ضرب الزوجة الناشز بين سلطة الدولة وسلطة الزوج (3)

قدّرت في المقال الأول حول ضرب الزوجة الناشز أنني سأكتب مقالين فقط، ولكن النقاش اتسع. في المقال الأول أثبتّ أن التقليد الفقهي في هذه المسألة هو منظومة محكومة بقيم أخلاقية تناغمت مع منظومة المجتمعات ما قبل الحديثة، وفي المقال الثاني أوضحت أن ضرب الزوجة كان سلوكا إشكاليا منذ زمن التنزيل، ولكن ذلك الاستشكال أخذ أشكالا مختلفة أمكن لنا أن نميز فيها بين أنواع متمايزة، ما يعني أنه ليس كل استشكال للضرب هو بتأثير الحداثة أو التفكير النسوي. وفي هذا المقال الثالث نناقش النزعة النسوية الحديثة لتقنين العلاقة الزوجية من خلال إحالة إجراءات النشوز إلى سلطة خارجية وليس إلى الزوج تحت تأثير إعادة بناء مفهوم القوامة، أي أننا لن نخوض هنا في معنى الضرب أو النشوز، فالنقاش ينصرف فقط إلى سؤال: من المخول بسلطة التأديب في النص القرآني وفي الفقه الإسلامي، وخاصة المذهب المالكي الذي قيل إنه يعطي السلطة للقاضي؟
"الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)" (سورة النساء/ 34- 35).
في سياق الاستشكال الحديث لمسألة ضرب الزوجة الناشز الواردة في القرآن، والبحث عن تأويلات ملائمة للتصورات الحديثة حول الجندر والقوامة والمساواة والسلطة، رأى بعض المعاصرين أن الخطاب القرآني هنا موجَّه إلى نظام الدولة وليس إلى سلطة الأزواج.
وقد جزم بهذا المعنى -مثلاً- خالد أبو الفضل في 2006؛ قائلاً: إن الآية 34 من سورة النساء "ليست موجهة إلى الأزواج إطلاقًا ولكن إلى الدولة"، وقال إنه "لا شيء في الآية يستلزم أن يكون الحل في أيدي الأفراد؛ لأن التاريخ والخلق أظهر أنه عندما توكَل العقوبة إلى الأزواج فبالكاد يمكن الوثوق بهم"، فالمحكمة هي التي تقرر في حالة الشقاق وثبوت نشوز الزوجة بارتكابها خطيئة، فتتخذ قرارًا إما بفسخ الزواج أو بإيقاع عقوبة بدنية عليها، وفي حالة الشقاق الذي لا يشمل ارتكاب كبيرة، يتم اللجوء إلى التحكيم بين الزوجين بحسب تأويل أبو الفضل.
لقيت هذه الفكرة اهتمام بعض المشتغلين بالخطاب النسوي كما نجد -مثلاً- لدى عائشة شودري التي حاولت أن تثبت الفكرة من خلال المذهب الفقهي المالكي؛ فخلصت في 2013 إلى أن "من السمات الفريدة للفقه المالكي، أنه يعطي دورًا بارزًا للسلطة الخارجية كالقضاة والقادة المحليين، في التوسط لحل الخلافات الزوجية"، وذلك استنادًا إلى ما فهمته من عبارة للفقيه المالكي الحطّاب التي ترى أنه "يفترض ابتداءً انخراط سلطة خارجية" في علاج الشقاق بين الزوجين، وتترجم لفظ "الإمام" بالقائد المحلي (local leader)!
لا يقدم أصحاب هذا التأويل الجزئي (أو الموضعي) تأويلاً متماسكًا لعموم النص القرآني المكون من الآيتين السابقتين (34-35)، ويبدو أن الطاهر بن عاشور كان أول من أثار فكرة دور القاضي في تأديب الزوجة الناشز حين أورد احتمالين في تحديد المقصود بالضمير المتصل -أي الواو- في (تخافون) من قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن … واضربوهن)، وهما:
الاحتمال الأول: أن يعود الضمير إلى الأزواج؛ لأنهم مؤتَمَنون على "توخي مواقع هذه الخصال بحسب قوة النشوز وقدره في الفساد". قال: "ويكون إسناد (فعظوهن، واهجروهن، واضربوهن) على حقيقته"، أي أنه ينصرف إلى المعنى الظاهر في الجميع حيث المخاطَب هنا هم الأزواج. قال ابن عاشور: "والظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين، فأذن للزوج بضرب امرأته ضربَ إصلاح؛ لقصد إقامة المعاشرة بينهما. فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا".
