الحرب تدفع تركيا والغرب لإعادة تشكيل علاقاتهما

NATO summit in Brussels: Erdogan - Biden meeting
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يسار) والرئيس الأميركي جو بايدن (وكالة الأناضول)

كانت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى أنقرة منتصف الشهر الجاري بمثابة أول تواصل مباشر للقيادة الألمانية الجديدة مع تركيا منذ أن تولى شولتز السلطة. خلال عهد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، لعبت برلين دورا حيويا في تشكيل العلاقات التركية الأوروبية، وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة بين الجانبين في أحلك الظروف والأزمات بينهما. يأمل شولتز الآن أن يُساعده إرث ميركل ليس فقط في مواصلة عملية احتواء تركيا والحفاظ على مستوى مستقر من العلاقات معها، بل يتطلّع كذلك إلى الاستفادة من وضعها في الصراع الروسي الغربي بشأن أوكرانيا وتوظيفه في إطار إستراتيجية الردع والحوار التي ينتهجها الغرب مع الرئيس فلاديمير بوتين.

على مدى العقد الماضي، أخذت العلاقات التركية الغربية تتدهور بشكل مستمر وصولا إلى أزمة كادت تؤدي إلى انهيار كامل لها العام الماضي عندما هدّدت أنقرة بطرد سفراء 10 دول غربية ردا على بيان يدعو للإفراج عن رجل الأعمال التركي المعتقل عثمان كافالا.

في الأسبوعين الأخيرين، كانت أنقرة وجهة لسياسيين أوروبيين بينهم شولتز والرئيس البولندي أنجي دودا. كما تحدّث الرئيسان رجب طيب أردوغان وجو بايدن عبر الهاتف، ومن المقرر أن يجتمعا أيضا على هامش قمة زعماء حلف شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسل في الرابع والعشرين من الشهر الجاري. في هذا الوقت، تُبدي أنقرة والعواصم الغربية مؤشرات متزايدة على رغبتهما في إصلاح العلاقات والتكيّف مع التحديات الكبيرة التي فرضتها الحرب الروسية عليهما.

على مدى العقد الماضي، أخذت العلاقات التركية الغربية بالتدهور بشكل مستمر وصولاً إلى أزمة كادت تؤدي إلى انهيار كامل لها العام الماضي عندما هدّدت أنقرة بطرد سفراء 10 دول غربية ردا على بيان يدعو للإفراج عن رجل الأعمال التركي المعتقل عثمان كافالا. عكس التدهور في العلاقات اختلاف نظرة كل من أنقرة والغرب للعالم. ففي الوقت الذي ينظر فيه الغربيون إلى صعود الصين والدور الإقليمي المتنامي لروسيا على أنه تهديد لتفوّقهم في نظام ما بعد الحرب الباردة، ترى أنقرة ذلك بمثابة إشارة على التحوّل نحو نظام عالمي مُتعدد الأقطاب وانتقال تدريجي لمركز القوة من الغرب إلى الشرق.

هذه المقاربة دفعت بتركيا إلى تبني نهج جديد في سياستها الخارجية يقوم على التوازن بين الشرق والغرب. وبينما سعى الأتراك والغربيون إلى التعايش مع خلافاتهم وإدارتها بدلاً من معالجتها، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليقلب الحسابات الجيوسياسية لجميع دول العالم بمن فيها تركيا وأوروبا والولايات المتحدة. بقدر ما أحدثت الحرب تحوّلات كبيرة في أولويات أوروبا والولايات المتحدة ودفعتها إلى التركيز على التحديات الأمنية الجديدة التي يُمثلها التهديد الروسي في أوروبا الشرقية، بقدر ما سلّطت الضوء بشكل أكبر على أهمية تركيا بالنسبة للغرب والعكس.

