا.
وقال الوفد الروسي إنه سيعرض المقترحات الأوكرانية على بوتين ثم يرد عليها بشكل رسمي، وقال الوفد الأوكراني إن روسيا قد تخلت عن لغة التهديد وفرض الشروط والحديث عن الخطوط الحمراء، وهي أيضا مؤشرات إضافية على أن الجولة الثانية من المفاوضات كانت مختلفة جدا عن الجولة الأولى، وأن تفاوضا حقيقيا قد جرى ويمكن البناء عليه، فما هي ملامح الاتفاق المتوقع بين الجانبين؟
من المنطقي أن تكون الخطوة الأولى هي الإعلان عن وقف مؤقت لإطلاق النار لإتاحة المجال لعمليات الإغاثة وإدخال المساعدات الإنسانية وإجلاء المدنيين وما إلى ذلك، ثم يبنى على ذلك تمديده وصولا إلى توقيع اتفاق رسمي لاحقا.
وبالنظر لكل ما سبق لن يكون صعبا توقع الملامح العامة للاتفاق المنتظر أو المفترض، بحيث ستكون البنود الأربعة التي سبق ذكرها أساسا له، فهي تصب في صالح الشروط الروسية أو لنقل أسباب شن الحرب من جهة وليست خطوطا حمراء ترفضها كييف من جهة أخرى، فيما يمكن ترحيل القضيتين الخلافيتين الأساسيتين وهما شبه جزيرة القرم ومصير شرق البلاد لمفاوضات أطول مدى وأهدأ ظرفا، وهو تصور قريب من تصريحات سابقة لزيلينسكي الذي كان قال إن بلاده "مستعدة لحل ما" بخصوص شبه جزيرة القرم، وتصريحات بعض أعضاء الوفد الأوكراني المفاوض لوسائل الإعلام عن "إرجاء النقاش مع روسيا بشأن القرم لما بعد إحلال السلام"، فضلا عن إدراك كييف عجزها عن تغيير الأمر الواقع في المنطقتين.
ما سبق هو تصور أولي لما يمكن للطرفين أن يتوصلا إليه في نهاية ماراثون التفاوض، ولا يعني بالضرورة أنه قريب جدا، وإضافة إلى ذلك تمثُل أمام هذا المسار عدة عقبات حقيقية وكبيرة، أولاها أن روسيا لن ترغب في الذهاب لأي اتفاق قبل تحقيق "إنجاز" عسكري كبير في أوكرانيا بحيث يأتي الاتفاق تتويجا له لا بديلا عنه، والثانية: أن أوكرانيا تشترط توقيع الاتفاق المفترض بعد وقف روسيا عملياتها وعودتها لوضع ما قبل الحرب.
والثالثة: مطالبة كييف بحماية وضمانات دولية لعدم الاعتداء عليها مستقبلا بشكل يشبه نص البند رقم 5 في النظام الداخلي لحلف الناتو (الدفاع المشترك)، والرابعة الموقف الغربي، خصوصا الأميركي المشكك في نوايا روسيا وغير المتحمس للتوصل إلى اتفاق من هذا النوع، وهو موقف يمكنه عرقلة المسار إن أريد ذلك، فضلا عن عقبات أخرى أقل شأنا وتأثيرا.
وعليه، يمكن القول إن وساطة تركيا قد حققت في الجولة الثانية من المفاوضات اختراقا مبدئيا لجهة استعداد البلدين للتوصل إلى حل سياسي تبدو ملامحه الأولية العامة واضحة إلى حد ما، فيما لا يزال هناك الكثير من الجهد المطلوب منهما لتخطي الخلافات في التفاصيل وحولها، مما يعني أن قمة بين الرئيسين بوتين وزيلينسكي -يفترض أن تتوج المسار التفاوضي وتشهد توقيع الاتفاق المنتظر- ما زالت مستبعدة في الوقت الراهن، وهو أمر يبقي الباب مفتوحا على احتمال تدهور الأوضاع وتدحرجها مرة أخرى بقصد أو بغيره، مما يدفع لعدم رفع سقف التوقعات كثيرا في المدى القريب على أقل تقدير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.