وقد خاض ابن عاشور هنا في حد كل خيار من الخيارات الثلاثة (وخاصة الضرب)؛ لخطورته، ولأنه مَظِنَّةٌ لتجاوز الحد من قبل الأزواج، ثم قال: إن الجمهور قيدوه "بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممن لا يُعَد الضرب بينهم إهانة وإضرارًا"، "ويجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يُحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج لا سيما عند ضعف الوازع".
الاحتمال الثاني: بحسب ابن عاشور أن يكون المخاطَب بالآية "هو مجموع من يَصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج، فيتولى كل فريق ما هو من شأنه"، أي أن المخاطب بقوله (واللاتي تخافون …) هو الزوج وولاة الأمور (كالقاضي مثلاً)؛ كلٌّ بحسب اختصاصه.
وعبارة ابن عاشور فيها تكثيف وغموض هنا، وبيانها أننا لو أحلنا الضمير في (تخافون) إلى الزوج وولاة الأمور معًا يكون المعنى: أن الزوج رفع الأمر إلى القاضي، فيحكم القاضي في الخطوات الثلاث (فعظوهن، واهجروهن، واضربوهن)، فالقاضي هو الذي يتولى مسألة الوعظ، ويأذن للزوج بأن يهجر زوجته الناشز إن لم يُجد الوعظ في عودتها عن نشوزها، ويتولى الضرب إن لم يُجدِ الهجر.
عامة المذاهب الفقهية تحيل إلى السلطة القضائية في مسائل الشقاق بين الزوجين، وفي مسائل النشوز إذا ما قرر أحد الزوجين الاحتكام إلى القاضي، ما يعني أن ادعاء وجود سمة فريدة في المذهب المالكي هو مجرد زعم ناتج عن عدم تدقيق وقلة تتبع
ولم يَنفِ ابن عاشور عن الآية مطلق إثبات حق للأزواج في الوعظ والهجر والضرب؛ إذ أورده احتمالاً أول وقال إنه جارٍ على الحقيقة في النص، ثم إن القاضي لا يُخوَّل بالنظر في النشوز إلا بعد أن يَبلغه الأمر بشكاية الزوج، فالسؤال هنا: هل رفع المسألة إلى القاضي واجب هنا؟ لم يوضح هذا ابن عاشور، ولكن الذي قرره المفسرون وفقهاء المالكية أن للزوج أن يستوفي حقه في هذا. وقد بدا ابن عاشور ميّالاً إلى عدم الضرب ومنعه سياسةً؛ نظرًا لخطورته ولعسر ضبطه، ولمنع الإضرار والتعدي الذي قد يقع في تطبيقه؛ بالرغم من أنه لم ينف مشروعيته بحسب تأويل الآية.
ولا شك أن ابن عاشور يدرك أن إحالة الضمير في (تخافون) إلى الزوج وولاة الأمور معًا خروجٌ عن ظاهر النص، وفيه تكلف؛ لأن الضمير في تخافون يجب أن يتسق مع الضمير في الأفعال الثلاثة اللاحقة المترتبة على وقوع النشوز وهي (تخافون، فعظوهن، واهجروهن، واضربوهن)، ومع الشرط أيضًا في (فإن أطعنكم فلا تبغوا)؛ لأن المخاطَب بهذه الأفعال جميعًا واحدٌ في موضوع النشوز، ولا شك أن صاحب الحق في النشوز ومن يخاف وقوعه (واللاتي تخافون) هو الزوج، وأن القادر على الهجر في المضجع هو الزوج كذلك، إلا إذا رفع الزوج المسألة إلى القاضي، فالقاضي يحكم فيها بتخويل الزوج النظر فيها، أما حصر المخاطب بالسلطة فقط فيحتاج إلى تقديرات عديدة في النص؛ لأنه خلاف الظاهر، تبدأ هذه التقديرات من معنى خوف النشوز في (واللاتي تخافون)، وتشمل كذلك تقدير أن الزوج عليه أن يرفع ذلك إلى القاضي، وأن القاضي يأذن للزوج بهجران الزوجة الناشز في المضجع، وهكذا من التقديرات التي ليس في النص أي إشارة إليها!
حاولت إحدى النسويات -كما سبق- الاستعانة بالمذهب المالكي للقول إن علاج النشوز مخول إلى القاضي؛ بحجة أن المذهب المالكي لديه "سمة فريدة"؛ إذ يعطي "دورًا بارزًا للسلطة" في حل الشقاق. ولكن يبرز هنا إشكالان:
الإشكال الأول: أن عامة المذاهب الفقهية تحيل إلى السلطة القضائية في مسائل الشقاق بين الزوجين، وفي مسائل النشوز إذا ما قرر أحد الزوجين الاحتكام إلى القاضي، ما يعني أن ادعاء وجود سمة فريدة في المذهب المالكي هو مجرد زعم ناجم عن عدم تدقيق وقلة تتبع.
الإشكال الثاني: أن عامة كتب المذهب المالكي تنص على حق الزوج في الضرب غير المبرح في حالة نشوز الزوجة؛ فهذا خليل بن إسحاق (776هـ) صاحب المختصر المشهور في المذهب -مختصر خليل- ينص على أن الخيارات الثلاثة هي للزوج فيقول: "ووَعْظُ مَنْ نَشَزَتْ ثم هَجْرُها ثم ضَرْبُها؛ إن ظن إفادته. وبتعديه زَجَره الحاكم وسَكَّنَهَا بين قوم صالحين إن لم تكن بينهم". أي أن الإجراءات الثلاثة هي للزوج وأنها مقيدة بوقوع الإفادة في إنهاء حالة النشوز.
وقد أكد ذلك شراح مختصر خليل، فإن وقع التعدي من الزوج على الزوجة في استخدام هذا الحق، فللزوجة أن تشتكي إلى القاضي، فإن ثبت تعديه أدّبه القاضي، وهذا مذهب الجمهور وليس المالكية فقط! بل إن الإمام الحطّاب المالكي -وهو أحد شراح مختصر خليل- لم يخالف في ذلك، إذ يقول: "اعلم أنه إذا عُلم أن النشوز من الزوجة فإن المتولي لزجرها هو الزوج؛ إن لم يبلغ الإمام، أو بلغه ورجا إصلاحها على يد زوجها، وإلا فإن الإمام يتولى زجرها". ومعنى كلام الحطَّاب الذي التبس على بعضهم هو أن ثمة حالتين هنا:
الأولى: أن لا يبلغ النشوز الإمامَ، وهنا يتولى الزوج التأديب في المراحل الثلاث. والمراد بالإمام هنا القاضي، ويعبر الفقهاء بالإمام؛ لأنه أصل السلطة، فهو الذي يعيّن القضاة، وهم ينوبون عنه وفق تصورات ما قبل الدولة الحديثة.
الثانية: أن يُرفع نشوز الزوجة إلى الإمام، وذلك بأن يلجأ الزوج إلى القضاء، فههنا المسألة متروكة إلى تقدير القاضي للحالة بحسب شدة النشوز وظهور الفساد فيه، وبحسب رجائه لقدرة الزوج على إصلاحه أو عدمه.
ولا يجب على الزوج -عند المالكية وغيرهم- رفع المسألة إلى القاضي ابتداءً، بل يرفعها إلى القاضي إن اختار هو ألا يباشر أدبها بنفسه أو ظن أن الضرب غير المبرح لا يُفيد؛ لأنه يجب أن نتذكر هنا أنه إن ظن أن الضرب غير المبرح لا يفيد في علاج نشوزها حرُم عليه ضربها عند المالكية وغيرهم؛ لأن الضرب إنما أبيح استثناءً للمصلحة، فإذا انعدمت المصلحة صار الضرب مفسدة محضة فيحرم. ويوضح عثمان بن المكي الزبيدي المالكي المسألة فيقول: "فإن لم يباشر الزوج أدبها بنفسه لعدم الفائدة، ورفع أمره في ذلك إلى القاضي، وطلب إسكانها بدار أمناء كان له ذلك بأي وجه من الوجوه كما في فائق ابن راشد".
معنى هذا أن القول إن المالكية يجعلون سلطة التأديب إلى القاضي لا إلى الزوج غير صحيح، وقد أوضح تاج الدين بهرام بن عبد الله الدميري المالكي (803هـ) المسألة فقال: "وما ذكر بعض أصحابنا من أن الإمام يزجرها أولًا، فيريد به إذا بلغه ذلك. فإن لم يَبلغه فإن الزوج هو الذي يعظها ثم يفعل ما تقدم". وكتب المالكية متوافقة على أن للزوج حق التأديب أولاً، وقد أوضح ذلك -على سبيل المثال- ابن عبد البر وابن رشد الجد وآخرون، منهم شراح مختصر خليل.
ولكون المسألة مقررة في المذهب قرر ابن رشد الجد أن "للإمام أن يؤدب الجناة بالضرب كما يؤدب الرجل عبده وأمته، وكما يؤدب الرجل زوجته بالضرب"؛ رغم أنه نقل عن مالك "كراهية ضرب الرجل امرأته"، ولكن النقاش هنا حول ثبوت الولاية التأديبية للزوج عند المالكية، خصوصًا أنهم يرون أن ضرب التأديب (من حيث غايته وتطبيقاته بشروطه) لا يُعدّ من باب الإساءة، كما نص على ذلك الإمام أصبغ بن الفرج (225هـ) وحكاه ابن رشد الجد ونقله الونشريسيّ.
وبالعودة إلى الآيتين السابقتين في مطلع هذا المقال، نجد أنهما تتضمنان 3 مسائل رئيسية هي:
- قوامة الرجال على النساء، وأن الفضيلة والإنفاق علة تلك القوامة؛ ومتى عجز الزوج عن نفقة الزوجة لم يكن قوّاما عليها، بل لا يملك سلطة منعها من الخروج من المنزل عند عامة الفقهاء الذين ربطوا مفهوم النشوز بالخروج من غير إذنه أو الامتناع عن الفراش. وفي هذه الحالة للزوجة أيضًا فسخ النكاح عند المالكية والشافعية. قال إلكيا الهراسي: "إذا خرج [الزوج] عن كونه قواما عليها وحابسا لها، فقد أخلّ بغرض التحصين بالنكاح"؛ لأنه المقصود منه.
- أن النساء صنفان: قانتات حافظات للغيب، وناشزات. فاللاتي نشزن يكون التعامل معهن عبر 3 خطوات (العظة، ثم الهجر المؤقت، ثم الضرب غير المبرّح).
- أن الشقاق -وهو غير النشوز- بين الزوجين يُحل باللجوء إلى التحكيم في إطار حكَم من الطرفين.
فإثبات القوامة للأزواج يتناسب مع منح الزوج حق علاج النشوز؛ لقوامته، ما يعني أن الزوج هو المخاطَب بـ(تخافون، فعظوهن، واهجروهن، واضربوهن)؛ فضلاً عن خاتمة الآية (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا). فالطاعة هنا منصرفة -بحسب الظاهر- إلى الزوج الذي وقع النشوز عنه وأُخلّ بحقوقه التي يضمنها عقد الزواج، فإذا ما عادت عن النشوز بطلت شرعية الإجراءات الثلاثة معًا بحسب نص الآية.
وقد توافق عامة المفسرين على أن الخطاب في المسألة (رقم 2) إلى الأزواج، وروى ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس أن المسألة تخص الزوج، بل أثبت عامة الفقهاء للزوج ولاية تأديبية بالاستناد إلى هذه الآية وبمقتضى عقد الزواج. وقد قال الإمام الماتريدي: "جعل [الله تعالى] تأديبهن إلى الأزواج لا إلى الأئمة"، ولم أجد أحدًا قبل ابن عاشور أشار إلى هذا الاحتمال في النص وأنه يمكن أن يكون المخاطب هنا القاضي أيضًا إلى جانب الزوج، وهو تأويل بعيدٌ كما سبق.
أما الخطاب في المسألة (رقم 3)، أي حول (فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا …)، فهو خطاب إلى الحكام (أي القضاة)؛ لأنهم الذين يتولون الفصل بين الناس في الخصومات، أو إلى الأولياء الذين يتولون تعيين حَكَم من أهلها وحكم من أهله. قال أبو حيان الأندلسي: "لو كان خطابًا للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس"؛ رغم أن الحسن البصري (110هـ) وإسماعيل السُّدي (127هـ) ذهبا إلى أن المخاطب بهذا أيضًا الأزواج.
يتضح مما سبق أن الآية تتحدث عن قوامة تحفظ الحقوق والمسوؤليات، وعن زوجات قانتات ممدوحات، وعن ناشزات وُكل أمر علاج نشوزهن إلى الزوج، وعن شقاق بين الزوجين وُكل أمر علاجه إلى القضاة أو الأولياء.
ويبدو لي أن تأويل الضرب على أنه من اختصاص القاضي فقط، هو فرعٌ عن استشكال قوامة الرجل بتأثير من الفكر النسوي الحديث، وهاجسه قانونيّ يحرص على فكرة التساوي أمام القانون، حيث تبدو المشكلة هنا في قوامة الرجل وليس في مسألتي النشوز والضرب، أي أن المشكلة تبدو كما لو كانت فيمن يضرب لا في الضرب نفسه! ووفق هذا الهاجس يتم اللجوء إلى التأويلات الأيديولوجية الجازمة التي لا تخالف فقط جماهير المفسرين، بل تنفي أيضًا وجود أي احتمال لتأويل آخر يفرضه قانون التأويل، وفي سبيل ذلك يتم اللجوء إلى الانتقائية من التراث والخروج بالنصوص عن معانيها الظاهرة.
يتمحور مثل هذا التفكير حول السلطة وتغليب الجانب القانوني في العلاقة بين الزوجين حيث يريد إقحام السلطة الخارجية في أي خلاف بين الزوجين (نشوز أو غيره)؛ لأنه مهجوس بالقوامة والسيطرة في العلاقة مع الزوج وعدم الثقة بكل الأزواج ابتداء، وكأن التأديب الذي يؤسس له النص القرآني هنا مرهون بالسلطة فقط، ثم إذا كان هذا حال التعامل مع الزوجة الناشز فكيف سيتم التعامل مع ضرب الأولاد، وهل سنحيل البت فيها أيضًا إلى سلطة الدولة؛ رغم أن الوازع الطبعي أسبق من الوازع القانوني، وافتراض عدم الثقة بالزوج ابتداء يسري أثرها على الأولاد أيضًا؟
أدرك الإمام الماتريدي (333هـ) مبكرًا جدًّا أهمية التمييز بين سلطة القضاء وطبيعة العلاقة الزوجية، فعقوبات الأئمة تكون -بحسب الماتريدي- بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه، أما السلطة التأديبية للزوج فتنطوي على قيمة الستر، وأغلب المسائل التي يقع التأديب عليها لا يمكن إظهارها أمام القضاء (من الناحية الإجرائية؛ لخصوصيتها)، وتكون في أوقات تَضيق عن احتمال اللجوء إلى القضاء الذي يستغرق وقتًا طويلاً وفيه تعقيدات كما نعرف. ثم إن تخويل الزوج بالتأديب وعدم اللجوء إلى القضاء فيه حفظ للمودة التي جعلها الله بين الزوجين في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بحسب الماتريدي.
أما "المنازعات والخصومات إلى الحكام" فتقطع المودة؛ فجعل الله للأزواج قدرًا من التأديب (بالقيود الموضحة في المقال الأول من هذه السلسلة) لا يقطع مثله المعنى المجعول بينهم من المودة والرحمة؛ قال الماتريدي: "ولذلك لم يأذن بالضرب المبرح، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جُعلت للألفة والمحبة". ولهذه المعاني كلها مال عامة الفقهاء إلى ترك الضرب، وإذا كان بعض المعاصرين يريد أن يستعين بما يراه خصيصة مالكية في الضبط القانوني، رغم أنه ليس كذلك، فإن الشافعية والحنابلة -على سبيل المثال- نصوا على أن ترك الضرب بالكلية أفضل وأولى في حالة النشوز؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن الحق في النشوز هو للزوج؛ بخلاف ضرب الصبي فإنه لإصلاحه (وفق تصوراتهم). وإذا كان الضرب غير المبرح هنا لاستيفاء حق النفس، فلا شك أن الأفضل والأكمل هو العفو، ثم إن الزوج قد يتجاوز حد التأديب إلى شفاء الغيظ أو الانتقام، ومن ثم فهو بين أن يقع في الإثم أو أن يقع في المؤاخذة القانونية.
الثاني: لإبقاء المودة والرحمة في العلاقة الزوجية، وهي المسألة التي تحدث عنها الماتريدي كما سبق. وبهذا يتضح أوجه الإشكال المتعددة في إحالة مسألة النشوز إلى سلطة الدولة أو القضاء، وأنها فضلا عن الإشكالات التأويلية والنصية، وافتقارها للدقة في النقل عن كتب الفقه، فإنها تفشل في الإمساك بالمنحى الأخلاقي حيث إنها تُغلّب المنحى القانوني، ولا تسائل المفاهيم والقيم الأخلاقية الحاكمة لهذا التصور مثل مفاهيم التأديب والإصلاح، والاستقلالية، والكرامة الإنسانية، وعلاقة المودة والرحمة وتطبيقاتها، وهل الضرب في حالة النشوز إساءة أو لا؟ إلى غير ذلك.
والله أعلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.