في الواقع، ترى تركيا في صعود الصين وروسيا مقابل تراجع الغرب فرصةً لتعزيز الاستقلال الإستراتيجي في السياسة الخارجية عن الغربيين أكثر منه تهديدا لها. هذا الاختلاف في النظرة إلى العالم خلق بيئة مليئة بالتحديات بالنسبة لأنقرة والغرب. فمن جانب، استفادت موسكو من توتر العلاقات التركية الغربية خلال النصف الثاني من العقد الماضي، وسعت إلى زيادة الشقاق بين أنقرة والغرب. ومن جانب آخر، أصبحت تركيا تعتمد بشكل مفرط على روسيا في تأمين مصالحها. إذ تعتمد أنقرة على تفاهماتها مع موسكو في شمالي سوريا لضمان عدم تعريض وجودها العسكري للخطر، ولدى البلدين أيضا انتشار عسكري مشترك في قره باغ في إطار قوات حفظ السلام لضمان عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا بعد الحرب الأخيرة.

وفي الوقت الراهن، ترعى موسكو عملية إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة ويريفان. علاوة على ذلك، لدى البلدين علاقات اقتصادية مهمة بالنسبة لأنقرة التي تعتمد على ملايين السياح الروس الذين يجلبون مليارات من الدولارات سنويا إلى تركيا، فضلا عن مشاريع التعاون بين البلدين في مجال الطاقة وغيرها إلى جانب التعاون الدفاعي.

على عكس الغرب، تتبنى أنقرة سياسة متوازنة نسبيا في الصراع الراهن. فهي من جانب تدعم أوكرانيا بطائرات مسيرة، لكنها لم تنخرط في جهود الغرب الحالية لتسليح كييف. ومن جانب آخر، تعارض الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكنها لم تنخرط في العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو. مع ذلك، فإن هذا الموقف لا يخفي القلق التركي المتزايد من السياسات التوسّعية الروسية لا سيما في منطقة البحر الأسود. منذ أن شنت روسيا هجوما على جورجيا في 2008 ثم ضمها شبه جزيرة القرم في 2014، بدأ ميزان القوى في البحر الأسود يتعرض لضغوط كبيرة. تفرض الحرب الراهنة معضلة أخرى بالنسبة لتركيا تتمثل في كيفية الموازنة بين مواصلة دعمها لأوكرانيا وعدم تعريض علاقتها مع روسيا للخطر. في هذا المكان الذي تتقلّص فيه قدرة أنقرة على المناورة، يُشكل الدور الفعال لحلف شمال الأطلسي رافعة لتركيا لإحداث توازن في علاقاتها مع روسيا.

بالنسبة لأوروبا، فإن دور تركيا مهم لها في إطار بحثها عن بدائل للتخلص من إدمانها على الغاز الروسي. من شأن دعم مشاريع التعاون في مجال الطاقة بين دول شرق المتوسط وإشراك تركيا فيها أن يُساعد أوروبا على المدى البعيد في إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي.

تُتيح الحرب فرصة لإعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية من منظور يوازن ما بين حاجة كلا الطرفين لبعضهما بعضا في مواجهة التحديات الجيوسياسية المستجدة وبين حاجة أنقرة إلى الحفاظ على علاقتها مع روسيا. بالنسبة لتركيا، العضو في الناتو والتي قامت بعمل توازن دقيق بين كييف وموسكو، فإن الحرب تفرض خيارات صعبة. على المدى القصير، تستطيع أنقرة مواصلة هذا التوازن مع التركيز على تعويم نفسها بوصفها وسيطا بين روسيا وأوكرانيا. لكنّ هذه القدرة ستتقلص كلما طال أمد الحرب التي سيُحدد مسارها مستقبل احتفاظ أنقرة بهذا التوازن. من شأن دعم الناتو القوي والموحد لأوكرانيا، إلى جانب الانتكاسات العسكرية الروسية، أن يوفّر أفضل فرصة لتعزيز التزام أنقرة تجاه أوكرانيا وتجاه الحلف. ستبقى تركيا حليفا قويا لحلف الناتو، لكنّ علاقتها بالولايات المتحدة لا تزال تُشكل عائقا كبيرا أمام تناغمها مع سياسات الناتو. تؤدي سياسات روسيا التوسعية إلى خلق حالة من عدم اليقين بالنسبة لتركيا التي لديها الآن حافز أكثر من أي وقت مضى لرأب الصدع مع حلفائها في الناتو لا سيما الولايات المتحدة.

