إيران وأميركا.. من ورقة التخصيب في عُمان إلى مكتسب الضمان الذاتي في فيينا
لا يبدو جو بايدن بجسارة باراك أوباما وقدرته على تحدي تقليدية السياسة الأميركية الداخلية حين يتعامل مع إيران وملفها النووي، كما أنه ليس بصلافة وصراحة دونالد ترامب وقدرته على قلب الطاولة وتبني خيار الكل أو اللا شيء والعودة مرة واحدة إلى المربع الأول. مع إيران يفضل بايدن الوقوف في المنطقة الرمادية بوصفه ديمقراطيا تقليديا يهوى العمل تحت سقف المتوفر والمضمون دون رغبة في اكتشاف قدرة المغامرة على صناعة المفاجآت، فلا هو ممسك بقوة بمقود الدبلوماسية مع إيران، ولا هو يضع رجله بثقة على الفرامل لوقف العملية برمتها، في هذا الظرف لا أحد بإمكانه ضمان عدم وقوع أي حوادث فجائية، وربما انقلاب المركبة كليا.
اليوم مع وجود بايدن في البيت الأبيض تبدو الخيارات أمام الرئيس الأميركي محدودة، فلا خيار الحرب بات واردا كما كان من قبل، ولا خيار الاعتراف بالفشل وراد أيضا، من هنا تشكلت قناعة لدى جميع الفاعلين ولو نظريا أن لا بديل حقيقيا للاتفاق النووي، على الأقل في المدى المنظور.
مع وصول باراك أوباما للرئاسة عام 2008 كانت أميركا، ووفق عقيدة أوباما، أمام خيارين في التعامل مع إيران، إما الذهاب التدريجي إلى الحرب عبر رفع وتيرة فرض العقوبات كسياسة وحيدة، وإما الرضوخ لتقدم البرنامج النووي، حينها اختار أوباما فتح المسار الثالث: الدبلوماسية القائمة على تحويل العقوبات من سياسة إلى أداة، مع تقديم حوافز وتنازلات تدريجية لطهران، فضلا عن فتح قناة تواصل سرية عبر سلطنة عمان للتفاوض الثنائي المباشر، وفي اللحظة التي كادت فيها المفاوضات أن تنهار كليا لعب أوباما بطاقته السحرية عبر إرسال إشارات للإيرانيين بأن واشنطن ليست مع مبدأ صفر تخصيب، وأنها قد تقبل بتخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية مقابل قيود صارمة بشكل غير مسبوق على برنامج طهران النووي، وهكذا ولد الاتفاق النووي.
بعد مغادرة أوباما البيت البيض وفوز ترامب برئاسة أميركا، قرر الأخير الانسحاب الأحادي من الاتفاق، وتم تطويق إيران بكافة أشكال العقوبات، وعاد مبدأ صفر تخصيب بوصفه أحد المطالب الأميركية بضغط مباشر وقوي من إسرائيل، مما شكل ضربة قوية للاتفاق النووي أفقدته توازنه وأدخلته في موت سريري.
على مدى سنوات ما بعد الانسحاب الأميركي، ثبت صحة ما ذهب إليه أوباما، إذ لم تنجح سياسة العقوبات والضغوط القصوى في جر طهران للاستسلام والقبول بشروط واشنطن، بل إن البرنامج النووي تقدم تقنيا وبشكل واضح عبر سياسة خفض الالتزام التي أعلنتها إيران وطبقتها خطوة خطوة، يومها شكلت فكرة الذهاب إلى الحرب المباشرة نقطة نقاش حادة، لكنها وفي النهاية لم تكن مقنعة بشكل كامل لدى الشق العسكري من إدارة ترامب بسبب كلفتها الكبيرة وتداعياتها الكارثية على الشرق الأوسط والوضع الدولي. راوح الجميع مكانه، لا العقوبات الأميركية كانت كافية لدفع طهران للخضوع، ولا الإجراءات النووية الإيرانية استطاعت نيل تراجع أميركي واضح، بين الاثنين تم تجميد كل شيء والذهاب لمعركة عض أصابع قاسية بين طهران وواشنطن على قاعدة من سيصرخ أولا.
اليوم مع وجود بايدن في البيت الأبيض، تبدو الخيارات أمام الرئيس الأميركي محدودة، فلا خيار الحرب بات واردا كما كان من قبل، ولا خيار الاعتراف بالفشل وراد أيضا، من هنا تشكلت قناعة لدى جميع الفاعلين ولو نظريا أن لا بديل حقيقيا للاتفاق النووي، على الأقل في المدى المنظور.
في المعلن تتحرك إدارة بايدن في هذا الاتجاه وهي تحاول إعادة إحياء الاتفاق، وإعادة برنامج طهران النووي إلى ما كان عليه عام 2015، واعتماد ذلك منصة للتفكير في الخطوة اللاحقة، وهذا خيار سيصطدم من جديد برفض حلفاء واشنطن خاصة إسرائيل والسعودية، فضلا عن مواجهة شرسة مع الحزب الجمهوري والكونغرس داخل أروقة السياسة الداخلية الأميركية، كل هذا يشير إلى أن الجمهوريين وإن فازوا في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة عام 2024 سينسحبون مجددا من الاتفاق النووي إذا نجحت الجهود الحالية في إحيائه من جديد.
تبدو دوامة الرئاسة الأميركية مقلقة للإيرانيين وبرنامجهم النووي بالمعنى الإستراتيجي، حتى وإن استفادوا من توظيفها تكتيكيا بالمعنيين السياسي والأمني. رئيس أميركي يوقع على الاتفاق النووي ويتبناه، فيأتي رئيس أميركي آخر ينحسب من الاتفاق ويسعى لهدمه، في وقت لا تحظى فيه طهران بمكتسبات الاتفاق الاقتصادية وهي أحد محددات قبولها التوقيع على الاتفاق سابقا، هذا القلق جر النظام ودوائره المهمة في طهران إلى سؤال مركزي: ما الفائدة العملية من كل هذا الطحن السياسي لإعادة إحياء الاتفاق النووي إذا كان كل شيء وفي نهاية المطاف سيبقى مرهونا ببوصلة الناخب الأميركي وأولوياته الاقتصادية؟
في الإجابة على هذا السؤال تبرز أهمية خاصة لمبدأ الضمانات، تدرك طهران جيدا أنه ليس بمقدور بايدن أو أي رئيس أميركي آخر تقديم ضمانات وازنة في هذا المجال، وتدرك أيضا أن ذلك ينطبق على الكونغرس، وربما يكون الأهم من ذلك هو معرفتها أن الاتفاق النووي كان وما يزال غير محصن لا أميركيا ولا أوروبيا، وهذا ينسف فكرة التعويل اقتصاديا على الاتفاق. هذا المنطق جعل طهران تخطو خطوة جديدة في التفكير التفاوضي والتي سيكون لها تأثيرات واسعة إذا تحولت إلى واقع عملي وهي صك مفهوم الضمان الذاتي تقنيا، واعتباره الضمان الوحيد الذي سيرفع التكلفة ويدفع الآخر للتفكير مليا قبل الانسحاب من الاتفاق النووي مستقبلا إذا نحجت الأطراف في إحيائه.
تقوم فكرة الضمان الذاتي على معطى بسيط لكنه مهم، ترفض طهران التخلي أو إتلاف أو ترحيل ما حققته من مكتسبات تقنية متراكمة منذ عام 2015 حين وقع ترامب قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، وهذا يشمل مخزون البلاد من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ونظيره المخصب بنسبة 20%، فضلا عن المخزون الخاص باليورانيوم منخفض التخصيب والذي تجاوز حجم الكمية المنصوص عليه في الاتفاق، كذلك الأمر بالنسبة لأجهزة الطرد المركزية المتطورة كما ونوعا ومخزون البلاد من الماء الثقيل المنتج في مفاعل آراك، وأيضا تجارب متقدمة في بعض الأبحاث كمعدن اليورانيوم، وشروط العودة مجددا إلى البروتوكول الإضافي الخاص بعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشيها على الأرض الإيرانية.
كل هذه المكتسبات معا ودون الدخول في تفاصيلها الفنية المعقدة تشكّل البعد التقني المتراكم لفكرة الضمان الذاتي الذي تصر إيران على الاحتفاظ به داخليا عبر الوصول لصيغة في فيينا.
إذا كانت ورقة القبول بتخصيب اليورانيوم على الأرض الإيرانية التي لعبها أوباما في مفاوضات سلطنة عمان السرية هي من فتحت الطريق عريضا أمام انعطافة إيرانية واسعة أدت إلى توقيع الاتفاق النووي، فإن القبول بورقة الضمان الذاتي في هذه المرحلة هي من ستفتح الباب أمام مفهوم جديد في التعاطي مع إيران، وتعامل طهران مع أي اتفاق نووي قادم، عمليا سيعني ذلك قدرة إيران على العودة ببرنامجها النووي تقنيا إلى ما كان عليه قبل توقيع الاتفاق وخلال أسابيع فقط، وليس خلال 20 شهرا من خطوات خفض الالتزام المتتابعة كما حدث حين خرج ترامب من الاتفاق النووي.
إن حدث ذلك سيكون الجميع دخل مربعا جديدا يحتاج إلى مقاربات جديدة ومحددات جديدة وساعات ضبط جديدة حين يدور الحديث عن إيران وبرنامجها النووي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.