متى تعتذر السينما للغة العربية الفصحى؟

مشهد من فيلم المصير للمخرج يوسف شاهين (مواقع التواصل الإجتماعي)

يدخل الفقيه ابن رشد على الخليفة أبي جعفر المنصور في قصره، فيجده مستلقيا على أريكته يلعب بإحدى قطع الشطرنج. يخاطب المنصور ابن رشد باللهجة المصرية العامية قائلا: أخيرا جئت. فيسأل الأخير إن كان الخليفة مريضا، فيجيبه بالنفي ويدعوه للعب الشطرنج في ساعة متأخرة من الليل، لأنه يعاني الأرق. وبينما يلعب الخليفة والفقيه، يتبادلان الحديث عن أولاد الخليفة الناصر وعبد الله، ويسدي له ابن رشد نصائح في التربية وهما يتجاذبان أطراف الحديث بكثير من الود والأريحية باستخدام التعبيرات الشعبية المصرية، كما لو كانا يجلسان على مقهى وسط القاهرة في فيلم "المصير" من إخراج يوسف شاهين عام 1997.

يعد الفيلم واحدا من النماذج الشديدة الندرة التي كسرت حاجز احتكار الفيلم التاريخي للغة العربية الفصحى، إذ غامر شاهين بأن جعل لغة الحوار في قضية تاريخية هي الأندلس وعن شخصية فلسفية وفقهية مرموقة هي ابن رشد بالعامية المصرية، رغم أن موضوع الفيلم بعيد كل البعد تاريخيا عن مصر ولهجتها المعاصرة. واستطاع بذلك أن ينقل قضايا الفلسفة والفقه وقصص الأندلس من النقاش التاريخي الجاد إلى اللهجة المحلية، لتقديم جسر فكري بين الماضي والحاضر. وبعيدا عن الجدل التاريخي الذي أثاره الفيلم في حينه، إلا أن هذه المغامرة الفنية لم تتكرر بشكل معكوس، أي لم يغامر أي مخرج بجعل اللغة العربية الفصحى هي لغة الحوار في فيلم درامي عادي ليس تاريخيا.

لقد استعارت السينما ولا تزال من الأدب العربي روحه القصصية وطريقته في السرد، كذلك استعارت كثيرا من التراث المسرحي للأدباء الكبار وحولته إلى أفلام، لكنها كانت ابنا غير بار للأدب العربي، حيث ظلمت الفصحى ولم توفّها حقها

وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، إذا عقدنا مقارنة بين السينما كوسيط للعرض والوسيط السابق لها وهو المسرح واللاحق لها وهو التلفزيون، نجد أن المسرح والتلفزيون قد أسديا خدمات جليلة للغة العربية الفصحى، وأن السينما مدينة بالاعتذار للفصحى لأنها قصرت بشدة تجاه هذه اللغة. فقد عرف المسرح العربي اللغة الفصحى على مستويات مختلفة، وكان لأمير الشعراء أحمد شوقي مسرحيات شعرية بالفصحى في مواضيع غير تاريخية، مثل مسرحية "البخيلة" عن سيدة تعيش في القاهرة عام 1907.

إعلان

هناك أيضا مسرحية "الأيدي الناعمة" باللغة العربية الفصحى للأديب توفيق الحكيم، بالإضافة لمسرحيات أخرى مزجت بين خطين دراميين أحدهما بالفصحى والآخر بالعامية لجيل لاحق لهما، مثل مسرحية "الساحرة" من تأليف يسري الجندي وأشعار جمال بخيت.

وعلى خطى المسرح ذاتها، سار التلفزيون في العالم العربي، فغني عن البيان أن الشاشة الصغيرة حافظت على حد أدنى من اللغة العربية الفصحى على الأقل على صعيد نشرات الأخبار وكثير من البرامج، قبل ظهور القنوات الإخبارية التي ازدهرت معها اللغة العربية الفصحى وأدخلتها صوتا وصورة إلى كل بيت. أما السينما فحصرت اللغة العربية في سجن التاريخ وكأنها جزء من الماضي، من دون أية محاولات ولو على الصعيد التجريبي في جعل اللغة الفصحى لغة الفيلم الدرامي العادية. وليس لمؤلفي الأفلام ولا المخرجين أو المنتجين أي عذر في هذا الأمر، فالذي يجعل الأطفال في سني عمرهم المبكرة يهضمون الفصحى ويحبونها في أفلام الكرتون، يجعل الكبار يفعلون الأمر ذاته، الفارق الوحيد هو عدم إقدام أحد على هذه الخطوة.

السينما وتعليم اللغة العربية

من المعلوم والمفهوم أن السينما ليست وسيطا تعليما بالأساس، إلا أنها مثل المسرح يمكن أن تستخدم لأغراض تعليمية. فقد كان المسرح ولا يزال أحد الوسائل الفعالة في العملية التعليمية في مختلف المدارس في عديد من البلدان والثقافات. ومرة أخرى أثبت المسرح المدرسي والجامعي قدرته على احتواء اللغة العربية وتعزيز ممارستها من الأطفال والشباب، بينما توارت السينما وتراجعت بشدة في هذا المجال لأسباب غير مفهومة أو مبررة.

يقترح الباحث المغربي أكثيري بوجمعة استخدام الفيلم القصير باللغة العربية الفصحى، كأحد آليات تعليم العربية لغير الناطقين بها. ويضيف في دراسته عن كيفية توظيف السينما لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة ابن طفيل في المغرب، أن يكون الفيلم مرتبطا بموضوع الدراسة بلغة مناسبة منهجيا لعملية التعليم، وأن يستهدف استقاء المعارف اللغوية أثناء مراحل العرض والمناقشة بعد العرض مع الطلاب، وتحليل المشاهد لغويا وبصريا كنشاط تعليمي مصاحب. الأمر نفسه ينصح به كيران دوناغي الحاصل على جائزة المجلس الثقافي البريطاني لابتكار وسائل تعليمية للمعلمين عام 2013. وقد ابتكر دوناغي مشروع "فيلم إنجليزي" (Film English) الذي حصد به هذا الجائزة، ويتيح لمدرسي اللغة الإنجليزية وطلابها استخدامه، ويعتمد على استخدام عدد كبير من الأفلام الدرامية القصيرة المخصصة لتعليم اللغة الإنجليزية بطريقة تمزج بين الشغف والمتعة والتعليم في آن واحد.

إعلان

استخدام المشروع للأفلام ليس اعتمادا على وسيط مساعد في العملية التعليمة، ولكن كوسيط رئيسي، إذ لديه ما يربو على 200 فيلم من مختلف الأنواع تخدم موضوعات معينة، يستخدمها كوسيلة رئيسية لتوصيل المفاهيم اللغوية للدراسين. ويمر الطلاب من مرحلة لأخرى بعد مشاهدة مجموعات مختارة من الأفلام، وفق منهجية تعليمية محددة يتعرف عليها الطالب سلفا.

لقد استعارت السينما ولا تزال من الأدب العربي روحه القصصية وطريقته في السرد، كذلك استعارت كثيرا من التراث المسرحي للأدباء الكبار وحولته لأفلام، لكنها كانت ابنا غير بار للأدب العربي، حيث ظلمت الفصحى ولم توفِّها حقها. فلا يمكننا الفصل بين اللغة الأدبية الراقية التي كتب بها هذا الأدب وروحه الحقيقية التي يختفي كثير منها عندما يتحول إلى حوارات بالعامية على شاشة السينما. وقد آن الأوان لأن تعتذر السينما العربية للغة العربية الفصحى، وتعيد لها الاعتبار في أعمال سينمائية بعيدا عن الجانب التاريخي لتتحرر من الماضي قليلا وتنزل باللغة الفصحى إلى أرض الواقع. وإن كان هذا الأمر ممكنا وممتعا على صعيد الأفلام العادية، فهو ضروري ومطلوب على صعيد عملية تعليم اللغة العربية، سواء للناطقين بها أو غير الناطقين بها كوسيلة ناجعة للحفاظ عليها وتعزيزها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان