القدس بين العقدة والعقيدة
مع تسارع الأحداث في فلسطين وفي عمق البلدات الإسرائيلية، وعلى وقع ما يجري في القدس والأقصى وفي مجمل الأراضي الفلسطينية، يبرز السؤال: كيف يمكن فهم دور القدس والأقصى في حركة الأحداث وتطورها؟ وهنا سأشير إلى جملة عوامل تُسهم في فهم ذلك.
الأمر الأول
يتعلق بإعادة مركزة النضال الفلسطيني ليكون مرتبطًا بقضية القدس والأقصى بوجه خاص، فيبدو أن النضال الفلسطيني بعدما أعاد تموضعه في غزة والضفة الغربية، وبعد أن فرضت السلطات الإسرائيلية واقعًا هناك بات يعدّ روتين الحياة، انتقل ثقل النضال الفلسطيني إلى القدس، ومسجدها الأقصى، مع ما للقدس والمسجد الأقصى من مكانة في الوعي الشعبي الفلسطيني والعربي والإسلامي.
كل ذلك يترافق مع خطوات إسرائيلية متسارعة، ولعلها مجنونة، لتهويد المدينة، والسيطرة على حيزها وفرض أمر واقع فيها. فإذا كان فرض الأمر الواقع من خلال الاستيطان في الضفة الغربية، وحصار غزة وعزلها، فإن الواقع المستحدث هو تغوّل الاحتلال في القدس، وخصوصًا في المسجد الأقصى ومحيطه وذلك من خلال اقتحاماته ومحاولة المضي قدمًا بالتقسيم الزماني والمكاني هناك. وهذا الواقع في القدس والأقصى ينعكس على مجمل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم ويحرك نضالهم لرمزية القدس ومكانتها.
الأمر الثاني
تعكس هذه الأحداث مركزية البعد الديني ببُعدِه الوطني في الصراع بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، ليس بالضرورة بمعنى أن الصراع بين مجموعات دينية، بل المعنى أن القضايا ذات البعد الديني حاضرة بقوة في الصراع، ويبدو أن الأقصى في مركز هذا الصراع، لشعور الفلسطينيين أن هناك اعتداء على جزء من المقدس والعقيدة لهم، الذي هو في الوقت نفسه رمز وطني للسيادة الوطنية والتحرر عند الفلسطينيين. وطبعًا الخطر الأساسي في هذا السياق هو ما يحاول الاحتلال تسويقه من أنه يسمح بحرية العبادة في محاولة للالتفاف على القضية الأساسية وهي السيادة على المسجد ومجمل الأراضي الفلسطينية، ومن ثم فقضية المسجد الأقصى تُشعل الجانب الديني غير المنعزل عن الجانب الوطني والتحرري، في حين يحاول الاحتلال حصرها في حرية والعبادة وكذلك يفشل بتوفيرها، من خلال المنع المتكرر للفلسطينيين من دخول المسجد في مقابل السماح للمستوطنين باقتحامه، وذلك يصبّ الزيت على النار في حالة يزداد بها الوعي الديني والارتباط بالقدس وأقصاها في حالة تتجاوز الفصائل والحركات الفلسطينية لتصبح حالة شعبية.
الأمر الثالث
مع صعود اليمين المتطرف في الحلبة السياسية والشعبية الإسرائيلية، وخصوصًا اليمين المرتبط بقضية الأقصى، وتجاهل أو توظيف أو دعم الأحزاب المركزية لهذا التيار، فإن هذا التيار سيتصاعد عمله في القدس والأقصى ليفرض أمرًا واقعًا كما قد فعل من خلال زيادة اقتحاماته وقيامه بصلوات تلمودية هناك، ودعوته لذبح "القرابين" داخل المسجد. وهنا يتردد السؤال: هل هناك مصلحة إسرائيلية رسمية من غض الطرف عن هذه الخطوات؟ ليتضح أن السلطات الإسرائيلية أسيرة تيار ديني قومي لا تريد أن تخسره كما أن فكره بات يمثّل عددًا كبيرًا من الإسرائيليين، ولا تريد أن تخسر دعم اليهود من المتدينين القوميين الذين يناصرون هذه الخطوات لمركزية القدس في الرواية الصهيونية والدينية اليهودية عند مجمل اليهود، كما أن هذا التيار بات يشكل جزءًا من القرار السياسي من خلال بعض داعميه.
كل هذا يقودنا إلى الأمر الرابع وهو سيطرة البعد الديني-القومي على الخطاب السياسي والشعبي الإسرائيلي، فقد باتت قضية القدس والأقصى من القضايا الدينية القومية التي يرى قسم مُعتبر من الإسرائيليين أنه يجب العمل على تثبيتها من خلال السيطرة والحضور في القدس وفي المسجد الأقصى، لرؤيتهم في الأقصى جبل "الهيكل" الذي يحاكي إيمان وأفكار مجمل اليهود مع سيطرة ذلك على الوعي الشعبي الإسرائيلي الذي بات أكثر محافظة وتدينًا وبات أكثر جنوحا نحو اليمين. طبعًا هذا الأمر، ولنكن منصفين، يترافق مع حالة الوقوف جانبًا عند بعض أقطاب اليمين الديني وذلك لإيمانهم بحرمة الدخول إلى المسجد حتى نزول المسيح وفق عقيدتهم، ولكن هذا التيار غير حاضر في المشهد المحيط بالمسجد الأقصى فتيار الصهيونية الدينية يسيطر على الواقع العملياتي في محيط الأقصى ويزداد رواده ومناصروه من حاخامات وفاعلين رسميين وغير رسميين.
أخيرًا، فإن حالة الخذلان العربي الرسمي مع موجات التطبيع القائمة أدّت إلى ازدياد شعور الفلسطينيين أنهم يجب أن يكونوا في واجهة الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم، وأن خطابات التضامن الجوفاء التي كانت من الرسميين العرب لم تكن إلّا ذرًّا للرماد في العيون، وذلك كله يصعّد من حالة الاعتماد الفلسطيني على الذات في مواجهة الخطوات الإسرائيلية، لتكون قضية الأقصى هي القضية الجامعة لكل الفلسطينيين، وخصوصًا مع حالة الترهل الرسمي والفصائلي للفلسطينيين وواقع المسار السياسي المسدود الأفق، ليكون الشعب الفلسطيني أجمع في مضمار واحد وتحركه قضية واحدة هي القدس والأقصى.
كل هذا لا يمنع الإشارة إلى أن المراقب للمشهد يرى سياسة من السلطات الإسرائيلية بالسماح بالاحتلال الهادئ والتدريجي للمسجد الأقصى من خلال زيادة حضور المقتحمين اليهود والسماح لهم بتصعيد خطواتهم، برؤية لا تختلف عن هؤلاء اليمينيين المتدينين بوجوب أن تكون السيادة والحضور "وتفعيل الحق الديني" المزعوم في المسجد الأقصى ضمن رؤية مرتبطة بالوعي الجمعي اليهودي، ولكن رؤية هؤلاء السياسيين تعتقد بضرورة التدرج وذلك خشية من تفجّر الأوضاع، وليكون هؤلاء الرسميون دائمًا أمام عقدة تثبيت الرؤية اليهودية وموضوع السيادة عندهم على المسجد وإرضاء الإيمان الديني والمطالب الدينية عند جمهور اليمين الاستيطاني الديني القومي، وخشيتهم من تفجّر الأوضاع إذا تجاوزت الخطوات الخطوط الحمر الفلسطينية.
أخيرًا، وبمقابل كل هذا لا يمكن نفي صورة ثانية ترتسم، ويحاول الاحتلال العمل عليها، من خلال واقع ربط الفلسطينيين بوضعهم الاقتصادي ومحاولة النأي بهم جانبًا، ليكونوا منشغلين بحياتهم اليومية ومأكلهم ومشربهم، من خلال ترسيخ واقع اقتصادي مركّب يجعل الفلسطينيين مرتبطين بالخطوات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه إيجاد شعور من اللاجدوى من النضال عند البعض، وانشغالهم بالحياة اليومية والمعيشية وتدبير أمورهم كما لو أنهم يعيشون في سياق دولة وواقع طبيعي. وهذه الأصوات تتصاعد، ولكن يبدو أن عمق الصراع ومركزية قضاياه وخصوصًا القدس والإجراءات الإسرائيلية كلها عوامل تجعل من هذه الأصوات تتراجع عندما يكون هذا المس الكبير بالقضية الفلسطينية ورمزها ومركزها، أي القدس والمسجد الأقصى، وتجعل من التعاضد الشعبي سيد الموقف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.