لماذا تستدين مصر؟ وكيف يمكن علاج الدين جذريا؟

تراجع سعر الدولار أمام الجنيه المصري-
تراجع الجنيه المصري أمام الدولار (الجزيرة)

توصل صندوق النقد الدولي الخميس الماضي إلى اتفاق مع مصر، يشمل تقديم قرض من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 46 شهرا، ومليار دولار من صندوق تابع له، بالإضافة إلى حصول مصر على قروض بقيمة 5 مليارات دولار من دائنين دوليين وإقليميين.

لماذا تحتاج مصر قروض البنك الدولي؟

تأتي هذه الحزمة الطارئة بعد أن تفاقم العجز في ميزان المدفوعات في العام 2021 بسبب زيادة العجز في الحساب الجاري إلى 4 مليارات دولار مقارنة بـ2.80 مليار دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي. والعجز في الميزان التجاري (الاستيراد والتصدير) هو المسؤول الأول عن هذا العجز، يليه قطاع الاستثمار الأجنبي، إلى جانب العجز في الموازنة العامة للدولة، الذي بلغ أكثر من 450 مليار جنيه مصري للسنة المالية المنتهية نهاية يونيو/حزيران هذا العام.

أصبحت حاجة مصر ماسة لهذا التمويل بعد أن انخفض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي بشكل كبير، مما اضطر الحكومة لاتباع سياسة نقدية متشددة فيما يتعلق بتحويل العملة الأجنبية لتمويل المستوردات من السلع والخدمات والمواد الخام، وهذا القرار بدوره ضاعف المشاكل من حيث توقف عجلة الإنتاج في بعض القطاعات وتراجع الصادرات الوطنية نتيجةً لذلك.

ولمّا كانت وصفات صندوق النقد الدولي تأتي لعلاج مشاكل طارئة وملحة، كان من الواجب على الحكومات المتعاقبة والقادمة العمل على علاج جذري لمشاكل العجز في ميزان المدفوعات والموازنة العامة للدولة على حدٍ سواء، أي بعبارة أخرى علاج سبب الدين قبل نتيجته.

يتضح لأي متابع وبنظرة سريعة على مكونات ميزان المدفوعات (الفرق بين النقد الداخل إلى البلاد والخارج منها)، أن المشكلة الكبيرة لهذا العجز هي زيادة مستوردات البلاد على صادراتها بشكل مزمن وكبير، لذلك وجب على صناع القرار في مصر التوقف عند هذه الجزئية ومناقشتها، ووضع الخطط لعلاج هذه الفجوة التي تزيد عن الضعف.

يتضح أيضا من خلال قراءة ميزان المدفوعات لمصر أن الأرقام الوازنة التي ترفد هذا الميزان تأتي من حوالات المواطنين العاملين في الخارج، ثم من قطاع السياحة والخدمات، وبشكل رئيسي من دخل قناة السويس، وهذا يعني باختصار أن لا دور حقيقيا لقطاعي الصناعة والزراعة في الحصول على عملات أجنبية، لا بل إن ضعف هذين القطاعين يساعد على تسرب العملات الأجنبية من الاحتياطي النقدي للبنك المركزي!

مصر.. المصائب لا تأتي فرادى

ظهرت الحاجة الملحة لإصلاح القطاعين الصناعي والزراعي في مصر مع انطلاق شرارة الحرب في أوكرانيا. فقد عمقت هذه الحرب من أزمات الاقتصاد المصري الذي يعاني أصلا من مشاكل بنيوية تاريخيا، وأدت إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الغذاء والطاقة وخصوصا مادتي القمح والذرة، إذ تعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم بحجم مشتريات يبلغ 13 مليون طن من القمح المستورد سنويا. مع ارتفاع سعر القمح بتاريخ اليوم عن ذروة السعر في العام 2020 بأكثر من 50% ترتفع قيمة النقد الأجنبي اللازم لشراء حاجة البلاد من القمح أكثر من النصف، ناهيك عن باقي السلع الأساسية مثل الذرة والزيت النباتي التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير أيضا.

من جهة أخرى، ارتفع سعر النفط بأكثر من 100% خلال الفترة ما بين مارس/آذار إلى يونيو/حزيران خلال العام الحالي، ومع استيراد مصر 160 ألف برميل يوميا، فإنّ فاتورة النقد المُغادر لخزائن البنك المركزي ارتفعت بشكل لافت أيضا.

عمقت ظروف الحرب الطارئة من جراح الاحتياطي النقدي لدى البلاد، وكنتيجة حتمية انخفض سعر صرف الجنيه المصري بشكل متتابع.

جديد صندوق النقد الدولي ومصر

من المهم أن نفهم بأن مهمة صندوق النقد الدولي استشارية أكثر منها تمويلية. فرسالة الصندوق -كما يقول- هي مساعدة الدول أو الحكومات المتعثرة على تبني برامج وسياسات لعلاج المشاكل. يتم ذلك بتقديم توصيات تتعلق بالسياسة النقدية التي يديرها البنك المركزي، والسياسة المالية التي تشمل الإنفاق الحكومي والنظام الضريبي، هي من اختصاص الحكومة.

يصمم صندوق النقد الدولي كجهة استشارية برامج لإصلاحات في السياسة النقدية والمالية تتم مناقشتها والموافقة عليها، فهو -أي الصندوق- لا يوافق على أي تمويل إلا بعد أن تتبنى الحكومة المعنية توصيات ووصفات الصندوق العلاجية. وتكون هذه الوصفات غالبا مؤلمة، وهو ما يعني أن القرض الجديد سيحمل أخبارا غير سارة للمواطن المصري، وخصوصا للفقراء وأبناء الطبقة الوسطى.

تشمل الحزمة التمويلية الجديدة الذي تبناها كل من حكومة مصر وصندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء والفنيين، الموافقة على تقديم قرض من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 46 شهرا، إضافة إلى 6 مليارات من دائنين آخرين.

أما من حيث التوصيات والمطالب التي تم الاتفاق عليها فهي:

  • أولا: تعويم مرن لسعر صرف الجنيه المصري، وهو ما تم بالفعل، إذ بلغ سعر صرف الدولار الأميركي 23.10 جنيها مصريا ساعة كتابة هذا المقال.
  • ثانيا: وبشأن ذي صلة، طالب الصندوق بالإيقاف التدريجي للاستيراد من خلال الاعتمادات المستندية التي تخضع لرقابة البنك المركزي، ومن شأن هذا الإجراء أن يخفف من القيود على استيراد المواد الداخلة في الإنتاج وذلك لتعزيز التصدير.
  • ثالثا: أوصى الصندوق بتحسين مكونات الإيرادات للموازنة العامة للحكومة من خلال إصلاحات ضريبية تضمن كفاءة التحصيل الضريبي والشفافية والمساءلة القانونية.
  • رابعا: يشجّع الصندوق التمديد المؤقّت لبطاقة الدعم التموينية، ولا ندري إذا كان المقصود الحد من الاعتماد عليها في الفترة القادمة أو إجراء إصلاحات بنيوية على طرق منحها بحيث تصل للمستحقين فقط.

من الناحية النظرية قد تساعد هذه التوصيات قطاع التصدير وتخفض العجز في ميزان المدفوعات، ولكنها تعني من جهة أخرى زيادة في الضرائب، وتحدي دعم السلع الأساسية الذي يعتمد عليه المواطن الفقير.

ما العمل؟

يحب الشعبويون في الدول النامية تحميل صندوق النقد الدولي جميع المآسي التي يتحملها الشعب نتيجة للاتفاقات المبرمة بين الحكومات والصندوق، إلا أن الواقع هو أن دور الصندوق يأتي بعد أن تكون البلاد قد دخلت في دوامة الكوارث الاقتصادية من خلال العجز في الموازنة وفي ميزان المدفوعات على حدٍ سواء.

لذلك، فإن المطلوب هو أن تكرّس الحكومات جهودها وخططها التنموية لعلاج هذه الكوارث والاختلالات والعجز. يجب أن تعمل الحكومات على علاج سبب الدين قبل نتيجته، لكن ما يحصل في الغالب أن الحكومات تفشل في ذلك، وبالتالي تستمر وتتمادى في الدين وتنويع مصادره، ولذلك لابد من إستراتيجية للدولة يكون الهدف منها هو الوصول إلى موازنة عامة معتدلة من دون عجز، وكذلك الأمر بالنسبة لميزان المدفوعات، ويمكن أن ترتكز هذه الإستراتيجية على نقاط أساسية منها:

  • الوصول في البلاد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من منتجات الغذاء خصوصا الإستراتيجية منها والتي تستنزف احتياطات البلاد لتأمينها من خلال الاستيراد. كبداية لدينا 3 سلع إستراتيجة هي القمح والذرة والزيت النباتي، ولا أعتقد أن هذه الأهداف صعبة على دولة مثل مصر التي تتمتع بمساحات شاسعة، بالإضافة إلى هبة النيل، والخبرات المتوفرة لدى المصريين.
  • تفعيل وتعزيز دور القطاع الخاص من خلال ترك المجال له كي يستحوذ على النسبة التي يستحق من المساهمة في اقتصاد البلد. وهذا بالطبع يتطلب تحجيم دور القطاع العام والحكومة والجيش في الاقتصاد.
  • تشجيع المصدرين المصريين لكي يأخذوا مكانهم في عالم شديد المنافسة. ويمكن أن يكون ذلك من خلال حوافز مالية بالعملة المحلية، ولنا في تجربة الصين وغيرها من دول آسيا مثال على هذه السياسة. يجب العمل على توفير بيئة جاذبة للاستثمار الأجنبي، ومن أبناء الوطن في المهجر.هذا لا يتأتى إلا باستقرار سياسي ومحاربة الفساد وتعزيز الشفافية ومعالجة البيروقراطية، وإجراء إصلاحات ضريبية جاذبة، وكذلك مرونة تدفق العملات الأجنبية من وإلى البلاد. كرافد أساسي للعملة الأجنبية، يجب تطوير السياحة من خلال علاج المشاكل الحالية. من ذلك ضمان أمن السائح وتطوير المرافق السياحية والأثرية وتأهيل العناصر العاملة في هذا القطاع الهام. مطلوب من الحكومة والقطاع العام التركيز أكثر على الاستثمار في المشاريع الرأسمالية لضمان توفير فرص عمل مستدامة. وأخيرا، وعلى صعيد الموازنة العامة، يجب ضغط النفقات الحكومية وتطبيق قوانين ضريبية عادلة تراعي الشرائح الفقيرة على حساب الشريحة العليا ومحاربة الفساد والمحسوبية في هذا الشأن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان