أحاديث الصبر على الحكام الظلمة تخص وقت الحرب لا السلم

يعتمد الاستبداد في بلادنا العربية والإسلامية على منظومة ترسخ استبداده، ومن أهم أدواته على مر التاريخ شيوخ السلطة، وذلك من خلال توظيفهم النصوص الدينية التي تمنع الشعوب من مقاومته، أو رفض ظلمه، تحت ذريعة السمع والطاعة للحكام، وأنه أمر قرآني ونبوي. والنموذج الأبرز في هذا المقام ما يتم الاستشهاد به من المانعين لمعارضة الحاكم، أو التظاهر السلمي، والرفض لظلمه، وتركه العدل بين الرعية، من أحاديث الصبر على الأمراء، وطاعة الأمراء، ولو كانوا ظلمة.
رغم أن هذه الممارسات تدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في باب الخروج على الحكام كما يصور فقهاء السلطة؛ فالخروج على الحاكم كان يناقش لدى الفقهاء في الخروج بالسلاح، أما النصح والإرشاد، والتعبير بكل معانيه السلمية، فليس في هذا الباب مطلقا، وحتى هذا اللون السلمي المشروع منعوه بدعوى: السمع والطاعة، والصبر على الحاكم وإن كان ظالما.
فقه الحرب استثنائي، ينبع من حالة الحرب نفسها التي هي حالة استثنائية، فالحرب في الأساس ليست الأصل في الدين أو الدعوة، فهي حالة كره، وحالة اضطرار، وحالة رد عدوان، وليست حالة مبادئة، وحالة قتل وقتال، وهي حالة مؤقتة وليست مستمرة
فمصطلح "الأمير" في عهد النبوة مقصود به أمير الجيش، وقائد القتال، وليس الوالي والعامل ورئيس الدولة، ولطاعة أمراء الحرب في القتال مقتضيات ومقاصد وآليات مختلفة تماما عن شورى ومراقبة ومعارضة الحاكم في شؤون السلم والعمران؛ فميدان الحرب له أحكام تختلف تماما عن أحكام السلم.
نصوص متعلقة بأمراء الحرب
والمتأمل لمعظم هذه النصوص النبوية التي وردت في الطاعة للحكام، أو الصبر على ظلمهم، سيجدها تتعلق بنوع من الإمارة، لم يبينه مشايخ السلطة، لأنه يدل على فقه استثنائي، وهو فقه الحرب، وأمير الحرب، وأن بقية النصوص التي يخفونها -للأسف- تتعلق بالحق في ممارسة معارضة الحاكم ظالما كان أو عادلا، أو عزل الحاكم الظالم بالوسائل المشروعة لعزله، فسحبوا النصوص الخاصة بالحرب وأميرها، لتكون نصوصا عامة على كل أمير وكل حاكم، وكل مسؤول، وهو ما يعد خطأ علميا عند من لا يتعمده، وجرما علميا عند متعمده.
ولنبدأ أولا بالتمييز بين أمير السلم وأمير والحرب، وفقه السلم، وفقه الحرب، كي نعرف الفرق ولنفهم السياق الحقيقي لهذه النصوص التي وردت في الصبر عليهم، وإلى أي مدى يمكن الصبر على مظالمهم حينئذ.
الفرق بين فقه السلم والحرب
فقه الحرب فقه استثنائي، ينبع من حالة الحرب نفسها التي هي حالة استثنائية، فالحرب في الأساس ليست الأصل في الدين أو الدعوة، فهي حالة كره، وحالة اضطرار، وحالة رد عدوان، وليست حالة مبادئة، وحالة قتل وقتال، وهي حالة مؤقتة وليست مستمرة، ولذا كان فقهها فقه استثناء، وفقها مؤقتا وليس فقها دائما مستمرا؛ فرق بين فقه الضرورة وفقه الأصل.
عبادة السلم والحرب
الصلاة في السلم مطلوب من الإنسان أن يصليها مطمئنا، وكله سكينة ووقار، كما قال صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة والوقار". ولكن حالة الحرب لا يتحقق فيها هذا الأمر، ولذا تغيرت هيئتها وحالتها بما يحقق أداء العبادة، ورعاية حال المصلين. أما صلاة الحرب فغير الصلاة الطبيعية الدائمة، وسماها الشرع: صلاة الخوف، ثم إذا عاد المحارب إلى موطنه، أو انتهت الحرب، أو انتهت أجواؤها التي خُصص لها فقه خاص، وعبادة تؤدى بشكل استثنائي، فليعد الإنسان المسلم إلى صلاته الطبيعية، كما كانت من قبل، وهي صلاة السلم، أو الصلاة بمفهومها الدائم والثابت، وهناك في الحرب صلاة سماها الفقهاء "صلاة الطالب"، أي من يطلب عدوا، وحينئذ تكون قبلته ليست تجاه الكعبة، بل تجاه عدوه.
الحدود لا تقام في الحرب
الحدود في الحرب لا تقام، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى أن تُقْطَع الأيدي في الغَزْوِ"، فهذا حَدٌّ من حدود اللَّه تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى اللَّه من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا. وحدث أن أميرا للحرب اقترف حدا من الحدود، يقول علقمة "كنَّا في جيش في أرض الروم، ومعنا حُذَيفة بن اليَمَان، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟!"
فمنظومة الحرب وفقهها منظومة مختلفة تماما عن منظومة وفقه السلم، وهو الحالة الطبيعية للأمة، حالة المعيشة والحياة بكل تفاصيلها، الحرب حالة استثنائية ولذا كانت لها أحكام استثنائية، سواء في الصلاة، أو في الحكم، أو في الحدود، وفي كل التفاصيل، حتى الآداب نفسها تختلف حكمها في الحرب عن السلم، فصبغ الشعر باللون الأسود، منهي عنه أو مكروه في الحياة الطبيعية، ومن الفقهاء من يجيزه، واستثناه الشرع في الحرب، حتى لا يشعر العدو بأن جنود الجيش وقادته من الشيبان، فأمرهم بالصبغ عندئذ.
محاكمة أمراء الحرب في المدن
في هذا السياق وضمن هذه المنظومة من الأحكام، جاءت نصوص الصبر على الأمراء الظلمة، فمقصود بها أمراء الحرب، وفي ميدان الحرب، وليس أمراء السلم، ولا أمراء الحرب في المدن والحياة العامة، وقد تمت محاكمة أمير حرب في عهد أبي بكر الصديق، ورغم مدح النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو خالد بن الوليد، وقد سماه: سيف الله المسلول، ومع ذلك حاكمه عمر بن الخطاب في حضور أبي بكر، وإن انتهت المحاكمة ببراءته وبقائه في منصبه، لأنه عاد من الحرب، وعاد من ميدان الاستثناء في الحكم، وهو الصبر عليه حين عودته.
رفض أوامر أمراء الحرب المخالفة للشرع
ومع ذلك، فهذه الطاعة ليست دائمة، بل فيما يحتمل الخلاف، وهو ما يفسر قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره ما يكره فليصبر"، أي: في أمر نفسي، شخصي، يكرهه هو حسب توجهه، وحسب موقفه، ولكنه لو أمرهم بمعصية فترفض أوامره، وقد بينت السنة النبوية حالات يعصى فيها أمير الحرب دون عزله، لأنه ربما تراجع عن معصيته، وحالة أخرى يعزل لو كان هذا هو الحل المناسب.
ففي حالة عصيان أوامره دون عزله ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف".
الشورى بالنسبة لأمير الحرب معلمة، أي يسمع من آراء الناس، ويتخذ التدابير المناسبة، حسب الخطة التي لديه، والمعلومات الدقيقة المتوفرة لديه، ودائرة استشارته محدودة وصغيرة، بحكم أن الحرب مبنية على الأسرار، وعلى الخبرة والدقة
عزل أمير الحرب الفاسد
أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته في حديث آخر بعزل أمير الحرب، لو كان ذلك لا يؤدي إلى تفريقهم عند لقاء العدو، وهو حديث يتعلق بعزل الحاكم بوجه عام، فعن عقبة بن مالك -وكان من رهطه- قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فسلحت رجلا سيفا. قال: فلما رجع، قال: ما رأيت مثل ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعجزتم إذ بعثت رجلا، فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟" هنا لامهم النبي صلى الله عليه وسلم على عدم عزل الرجل، لأنه لم يمض لما أمره الشرع.
فروق مهمة بين ولاة الحرب وولاة السلم
كما أن هناك فروقا في المهام وفي كيفية تولي كلا الأميرين: أمير الحرب وأمير السلم، أو العسكري والمدني، فإمام الحرب أو القائد العسكري يختار من قبل الحاكم، بناء على معايير فنية، من حيث مواصفات القيادة الحربية، ولا يتم انتخابه غالبا. أما إمام السلم فينتخب، ويختار بإرادة الناس الحرة، ولا يفرض على الناس، وعليه أن يعمل بالشورى، فإن خالفها فقد حق للناس عزله، ومن مسوغات عزل الحاكم (أمير السلم): ترك الشورى.
الشورى بالنسبة لأمير الحرب معلمة، أي يسمع من آراء الناس، ويتخذ التدابير المناسبة حسب الخطة التي لديه، والمعلومات الدقيقة المتوفرة لديه، ودائرة استشارته محدودة وصغيرة، بحكم أن الحرب مبنية على الأسرار، وعلى الخبرة والدقة. أما أمير السلم، أو الحاكم العام، فالشورى بالنسبة له ملزمة، وفي كل أمر يتعلق بالناس لا بد من استشارتهم جميعا، أو بالمجالس النيابية التي تعبر عنهم، وإن اضطر في أمر خطير يعرضه للاستفتاء الشعبي، ولو خالف الحاكم شورى الناس، وضرب بمصالحهم عرض الحائط يعزل فورا.
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما لليمن ولاة، قال لهما "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا". فهنا من الواضح أن كلاهما كان أميرا في موضع، وهي حالة سلم لا حرب كما هو واضح، سواء كانا قاضيين أو أميرين، لكنهما أميرا سلم لا حرب، ولذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بطاعة الآخر، بل جعل الأمر بينهما للتطاوع، من النقاش والحوار والشورى، على خلاف الأمر في الحرب، فهو قائد واحد، والسمع والطاعة له لظروف الحرب.
وقد رأيت الإشارة إلى هذه التفرقة في كتابات عدد من الفقهاء، منهم على سبيل المثال: ابن تيمية في الفتاوى، وفي كتابه: السياسة الشرعية، وابن القيم في أكثر من كتاب له، وابن فرحون المالكي، والقرافي المالكي، والعز بن عبد السلام الشافعي، والخرشي شيخ الأزهر المالكي، وغيرهم.
السنة النبوية والعصيان المدني
العجيب في الأمر أيضا أن في نفس مستوى هذه النصوص النبوية التي يظهرها مشايخ السلطة لمنع الناس من رفض المظالم، هناك نصوص أخرى طلبت من الناس ألا يصمتوا، ويعترضوا، بل لهم حق العزل للظالم، سواء بعدم التعاون مع الحاكم، مثل حديث "يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم"، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يشير لقضية العصيان المدني، أي عدم التعاون مع الظلمة، وذلك باعتزالهم، واعتزال مؤسساتهم، لإجبارهم على الرضوخ للعمل على المصلحة العامة.
وخلاصة الأمر: أن الإسلام لا يمنع الناس من التعبير عن رأيهم، بل هذا حق أصيل، لا يملك فقيه ولا عالم ولا سلطة أن تمنعه منه، بل هو فريضة في ديننا، وهي النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكل قول يخرج بالناس عن هذه الحقائق، فهو أمر أريد به تحريف الفهم الأصيل والصحيح للإسلام، أو كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله "إن أي كلام يفيد منه الاستبداد السياسي، أو التظالم الاجتماعي، أو العطن الثقافي، أو التخلف الحضاري، لا يمكن أن يكون دينا، إنه مرض نفسي أو فكري، والإسلام صحة نفسية وعقلية".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.