جماليات الفيلم القصير في مهرجان "رحمة للعالمين" السينمائي التركي (2)
دق جرس باب بيت جونز -الرجل الإنجليزي- قاطعًا جلسة عائلية دافئة تحلقت فيها الأسرة لتناول الكعك، وحين فتح جونز الباب وجد أمامه موظفا يخبره أن هناك عائلة أخرى مشردة لا تجد مأوى لها. فأبدى جونز تعاطفه وسأل الرجل إن كان يريد لهم ملابس أو أي مساعدات، فتبسم الرجل وقال لا، هم فقط يريدون أن يمكثوا في بيتك.
يحاول الفيلم تقديم رمزية قصة الاحتلال الإسرائيلي في حال حدوثه في بريطانيا حاليا مع الإنجليز أنفسهم، وفق سيناريو درامي خيالي ليحاكي قصة النكبة في إطار معاصر، والفيلم من إنتاج مركز العودة الفلسطيني في لندن وحملة "الاعتذار عن وعد بلفور" البريطانية
استغرب جونز من وقاحة الرجل وقبل أن يبدي أي وسيلة للمقاومة، ظهر فجأة عدد من الجنود المدججين بالسلاح واقتحموا المنزل ليطردوا قاطنيه، ويحلوا محلهم الأسرة المشردة التي تنتظر في الخارج. حينها انتقلت الكاميرا إلى مشهد يعود لعام 1917، حين كان وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور يملي خطابه الشهير على سكرتيرته الخاصة في ما سيعرف لاحقا بوعد بلفور في فيلم "100 شارع بلفور" من إخراج المخرج البريطاني الفلسطيني أنس الكرمي عام 2017، الذي كان ضمن عروض الأفلام الدولية في مهرجان "رحمة للعالمين" السينمائي الدولي للأفلام القصيرة في تركيا هذا العام.
يحاول الفيلم تقديم رمزية قصة الاحتلال الإسرائيلي في حال حدوثه في بريطانيا حاليا مع الإنجليز أنفسهم، وفق سيناريو درامي خيالي ليحاكي قصة النكبة في إطار معاصر، والفيلم من إنتاج مركز العودة الفلسطيني في لندن وحملة "الاعتذار عن وعد بلفور" البريطانية. وهو فيلم قصير مدته 11 دقيقة، وهو أحد الأفلام التي تناولت قضايا عربية شاركت في العروض الدولية للمهرجان.
ومن هذه الأفلام أيضا فيلم "صياد الملح" إنتاج عام 2011 للمخرج الفلسطيني زياد بكري، وهو نجل الممثل والمخرج الفلسطيني المعروف محمد بكري الذي مثل دور كهل يخرج كل يوم للصيد ولا يظفر بأي سمكة، لنكتشف في آخر الفيلم أنه كان يصطاد في البحر الميت، حيث لا سمك هناك.
الحضور العربي في المهرجان على مستوى الأفلام كان قليلا إلى حد ما، فالأفلام قديمة نسبيا مقارنة بنظيرتها التركية أو من دول أخرى، مما يدل على ضعف الإنتاج السينمائي العربي للفيلم القصير. وكانت المفارقة أن هذا الحضور الضعيف على مستوى الأفلام قابله حضور نوعي وقوي على مستوى لجنة التحكيم والضيوف الرئيسيين للمهرجان، فكانت الشخصيتان البارزتان في هذه الدورة من المهرجان -على صعيد لجنة التحكيم والندوات الخاصة- المخرج القدير أسعد طه والمخرج التونسي الفرنسي الشهير ناصر الخمير؛ إذ كانا نجمي هذه الدورة في المهرجان بلا منازع.
وتميزت هذه الدورة بإطلاق السوق الإنتاجي ضمن أنشطة المهرجان حيث يلتقي المخرجون المنتجين ويقدمون لهم مشاريع أفلامهم من الأفلام القصيرة للحصول على تمويل. وهي فرصة للمخرجين العرب، للحصول على هذا الدعم لإنتاج أفلام قصيرة في موضوع مرتبط بالثقافة العربية والإسلامية.
كما كان ملحوظا هامشية قضايا السينما الروحية في أفلام المهرجان رغم أن موضوع المهرجان يتعرض بشكل رئيسي لقضية دينية وروحية وهي القيم التي أتى بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولولا الندوة التي تحدث فيها المخرج التونسي الفرنسي ناصر الخمير وتطرق فيها للموضوع، لغابت القضية بالكلية عن المهرجان. وقد ارتبطت الندوة برحلة الخمير الفنية، ولأن عددا من أعماله تناولت ما يمكن تصنيفه ضمن السينما الروحية، فقد دارت كثير من الأسئلة الموجهة له حول هذا الأمر، ومنها فيلمه الشهير "بابا عزيز" عام 2005 عن رحلة درويش ضرير يسافر مع حفيدته عشتار عبر الصحراء، وفيلم "البحث عن "الشيخ محيي الدين" عام 2012 الذي يتناول فيه تأثير الشيخ محيي الدين بن عربي في الواقع المعاصر عبر رحلة تجوب 10 دول.
الجمهور الأجنبي المستهدف
أقيمت عروض الأفلام وسط شارع الاستقلال التجاري الشهير في إسطنبول قرب ميدان تقسيم في سينما أطلس. وهي قاعة سينما ضخمة وبها إمكانيات تقنية جيدة. وكان واضحا أن المستهدف هو الجمهور الأجنبي المتحدث باللغة الإنجليزية إلى جانب الجمهور التركي بالطبع، لأن لغة المهرجان الثانية هي الإنجليزية إلى جانب التركية، وكل الأفلام مترجمة للغة الإنجليزية، وكانت تتوفر ترجمة فورية في أثناء الندوات المصاحبة للمهرجان.
بالإضافة لمكان العرض في هذه المنطقة السياحية التي تعج بالزائرين من جنسيات مختلفة وكان الحضور مجانيًا من دون تذاكر. ومع هذا، فالحضور لم يكن كبيرا كما لم يسترع انتباهي وجود إعلانات ملحوظة عن المهرجان حتى خارج قاعة السينما. فإذا كان الجمهور المتحدث بالإنجليزية هو المستهدف بشكل رئيسي، لماذا لم يقم المهرجان في ذروة أحد المواسم السياحية أو لٍمَ لم تصاحبه حملة إعلامية وإعلانية باللغة الإنجليزية؟ ولماذا كان الحضور التركي متواضعا؟
أتصور لو أضيفت اللغة العربية للغات المهرجان لكان أجدى وأكثر تأثيرا، خاصة أن هناك عددا هائلا من المتحدثين باللغة العربية سواء من السائحين أو المقيمين، وعددا كبيرا من اللاجئين السوريين المقيمين في البلاد بالإضافة للأقلية العربية المقيمة في محافظات جنوب تركيا. وكل هؤلاء لا تستهدفهم دور السينما العاملة في البلاد التي لا تقدم سوى أفلام تركية أو إنجليزية مترجمة للغة التركية.
على الصعيد الفني العام، يبدو المهرجان واعدا لأنه يقع ضمن المهرجانات القليلة أو ربما شبه المعدومة التي تأخذ الجانب الديني الروحي الإسلامي في الحسبان كموضوع عام للأفلام، في مقابل عشرات المهرجانات التي تتناول موضوعات مسيحية ويهودية وديانات أخرى. ومن هذه المهرجانات، بعض المهرجانات الصغيرة في الولايات المتحدة وأوروبا التي تتناول قضايا العرب والمسلمين هناك. ولا يبدو أن هناك مهرجانا كبيرا نسبيا بهذا الحجم سوى هذا المهرجان ومهرجان قازان الدولي للسينما الإسلامية في جمهورية تتارستان التابعة للاتحاد الروسي. والأمر ليس متعلقا بالدين، بقدر ما يتعلق بقصص من يعتنقون هذا الدين وحقهم في التعبير عن أنفسهم سينمائيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.