منذ تولى الرئيس بايدن السلطة، اقترحت أنقرة تشكيل لجنة مشتركة مع واشنطن لحل الأزمة الناجمة عن شراء تركيا منظومة "إس-400" الروسية وإخراجها من مشروع تصنيع مقاتلات "إف-35" الأميركية. كما أبدت إدارة بايدن استعدادها لبحث مشروع بيع تركيا مقاتلات "إف-16" كحل لتسوية النزاع. علاوة على ذلك، سحبت واشنطن مؤخرا دعمها لمشروع "ميد إيست" لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر اليونان وقبرص الجنوبية بمعزل عن تركيا. كما دعمت مساعي أنقرة وتل أبيب لإعادة تطبيع العلاقات بينهما. في المقابل، بدأت اليونان تميل بشكل أكبر إلى الحوار مع تركيا لحل الخلافات المزمنة بينهما بشأن الحدود البحرية والجزر.

وبالنسبة لأوروبا، فإن دور تركيا مهم لها في إطار بحثها عن بدائل للتخلص من إدمانها على الغاز الروسي. من شأن دعم مشاريع التعاون في مجال الطاقة بين دول شرق المتوسط وإشراك تركيا فيها أن يُساعد أوروبا على المدى البعيد في إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي. قد تبدو هذه الخطوات مهمة لفتح مسار جديد في علاقات تركيا والغرب، لكنّها غير كافية دون النظر بعين الاعتبار إلى بعض المشاكل الرئيسية التي تتطلب حلاً كمسألة الدعم الأميركي للوحدات الكردية في سوريا والعقوبات الأميركية على الصناعات الدفاعية التركية.

على الرغم من أن أنقرة تؤيد إعادة تفعيل حلف الناتو، فإن العوائق التي تعترض ذلك واقعية وكثيرة. في أعقاب الحرب الباردة، لم تعد أولويات حلف الناتو مواجهة روسيا. أما الآن، فتسعى الولايات المتحدة إلى إعادة تصويب أولويات الحلف نحو التهديد الروسي، مما يخلق إشكالية لتركيا التي تُحاول إيجاد مساحة لها بين التزاماتها تجاه الحلف وبين مصالحها الوطنية التي تفرض عليها الحفاظ على العلاقة مع روسيا. في غضون ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الالتزام الأميركي المستجد بأمن أوروبا سيدوم في المستقبل.

خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، تدهورت العلاقات بين ضفتي الأطلسي على نحو كبير. الآن في ظل إدارة بايدن، تسعى واشنطن لإعادة ترميم هذه العلاقات. وبالنسبة لأوروبا، فهي باتت تفكر بشكل أكبر في تخفيف اعتمادها على الولايات المتحدة في تأمين مصالحها الأمنية في المستقبل. علاوة على ذلك، فإن تشكيل تكتلات موازية للناتو داخل الحلف تحد من فعاليته في القضايا الكبرى. تعزز فرنسا تعاونها الدفاعي مع اليونان لمواجهة تركيا في شرق المتوسط، فضلا عن تهميش الولايات المتحدة للاتحاد الأوروبي في الاتفاقية التي أبرمتها مع المملكة المتحدة وكندا وأستراليا لتزويد الأخيرة بتقنية الغواصات النووية.

تٌضاف إلى ذلك، مسألة الوجود العسكري الأميركي في اليونان، والتي تخلق مشكلة أخرى في العلاقات التركية الأميركية. تعتقد أنقرة أن الولايات المتحدة تبحث عن اليونان بديلا عن تركيا وتسعى لتطويقها من الجبهة الغربية. على المدى المنظور، ستُحاول أنقرة والغرب التركيز على مجالات التعاون وربما محاولة معالجة بعض الخلافات الرئيسية. مع ذلك، فإن العلاقات الجديدة التي يُمكن أن تُنتجها التحولات العالمية الراهنة، لن تكون على غرار الفترات الماضية لاعتبارين رئيسيين: أولاً، إن التعريف الكلاسيكي للشراكة التركية الغربية التي بدأت مع انضمام أنقرة إلى حلف الناتو كان دافعه الرئيسي الخشية من الاتحاد السوفياتي، لكنّ نظرة تركيا إلى روسيا اليوم مختلفة عما كانت عليه في الماضي. ثانيا، تدفع نزعة تركيا نحو تحقيق الاستقلال الإستراتيجي في سياستها الخارجية عن الغرب إلى تخفيف اعتمادها عليه في كثير من المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.