الحكاء (38) | أغاثا كريستي.. ماذا فعل شرقنا بها؟

(1)
الحكَّاء صياد ماهر، وساحر عجيب، يعرف كيف يمسك بالتفاصيل البسيطة ليحولها إلى حكاية ملهمة، يسكب فيها من نفسه ومن انطباعاته ومشاعره ليحيك حكاية فريدة، وهذا كان حال أغاثا.
(2)
تصنع الوحدة أحيانًا العجب، فهذه السيدة قضت قدرًا لا بأس به من بدايات حياتها أسيرة المنزل لا تغادره، بعد أن فضَّلت والدتها أن تتلقى طفلتها تعليمها على يدها ويد أختها، لتقضي أغاثا بالفعل أكثر من 8 سنوات تتعلم الكتابة والموسيقى وتقرأ الكتب على يد أسرتها من دون أن تطأ قدماها أي مدرسة، وهي المولودة في عائلة ميسورة الحال من الطبقة الوسطى.
ولأن التغيرات في حياتنا لا تأتي فجأة، وإنما تنتج من تراكمات وتوابع، فقد تَغيّر كثير في حياتها في السنوات التالية، لكن الكتابة ظلت رفيقتها التي غيَّرت حياتها لاحقًا.
في عام 1910 تبلغ أغاثا 20 عامًا، وتقرر مشاركة مجموعة من الطلبة رحلتهم -ضمن البرامج الاجتماعية التي كانت تنظم حينذاك- التي تستمر 3 أشهر، وهي الرحلة الأولى لها خارج بلادها، ومقصدها كان مصر، التي كانت تحت السيطرة البريطانية.
قبل نشر روايتها بسنتين، كان قلبها على موعد مع الكولونيل أركيبالد كريستي، فتزوجته وحصلت منه على لقبها الذي اشتهرت به (أغاثا كريستي)
(3)
في مصر، ربما لم تنبهر أغاثا كثيرًا بمعالم حضارتها القديمة، لكن تلك المعالم ألهمتها كثيرًا، حتى إنها كتبت هناك أول رواية رومانسية قصيرة، أطلقت عليها اسم "ثلج على رمال الصحراء"، لكن الحظ لم يحالفها لنشرها، وظلت طي الأوراق.
تندلع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتنضم أغاثا إلى الكثير من الفتيات البريطانيات اللاتي أصبحن ممرضات في الجيش لدعم الجهود العسكرية. تغير الأجواء الحربية والعسكرية الكثير في فكرها وطريقة كتابتها، فتجد نفسها تتجه نحو كتابة الروايات المتعلقة بالتحقيقات وحل الجرائم.
وهكذا خطَّت في ليالي المعسكرات أحداث روايتها الأولى "قضية ستايلز الغامضة"، وقد كانت محظوظة هذه المرة، فتمكنت من نشرها عام 1916، وفي هذه الرواية شهد قراؤها ميلاد شخصية المحقق الفذ الشهير هيركيول بوارو، الذي فك لغز جريمة السيدة التي قُتلت، ولم يتبقَّ من حولها غير فنجان قهوة مهشم وبعض العلامات القليلة التي تُصَعِّب الوصول إلى الجاني، وصار البعض في إنجلترا على معرفة أولية بشخصية هيركيول بوارو المتحري العبقري، وهكذا نجحت روايتها الأولى التي كتبتها في جنبات الحرب.
الطريف أن هيركيول بوارو لم يكن سوى شخصية خيالية من بنات أفكارها، لكنها بذكاء تحسد عليه استطاعت أن تجسده في عالم رواياتها في السنوات التالية حتى إن بعض قرائها -من شدة تصديق كثيرين لسلسلة روايات هيركيول بوارو- تخيل أنه شخصية تحرِّ قانوني حقيقية.
(4)
قبل نشر روايتها بسنتين كان قلبها على موعد مع الكولونيل أركيبالد كريستي، فتزوجته وحصلت منه على لقبها الذي اشتهرت به (أغاثا كريستي).
وبحلول عام 1923 وكشف لغز مقبرة توت عنخ آمون المصرية الشهيرة، تحمست أغاثا كثيرًا لهذا الحدث، وقررت أن تخبر قرَّاءها أن هيركيول بوارو لا يزال موجودًا، فكتبت قصة قصيرة بطلها محققها السري بعنوان "مغامرة في مقبرة مصرية".
تمر 5 سنوات وتنفصل عن زوجها، وتقرر أن تسافر من جديد، وتختار جزر الكاريبي، لكن قبل رحيلها بيومين يقترح أصدقاؤها وجهة بديلة وهي بغداد، حيث سيكون سفرها عبر قطار الشرق السريع الفاخر بعد الخروج من بريطانيا نحو الشرق.
تكمن عبقرية أغاثا في قدرتها على تحويل ما يدور حولها إلى إلهام قصصي، فرحلة عبر قطار فاخر كانت كافية لتلهمها بواحدة من أكثر رواياتها نجاحًا وأكثرها انتشارًا في تاريخها، وذلك من دون أن يكون ثمة حدث غير مألوف في الرحلة أو أمر خارق للعادة؛ مجرد رحلة على متن قطار تتحول إلى حكاية تسلب قلوب القراء وعقول المشاهدين بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي بعد ذلك بعقود طويلة، وهي رواية "جريمة في قطار الشرق السريع".
تصل أغاثا إلى العراق، وتتوجه إلى موقع أثري شهير لمدينة أور التي كانت عاصمة الدولة السومرية، تلتقي صدفة بعثة بريطانية تنقب عن الآثار في تلك المدينة الزاخرة بالتاريخ، يشارك في هذه البعثة الأستاذ الجامعي ليونارد وولي وزوجته عالمة الآثار كاثرين وولي التي كانت من محبي أغاثا بشدة.
تنبهر أغاثا بأعمال التنقيب والحفر، ويشجعها العالمان على مرافقتهما، حتى إنهما وجها لها دعوة عام 1930 لتشارك معهما في أعمال البعثة، لكنهما لم يتوقعا أن تكون دعوتهما بوابة واسعة للكثير من التغيرات في حياتها.
تلتقي أغاثا في أور السومرية العراقية الباحث والعالم ماكس مالوان، الذي كان يبلغ من العمر وقتها 25 عامًا، وقد حضر إلى البعثة بعد تغيبه عن البعثة الأولى بسبب مرضه، ليقع اللقاء بينه وبين أغاثا للمرة الأولى.
(5)
تتلقى أغاثا رسالة من بريطانيا بأن ابنتها روزاليند أصابها المرض، وعليها الحضور لأجلها سريعًا، فتعود بالفعل إلى بريطانيا بصحبة ماكس مالوان الذي يصغرها بـ14 عامًا تقريبًا، ولم يكونا بحاجة إلى أكثر من 6 أشهر حتى يتخذا قرار الزواج من دون النظر لفارق العمر بينهما، فقد جمع بينهما الحب والتنقيب، وكانت مهماته الاستكشافية ملهمة لها ورواياتها ممتعة له.
تكتسب أغاثا خبرة واسعة في رحلات التنقيب والاستكشاف التي شاركت فيها مع زوجها، لدرجة أنها تولت الإعداد لرحلاته والتأكد من مقتنيات كل رحلة وتجهيزاتها، بل صارت تشاركه في مهام التنقيب في الشرق الأوسط، وقد كان كلاهما سعيدًا بتلك المشاركة المبهجة والداعمة.
تقرر أغاثا في ما بعد أن تكتب رواية عن عمليات الحفر والتنقيب في سوريا والعراق، حاملة معها تلك النكهة الغامضة التي تحب إضافتها دومًا لما تكتبه، جامعة بين ذكريات المدن الجميلة والموهبة وحب الكتابة
في عام 1922 توجها إلى مصر من جديد، ثم إلى جنوب السودان على متن سفينة كانت مملوكة للعائلة المالكة في مصر، وتحولت لاحقًا إلى سفينة سياحية. جابت السفينة مسارها عبر النيل في حين كانت أغاثا تسجل ملاحظاتها وأفكارها عما تشاهده من أجواء لا شبيه لها في بريطانيا.
أحب ماكس سعادة زوجته أغاثا في مصر برؤية النيل والأجواء الجميلة فيه، فكان يصحبها في كل رحلاته إلى هناك، حتى إنها عادت بعد هذه الرحلة بعدة سنوات إلى أسوان، فأقامت برفقة زوجها في فندق "الكتاراكت" الشهير، وقضت هناك مدة طويلة في نافذة غرفتها جالسة أمام النيل، تستلهم منه ويلهمها دون توقف.
حولت أغاثا تلك الإقامة الطويلة في ما بعد إلى واحدة من أشهر وأنجح روايات مسيرتها بالكامل وهي "جريمة قتل على النيل"؛ فقد جمعت فيها بين نظرتها العبقرية في روايات الغموض والجريمة وبين الأجواء والملاحظات التي سجلتها عن النيل ومساراته وما حوله، لتقدم عملًا عبقريًّا.
ظلت أغاثا بعد سنوات من كتابة روايتها عن النيل متعلقة بمدينة أسوان لا تنساها، حتى إنها ظلت كلما قرأت الرواية تتذكر أيامها وهي جالسة فيها أمام النيل، بل وتتخيل نفسها من بين شخوص الرواية تحيا بالقرب من شاطئ النيل، فأحداث الرواية تدور مع المحقق هيركيول بوارو بجانب فندق الكتاراكت والشخوص والأحداث كلها تتمركز حول النيل وأسوان ووادي حلفا تحديدًا، كونها واحدة من أكثر المدن التي أحبتها أغاثا واستلهمت منها الكثير.
(6)
تندلع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وتتوقف رحلات أغاثا وزوجها إلى الشرق الأوسط، تعود إلى بريطانيا برفقة ابنتها، ويبقى زوجها فترة في القاهرة بعدما تولى وظيفة في وزارة الطيران المصرية لإتقانه العربية وحاجتهم إلى وجوده بسبب ظروف الحرب.
وعلى الرغم من توقف رحلات أغاثا نحو الشرق الأوسط الذي أحبته، فإنه ظل عالقًا بذهنها بوضوح، فكتبت خلال فترة الحرب العالمية الثانية مذكرات حكت فيها مغامرات واكتشافات زوجها في مصر والسودان.
تقرر أغاثا في ما بعد أن تكتب رواية عن عمليات الحفر والتنقيب في سوريا والعراق، حاملة معها تلك النكهة الغامضة التي تحب إضافتها دومًا لما تكتبه، جامعة بين ذكريات المدن الجميلة والموهبة وحب الكتابة.
لقد وجدت أغاثا في مدن الشرق البسيطة الفقيرة التفاصيل التي تميز الحياة العادية، والتي كانت ترى أنها أكثر إلهامًا من الاكتشافات الأثرية الخارقة، فحتى أدوات الطعام والمصنوعات اليدوية وغيرها من الأمور البسيطة كانت كفيلة بمنحها الصورة التي تبحث عنها ولا تجدها في بلادها.
(7)
ربما كانت الدول الأوروبية جميلة بما يكفي لتبهر أنظار كثيرين، لكن التفاصيل البسيطة بجمالها وبساطتها التي وجدتها أغاثا في الشرق ألهمتها لتكتب كثيرا من رواياتها في واحدة من أغرب المفارقات التي شكلت حياة كاتبة عاشت الشق الأكبر من طفولتها لا تبارح حدود مدينتها أو حتى قريتها، لتجد نفسها تكتب عن عالم لم تتخيله، أو ربما سمعت عنه ما يرويه أنصار الفكر الاستعماري الغربي عن المجتمع العربي الشرقي، لكنه وحتى هذه اللحظة يُجَسَّد في أعمالها التي تتحول تباعًا لنسخ سينمائية ودرامية تجذب أنظار الملايين من المشاهدين حول العالم.
وترحل أغاثا كريستي عن عالمنا يوم 12 يناير/كانون الثاني 1976، تاركة خلفها عشرات الروايات التي لا تزال تُترجم وتُقرأ حتى الآن وتبهر كثيرين، وخلدت معها قصتي حب فارقتين: الأولى لزوجها، والثانية لأرض يجري فيها ينبوع صاف ألهم حكاياتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.