هل تشكل الحرب الروسية الأوكرانية تهديدا للأمن الغذائي العربي؟

بحسب البيانات التي نشرها المنتدى الاقتصادي العالمي لعام ٫٢٠١٩ تهيمن المسيحية على الأمريكتين وأوروبا والنصف الجنوبي من إفريقيا، بينما يعد الإسلام الدين الأوسع انتشاراً في سلسلة من البلدان تمتد من شمال إفريقيا عبر الشرق الأوسط إلى إندونيسيا، وتبرز الهند ككتلة هندوسية ضخمة، بينما تنتشر البوذية في جنوب شرق آسيا واليابان
هناك فجوة غذائية وعجز غذائي عربي متنامي منذ فترة طويلة يتم سداده بالاستيراد من الخارج، وهناك تركيز كبير في الاستيراد من روسيا وأوكرانيا (غيتي)

أتناول في هذا المقال التأثيرات المحتملة للحرب الروسية الأوكرانية على العالم العربي من محورين هما الأمن الغذائي والطاقة.  فالدول العربية لا تنتج غذائها بالكامل والحصة الأكبر منه مستوردة، ولكنْ هناك مُصدّرون ومستوردون للطاقة، وهناك تأثيران متضادان للحرب على هاتين المجموعتين.

ويمكن القول إن الدول المصدرة للطاقة ستستفيد من ارتفاع أسعارها بسبب الحرب، وهي في وضع نسبي أفضل من حيث مؤشرات أمنها الغذائي، وتنوع مصادر استيراد الغذاء ونظم تخزينية، بالإضافة إلى أوضاعها المالية الأفضل للوفاء باحتياجات السكان، ما عدا العراق وليبيا اللتين تعانيان من عدم استقرار سياسي. أما المجموعة المستوردة للطاقة، فقد تصاب بصدمة مزدوجة، من حيث ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وربما نقص الإمدادات من الأول، وهي تعاني من قصور في أنظمة التخزين وأقل تصنيفا على مؤشرات الأمن الغذائي، وبعضها يعاني أساسا من اضطرابات داخلية وعدم استقرار، كلبنان، وسوريا، وتونس، والسودان، واليمن، والصومال.

على مستوى الأجل القصير، يمكن تحويل خطوط الإمداد إلى مصادر بديلة، ولكن الأسعار بشكل أو بآخر سترتفع (وقد ارتفعت أسعار القمح بنسبة 50%، وقس على غيره من الحبوب، والأسمدة بنسبة 300% حتى الآن)، وسيخلق ذلك ضغوطات كبيرة على موازنات وموارد هذه الدول.

هل تشكل الحرب الروسية الأوكرانية تهديدا للأمن الغذائي العربي؟

هناك فجوة غذائية وعجز غذائي عربي متنامي منذ فترة طويلة يتم سداده بالاستيراد من الخارج، وهناك تركيز كبير في الاستيراد من روسيا وأوكرانيا. فتشير الإحصاءات إلى أن قيمة الصادرات الغذائية الرئيسية العربية تبلغ نحو 16 مليار دولار، مقابل 61 مليار واردت، بفارق 45 مليار دولار، وتستورد الدول العربية من الخارج ما نسبته 63% من احتياجاتها من القمح، و75% من الذرة، و65% من السكر، و55% من كل من الأرز و الزيوت النباتية، و30% من اللحوم، وتستحوذ على ربع صادرات القمح العالمية ولا تنتج سوى 2.5% من الحبوب على مستوى العالم، ومصر هي المستورد الأول للقمح عالميا بنسبة 11%، إذ تستهلك 18 مليون طن سنويا، تستورد منها 13 مليون طن، بعد أن كانت سلة غذاء العالم العربي ومصدرا رئيسيا للقمح، وروسيا هي المصدر الأول للقمح، وأوكرانيا الخامسة عالميا، والبلدان يشكلان نحو ربع وثلث الإنتاج والصادرات العالمية منه على التوالي. وتستورد الدول العربية نحو 40%، و42%، من القمح الاوكراني والروسي على التوالي، وهناك قصور في أنظمة التخزين لديها.

وبالتالي هي عرضة للأزمات وتقطع سلاسل الإمداد وارتفاعات الأسعار، خصوصا منها دول المغرب العربي ومصر والسودان، وسوريا ولبنان، والضفة الغربية، واليمن. أما دول الخليج، فتستورد نحو 90% من مواردها الغذائية، ولكن مصادر استيرادها أكثر تنوعا، ولديها نظم تخزين أفضل، وبالتالي هي في وضع نسبي أفضل من بقية الدول العربية، وتأتي قطر الأولى عربيا على مؤشر الأمن الغذائي العالمي، ولا شك أن قطر استفادت من تجربة الحصار، فنوّعت مصادر الإمداد، ووسعت الطاقات الاستيعابية لأغراض الأمن الغذائي والامداد اللوجستي، ودعمت الإنتاج الحيواني والزراعي المحلي، فأتى ذلك أكله الآن، فرب ضارة نافعة.

وعلى مستوى الأجل القصير، يمكن تحويل خطوط الإمداد إلى مصادر بديلة، ولكن الأسعار بشكل أو بآخر سترتفع (وقد ارتفعت أسعار القمح بنسبة 50%، وقس على غيره من الحبوب، والأسمدة بنسبة 300% حتى الآن)، وسيخلق ذلك ضغوطات كبيرة على موازنات وموارد هذه الدول، بالإضافة إلى ضغوط ارتفاع أسعار الطاقة على الدول المستوردة لها، ولو طال أمد الحرب، وحدث تقطع أو نقص في الإمدادات، أو ارتفاعات كبيرة في الأسعار فقد يخل ذلك بالتزامات هذه الدول بتوفير المواد الأساسية والأمن الغذاء لشعوبها، وقد يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي فيها.

الإخفاق والفساد

إنه لأمر معيب حقا ويدل على إخفاق ذريع بالسياسات في هذه الدول، فإشكالية الأمن الغذائي العربي مزمنة، ويبدو أن الأنظمة لا تتعلم من تجارب الماضي، والأزمات السابقة، لا المتأخر منها، كالأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة كورونا، وثورات الربيع العربي، ولا ثورات الخبز قبلها. فلا يوجد نقص لدى هذه الدول في مقومات الإنتاج الزراعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، لا من حيث الأراضي الزراعية، ولا الأيدي العاملة، ولا رؤوس الأموال، ولكنها تعاني من سوء التخطيط والإدارة، والفساد، التي تبقيها رهينة في قوتها لتقلبات الأسواق العالمية، وعرضة للابتزاز والأزمات والحروب، وإن لم يكن لها فيها لا ناقة ولا جمل.

إن أمة لا تزرع غذاءها، وهي تستطيع، هي أمة سيلحق بها الإخفاق عاجلا أو آجلا، وإن أنظمة لا تؤمن غذاء ودواء شعوبها وهي تستطيع، هي أنظمة فاشلة فاسدة، لا تستحق البقاء على الكرسي ولا ليوم واحد. وتشير الإحصاءات إلى أن المساحة الصالحة للزارعة في الوطن تساوي مليوني كيلومتر مربع، أي نحو 15% من مساحة الوطن العربي البالغة 13.5 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحات شاسعة، في السودان، وسوريا، والعراق، ومصر، والمغرب، والجزائر، وتقارب مساحة المملكة العربية السعودية، ولكن المستغل منها نحو الثلث فقط، ولا تساهم إلا بما نسبته 2.5% من إنتاج الحبوب، و4% من الإنتاج الزراعي العالمي.

أين الخلل وما الحل؟

سيقال إنه التصحر، والنمو السكاني، والزحف العمراني، وسوء التخطيط والتخزين، وانخفاض الدعم، وارتفاع الضرائب والرسوم، وضعف البنى التحتية، والتعاون العربي، واستخدام التكنلوجيا…إلخ. وسأختصر كل ذلك في كلمتين؛ إنه الفساد والإخفاق، فساد الأنظمة وإخفاق السياسات. فهناك سوء تخطيط وسوء إدارة، وفساد. وإلا فما هو دور الحكومات؟ أليس التنبؤ، ووضع الخطط والحلول؟ مع أن الإشكالات التي نتحدث عنها حقائق وواقع يعاش، وليس بحاجة لتنبؤات، فمطلوب أولا مكافحة الفساد، وإصلاح الأراضي وتفكيك، نظام الإقطاع المتنامي، والاحتكار، وتنمية البنى التحتية، من مواصلات، وكهرباء، ومياه، والاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية والموارد المائية، وتوظيف التكنلوجيا، وتبني سياسات سليمة محفزة للإنتاج الزراعي، من تمويل، ودعم، وحماية، وشراء وتسويق، وليس سياسات ضريبة ورسوم طاردة ترهق كاهل المنتجين.

وعلى الحكومات تبني الإنتاج لأغراض الأمن الغذائي حتى يقف على قدميه. هذا على المستوى الوطني. ولكن لا بد أيضا من التعاون والتكامل على المستوى العربي. فالدول العربية متفرقة لديها اختصاصات متنوعة، فهناك المتخصص في الطاقة ولديه رؤوس الأموال، وهناك من لديه الأيدي العاملة والأراضي الزراعية الخصبة، والأسواق، وهكذا، ولكنها عندما تجتمع وتتعاون، يكمل بعضها بعضا، بما لدى كل طرف من ميزات نسبية لا تتوفر لدى الآخر، ويتم استغلال أفضل للموارد. ويبدو أن هذا هو قدرها الذي لا مفر منه، وهذا ما فرضته الجغرافيا والتاريخ، ولكن الدول العربية لا يوجد لديها نظرة إستراتيجية، ولا هدف وحدوي تجتمع عليه ويحقق لها مكاسب إستراتيجية، أو يدفع عنها مخاطر مشتركة قد تزعزع استقرارها وتهدد أمنها الجماعي، وعوض عن ذلك هي متنافسة، متناحرة، يطمع بعضها في الآخر، والثقة بينها ضعيفة أو مفقودة.

نحن هنا لا نطلب وحدة سياسية تلغي الأنظمة، ولا نطمع في ذلك، ولكن تنحية السياسة، بخلافاتها جانبا، والتعاون على درئ ما فيه تهديد مشترك للأمن الجماعي العربي، ومنها المجال الزراعي والأمن الغذائي والمائي، ويمكن تدعيم ذلك بعقود وضمانات قانونية ملزمة. وهناك مثال في هذا السياق، وهو استمرار تمويل الغاز القطري للإمارات إبان ذروة الخلاف بينهما أثناء الأزمة الخليجية.

وهناك مثال آخر، فقد خطت المملكة العربية السعودية خطوات واسعة في مجال الأمن الغذائي وحققت اكتفاء ذاتيا في إنتاج القمح في مرحلة من المراحل، وأصبحت المملكة الصحراوية تصدر لمصر النيل الزراعية، ثم أتى من أتى وقال إن ذلك غير مجدٍ لأنه يمكن استيراد القمح بأسعار أرخص من خارج المملكة، فألغي المشروع. وهل شراء الحكومة الأميركية للحبوب من المزارعين ورميها في البحر مجدٍ اقتصاديا؟ إن هذه سلعة إستراتيجية، وهناك بعد أمني إستراتيجي يجب أخذه في الحسبان. ويذكر الدكتور عبد الله النفيسي أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق كسنجر، حاول إقناع الملك فيصل بالاستغناء عن زراعة القمح، ولكنه أخفق في ذلك.

إدارة الطفرة واستثمار الفوائد

إذا كانت الدول المستوردة للطاقة قد تتعرض لضغوطات هائلة لاحتمال تقطع إمدادات الغذاء وارتفاع فواتير استيراد ودعم الغذاء والطاقة، فإن الدول المصدرة للطاقة ستكون في وضع أفضل. فلو استمر ارتفاع الأسعار لفترة كافية، ستتحول موازينها الداخلية والخارجية إلى فوائض، وسيمكنها ذلك من زيادة الإنفاق ودعم النشاط والنمو في اقتصاداتها الآخذة في التعافي من أزمة كورونا. ولكن هل تستغل الفوائض بالشكل الأمثل؟ هل تراكم وتستثمر العوائد للتحوط، لانهيارات أسعار النفط المستقبلية، وإدارة الدورة الاقتصادية بسلاسة أكبر أثناء دورات الانكماش، وتجنب السياسات التقشفية الحادة، والضريبة غير الشعبية، والاقتراض الذي يزاحم القطاع الخاص، وجميعها يعمق ويطيل أمد الانكماش أثناء فترات انهيار أسعار النفط؟

هل تستثمر بنجاح في بناء رأس المال البشري، والتنمية الصناعية والتكنولوجية، وتنويع الاقتصادات، ورفاهية المواطن؟ أم تهدر هنا وهناك، وتنفق على شراء أسلحة لا طائل منها، وفساد، وتمويل ثورات مضادة وتثبيت أنظمة دكتاتورية فاسدة؟ وإذا كانت الأنظمة المصدرة للنفط، بقيادة الخليجية منها خصوصا، ترى في ثورات الربيع العربي تهديدا لاستقرارها، باحتمال انتقال العدوى إليها، مما دفعها إلى توظيف مواردها النفطية لتمويل ثورات مضادة لقمع ثورات التحرر العربي من أنظمة دكتاتورية أخفقت عبر عقود في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعيش الكريم لشعوبها، أليس الأحرى بها أن تسهم في تحقيق الاستقرار في أخواتها الدكتاتوريات الأخريات، من خلال الاستثمار في تعزيز أمنها الغذائي؟

هي بذلك تحقق هدفين: تعزيز الاستقرار في أخواتها الدكتاتوريات (وبطريقة مشروعة) من خلال تعزيز أمنها الغذائي، وبالتالي تقليص احتمالات اندلاع ثورات خبز أو غلاء معيشة في تلك الدول، وانتقال العدوى إليها أو التأثر بها سلبا، ثم إنها تسهم في تحقيق أمنها الغذائي من خلال استثماراتها في محيطها الزراعي العربي، والتكامل معها في مجال الإنتاج الزراعي. فلمَ لا يكون للأمن الغذائي العربي نصيب من استثمارات العرب الخارجية؟ ولكن، لو نظرنا إلى تجارب الماضي، نرى بعد كل طفرة نفطية كبرى تراكم فيها هذه الدول الاحتياطيات، أنها تستنزف على أزمات وحروب كثير منها مفتعل. حدث ذلك بعد صدمة النفط الأولى في بداية السبعينيات باندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي أحرقت الأخضر واليابس، ثم بعدها حروب الخليج، وإنفاق المليارات على تسليح العراق، ثم على نزع أسلحته، ثم أتت ثورات الربيع العربي، والثورات المضادة، وصفقات الأسلحة الكبرى بعد طفرة النفط العقد الماضي. وهكذا، كأن الغرب يريد استرداد أموال النفط بطريقة أو بأخرى.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان