الدكتور حمد الكواري يكتب: كأس العالم.. حتّى لا تكون "آفة حارتنا النسيان" (3/4)
فرَض كأس العالم علينا جميعًا إيقاعا خاصّا في حياتنا اليوميّة، نستيقظ لننام على وقع المباريات، وما يحدثُ في محيط الملاعب وفي الشّوارع والأسواق من حركية ونشاط للمشجعين، حقا لقد غيّر مونديال قطر عاداتي الشخصية.
لم يكن صائبا القول إن كأس العالم مجرد فرجة أو منافسات رياضية ترفع حمية المشجعين أو مجرد محرك لاقتصاديات مختلفة، لأن في هذه اللعبة ما يغير حقا الأفراد والمجتمعات. ربما لم نكن ندرك ذلك طيلة عقود من متابعتنا لهذا الحدث ونحن أمام جهاز التلفزيون، لا نتعامل معه إلا كصورة مرئية تحرك مخيالنا ومتعتنا.
بينما اختلف الأمر ونحن نعيش في داخل الحدث وعلى مقربة مما يثيره من تفاصيل وكواليس وظواهر. بدا الأمر مختلفا، بل هو إدراك آخر شبيه بنوع من التورط وجدانيا وذهنيا فيما يحدث، لا في الملاعب وإنما وحتى خارجها في الشوارع والأماكن العامة والمراكز التجارية والأسواق ووسائل النقل، وحتى في الفضاءات الافتراضية التي يتيحها عصرنا الرقمي من جدران فيسبوك وتغريدات تويتر وعوالم إنستغرام وغيرها من التطبيقات. هل يستطيع أحد اليوم في قطر أن يقول إن المونديال مر من هنا دون أن يثير فيه شيئا ما، أو يحرك فيه فكرة أو يدفعه لفعل شيء نبيل والعالم في ضيافته؟
لقد اتسعت دائرة المبادرات الثقافية والمجتمعية لتكون هذه النسخة من المونديال استثنائية حقا. سارعت المؤسسات الثقافيّة إلى تأثيث برامج وفعاليات متنوعة لفائدة المشجعين، صارت الدوحة خلية نحل حقيقيّة لا تهدأ، وفي كل يوم أتابع فيه المستجدات، ينتابني الشعور بأن كأس العالم تحولت إلى حدث ثقافي، ومن بين ما استحسنته إقدام بعض المؤسسات الإعلاميّة على توثيق الفعاليات، وتقديم مقاربات عميقة لها.
وما وقفت عليه في كتاب مهم للغاية أصدرته مؤسسة "العربي الجديد" تحت عنوان "سحر كرة القدم، أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة"، وقد أعده وحرره الأستاذ معن البياري، وضم الكتاب حقا تجارب الكتاب في علاقتهم بكرة القدم، ووجدت فيه بوحا واعترافات مهمة لمبدعين من كل القارات حول منزلة كرة القدم في حياتهم، بعضهم تورط في اللعبة، وبعضهم ظل متابعا لها ومشجّعا، والطريف في كل تلك الشهادات اشتراكها في الإقرار بـ "السحر" الذي تمارسه الرياضة الأكثر شعبية في العالم.
من ذلك ما ذكره الشاعر اليوناني ديمتريس أنجيلس "تكون كرة القدم تعبيرا عن شغف مازال يوحدنا أو يفرقنا. بمعنى آخر، إنها تثيرنا، تسحرنا، وتجعلنا نحس أننا أحياء، حتى لو كانت مشاركتنا الجسدية قليلة، وبتنا عاجزين عن فعل أي شيء ما عدا القفز والصياح بسبب القلق، فيما نحن نشاهد مباراة كرة قدم من الأريكة أو مدرجات الاستاد"، حتما تورطنا في هذه اللعبة بتفاوت وشعرنا بأنا صرنا جزءا من الحدث، وفجأة تحول "المستهلكون للفرجة" إلى "منتجين للفرجة"، ما يتغير فقط هو موضوع الفرجة، وقوانين اللعب!
وإذا كان الكتاب معبرا عن تحول "كرة القدم" إلى جزء من حكاية كاتب، وجزءا من مسيرة حياته، بتأثيرات متفاوتة، فإن كرة القدم لم تستأثر بتشكيل هوية ما للاعبين، بل استطاعت أن تساهم في كل دورة في إثارة موضوع "الهويات" واختلاف الثقافات، وفي هذا المونديال نجحت قطر في فرض "نمط ثقافي" يسمو بالمبادئ التي طالما رفعتها مؤسسات أممية، ولا نشك في أن الفعاليات الثقافيّة التي كانت تنظم في فضاءات عديدة عكست التنوع الثقافي بقدر ما عبر العديد منها عن "الهويّة الثقافيّة" للبلد المستضيف، فلم تدر قطر ظهرها لمسألة الهوية ومقوماتها، فقد كان من رهانات المونديال أن يقدم القطريون ثقافتهم وأن يقنعوا العالم بقدرتهم على التفاعل مع من يحترمهم.
وسعت المؤسسات الثقافية إلى نشر الوعي بالثقافة الوطنية والتعبير عن التفاعل مع الثقافات الأخرى، من ذلك ما قامت به المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا"، حيث نظمت مئات الفعاليات، وفي مختلف الأنواع الإبداعية، كما نظمت النسخة الثانية عشرة من مهرجان كتارا الدولي للمحامل التقليدية، بالإضافة إلى مهرجان فنون الشارع الذي يقام في جميع أروقتها، ويجمع الفنانين والممثلين والموسيقيين من كل أنحاء العالم ليقدموا بحرية مسؤولة إبداعهم بشكل فردي أو جماعي. ونظمت متاحف قطر مبادرة "قطر تبدع" بإقامة المعارض الفنية، ووضعت أكثر من 80 مجسما في أنحاء قطر.
كما قامت مكتبة قطر الوطنية بإنجاز فعالية "تحدي المعلومات الرياضية" الذي يتطلب من الأطفال قراءة مقالات قصيرة عن الرياضة والإجابة على الأسئلة المتعلقة بها، بالإضافة إلى المعرض التوثيقي "جووول! ضربة البداية لكرة القدم في قطر" الذي يسلط الضوء على رحلة كرة القدم وتاريخها وازدهارها في دولة قطر منذ بداياتها حتى وقتنا الحاضر.
وافتتحت وزارة الثقافة المقر الجديد والدائم لـ "درب الساعي" في أم صلال محمد، وهي منطقة تراثية، فأنشأت تصورا جديدا لتقديم الثقافة القطرية، ولتعزيز المشاعر الوطنية، واستقبل "درب الساعي" ضيوف المونديال للاطلاع عن كثب على ثراء ثقافتنا الوطنيّة، ولم يقتصر هاجس التعريف بثقافتنا الوطنية على المؤسسات الرسمية بل سارعت جميع الفئات الاجتماعيّة للتعبير عن ذلك، فتحول كل فرد إلى سفير لبلاده، وترجمان لثقافة الأجداد والآباء.
وقد أبدى القطريون ترحابا بضيوف بلدهم، رغم ما كان يروج في الإعلام الغربي من أباطيل، وكان المواطنون جنب ملعب الثمامة يستقبلون المشجعين فيحملون الماء والفواكه والحلوى لتقديمها لهم في علامة على حسن الضيافة، وكان الأطفال في عديد الأمكنة يهدون المشجعين الورد. وأمّا المجالس فقد استقبل عددٌ كبيرٌ منها زوّار المونديال، فكانت لهم فرصة سانحة للتعرف على الثقافة القطريّة ومجالسة القطريين وتبادل الآراء، فوقفوا على تلك الوظيفة التي لعبها المجلس -وما يزال- في تفاعل الثقافات، واقتربوا أكثر من الآداب القطريّة فشهدوا مضامين العادات والتقاليد، بحماسة من يريد التعرف على المختلف، في سياق الكرم الذي لم يبخل القطريّون بتقديمه كلّ يوم من أيّام المونديال.
كثيرًا ما كنتُ أتحدث وأحاضر وأكتب مقالات وأؤلف كتبا عن أهمية "بناء الجسور" بين الثقافات، وفي هذا المونديال العظيم وجدت حروفي وقد تحولت إلى حقائق، وآمنت أكثر بأن قضيتي لم تكن مجرد محاولات يائسة في تحقيق بعضٍ من أحلام الإنسانية في التقارب بين الشعوب، فقد استطاع القطريون بتمسكهم بهويتهم الوطنيّة وثقافتهم أن يبنوا ذلك الجسر الذي لم يكن يشترط -كما توهم الغربيّون- تخلّي أهل الثقافات المحلية عن ثقافتهم وهويّتهم، أو أن يتبنّوا تلك المبادئ الكبرى لاحترام الآخر وحقوق الإنسان بشرط التنازل عن الهويّة الوطنيّة وقبول كلّ شيء باسم "الانبطاح والتبعيّة" للغرب ثقافيّا.
وهذا درسٌ جديد يقدّمه القطريّون والعرب والمشجعون من كلّ أقطار العالم الذين عاشوا التجربة الموندياليّة، ليعلنوا أن التعايش أمر ممكن دون شروط تفرضها رؤية منحرفة للمبادئ وتغلب قضايا هامشيّة وفئويّة ضيقة من أجل التشويش على الحدث، ولذلك عادت من جديد أسئلة الهوية والعلاقة الثقافية بين العرب والغرب، وحرك المونديال "الذاكرة الجماعية " للشعوب، لقد وجد العرب والمسلمون تخصيصا في النجاح التنظيمي المبهر لكأس العالم نوعا من استعادة الأمجاد العربية الإسلامية حين كنا نقود ركب الحضارة، ومزية هذا الحدث أنه لا يولد ذلك الشّعور بالنخوة والاعتزاز بالانتماء لهذه الحضارة فقط وإنّما يحرّك دوافع الإبداع من جديد ويرسم أفق الأمل في استئناف ما كانت عليه حضارتنا.
ولم يكن كأس العالم فرصة لترويج ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة فحسب، بل ساهم في إيجاد أرضيّة شعبيّة للتذكير بالقضيّة الفلسطينيّة باعتبارها قضيّة إنسانيّة قبل أن تكون سياسيّة، وحين ارتفع العلم الفلسطيني في ملاعب الدوحة وشوارعها فإنّ السّواعد التي رفعته وحملته لم تكن سواعد العرب والمسلمين فقط بل كانت سواعد المشجعين من كلّ أنحاء العالم، وهذا دليل على شرعيّة هذه القضيّة، وأنّ الرياضة لا تحجب العمق الإنساني للقضايا، باعتبار أنّها تنطوي على مثل إنسانيّة قبل كلّ شيء.
إنّ ما قام به كأس العالم هو أعمق ممّا يتصوّره البعض من إحصائيات ومنجزات في المباني لأنه يتعلق بما أسميه بـ " تحريك الدافعية" للذاكرة التاريخيّة، لأنّ هذه الذاكرة هي أحد المحركات لتقدم الشعوب، وقد عملت قوى غربية في السابق على تقويضها ولكن مرآة كأس العالم أثبتت أنه لا يُمكن التلاعب بهذه الذاكرة، لذلك تعدّ الجوانب الثقافية لكأس العالم هي الركائز لهذه الذّاكرة، ولئن سقطت بعض أجزاء الذاكرة في النسيان لأسباب عديدة، فإنّ كأس العالم أعادت تنشيط ما هو قابع في النسيان أيضا ليَخرج إلى الحياة من جديد، وهكذا نرى كأس العالم جسرا جديدا نحو العالم والتقدّم، وجسرا جديدا نحو ذاكرتنا الحضاريّة حتّى لا تظلّ "آفة حارتنا النسيان" كما قال نجيب محفوظ يومًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.