التسعير الجبري يؤدي لاختفاء الأرز المصري من الأسواق

قال الحاج أحمد المزارع بعزبة الصعيدي التابعة لمحافظة دمياط المشهورة تاريخيا بزراعة الأرز "لي 42 سنة بالزراعة لم أشهد في حياتي من قبل أن تحدث أزمة نقص للأرز بالأسواق في فترة حصاد الأرز التي نمر بها حاليا، لقد كنا في تلك الأوقات نبحث عن مشترٍ للأرز، حتى ندفع الإيجار والمصروفات التي تكبدناها في زراعته".
يزيد من حالة الغموض تصريحات المسؤولين التي تؤكد أن إنتاج الأرز بالموسم الجاري كان جيدا بما يكفي الاحتياجات المحلية ويزيد، إلى جانب منع تصدير الأرز بما يعزز كفايته محليا، لكن ذلك يتعارض مع بحث الناس عنه بالأسواق، وقصر بيعه بكمية كيلوغرامين فقط للزبون ببعض المولات، ووصول أسعاره بالأسواق لأكثر من 20 جنيهًا وحتى 25 جنيهًا للكيلوغرام.
أصبح الناس فريقين، فريقا يتابع التغير في سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وفريقا يتابع سعر صرف الأرز على حد قول البعض، وتسبب الحرج الذي واجهته الحكومة بسبب نقص الأرز بانغماسها في المزيد من إصدار القرارات التي عقّدت المشكلة ونسفت توصيات المؤتمر الاقتصادي الأخير الخاصة بالعدالة التنافسية
بلغ سعره بالشهر نفسه من العام الماضي 9 جنيهات للسائب و15 جنيها للمعبأ والأهم توافره حينذاك، وهي الوفرة التي ظل وزراء المجموعة الاقتصادية، خصوصا وزيري التموين والمالية، يتباهون بها مع الأزمة الروسية الأوكرانية بقولهم إنه رغم ارتفاع أسعار السلع فإنها متوفرة، وهي الوفرة التي تتعارض مع أبجديات الأمن الغذائي، بأن تكون أسعار السلع في متناول القدرة الشرائية للجمهور، وليست وفرة دون إمكانية لاقتنائها.
وجاء الأرز ليكسر القاعدة باختفائه من الأسواق، متزامنا مع رفع المخابز الخاصة سعر الخبز غير المدعم بنسبة 50%، وخفض المخابز وزن الخبز الإفرنجي وزيادة سعره، وهو ما جاء أيضا متزامنا مع انعقاد مؤتمر المناخ وحديث الوزراء عن اتفاقيات بعشرات المليارات من الدولارات لمشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، بينما تعاني الأسر من موجة ارتفاعات سعرية في أعقاب الخفض الأخير لسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار.
البعض يتابع سعر صرف الأرز
أصبح الناس فريقين فريقا يتابع التغير في سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وفريقا يتابع سعر صرف الأرز على حد قول البعض، وتسبب الحرج الذي واجهته الحكومة بسبب نقص الأرز بانغماسها في المزيد من إصدار القرارات التي عقّدت المشكلة ونسفت توصيات المؤتمر الاقتصادي الأخير الخاصة بالعدالة التنافسية.
لكن ما سبب المشكلة؟ يجيب الزراع وأصحاب مضارب الأرز الخاصة بأن الحكومة هي السبب في المشكلة، فمنذ أكثر من 30 عاما يقوم المزارعون ببيع محصول الأرز لمن يدفع لهم السعر المناسب لِما تحملوه من تكاليف، وذلك بالمقارنة بين أسعار التوريد للحكومة أو لتجار القطاع الخاص والمضارب الخاصة.
لكن الحكومة فاجأت الجميع أواخر أغسطس/آب الماضي بإلزام المزارعين للأرز بتوريد طن عن كل فدان بقيمة تتراوح ما بين 6600 و6850 جنيهًا للطن حسب نوع الحبة، وغلظت العقوبات لعدم التوريد إلى الحبس من 6 أشهر لعامين، وسداد 10 آلاف جنيه عن كل طن لم يتم توريده ومصادرة المضبوطات.
لكن هذا السعر لم يرضِ المزارعين فامتنع الغالبية منهم عن التوريد، وبينما كانت وزارة التموين تأمل بتجميع 1.5 مليون طن لم يصلها سوى حوالي ربع مليون طن فقط.
يعرض أحد المزارعين مكونات تكاليف زراعة الأرز، بأنها تبدأ بحرث الأرض ثم ما يسمونه "المدامسة" أو "التلويط" أي تسوية الأرض، فمرحلة البيدار أي رمي البذور ببعض الأماكن أو اتباع طريقة الشتلات بأماكن أخرى حسب وفرة المياه، فمرحلة النقاوة ثم مرحلة الحف بنقل الشتلات من الأماكن الكثيفة للأماكن الخفيفة لعمل توازن، فمرحلة تنقية الأرض من الحشائش الضارة ثم الحصاد من خلال كومباوند يعمل معه 3 عمال، وأخيرًا التعبئة بأجولة والوزن والنقل إلى أماكن البيع.
سعر المستورد يتخطى الـ10 آلاف جنيه للطن
كل مرحلة تحتاج لعمالة لا تقل أجرة الواحد منها عن الـ100جنيه لعمل يستغرق 3 ساعات، وكمية أرز يحصل عليها الوزّان وثمن أجولة التعبئة بخلاف إيجار الأرض، بما يعني أن القيمة التي عرضتها الحكومة غير مُجزية، ولذلك فقد عرض القطاع الخاص الشراء بـ9 آلاف للطن ارتفعت بعدها لـ10 آلاف.
وفي الشهر الماضي وحسب بيانات البنك الدولي، فقد بلغ سعر طن الأرز التايلندي الجيد بنسبة كسر 5% ما يقرب من 431 دولارًا، والأقل جودة بنسبة كسر 25% وصل إلى 420 دولارًا، والفيتنامي الجيد بنسبة كسر 5% إلى 409 دولارات، وهو ما يوازي أكثر من 10 آلاف جنيه للطن بسعر الصرف الحالي للدولار بمصر لكل النوعيات، بخلاف تكلفة النقل من تلك البلدان البعيدة جغرافيا وتكاليف التأمين على الشحنات.
ومع قيام الحكومة بتكرار أسلوب التسعير الجبري بتحديد سعر البيع للكيلو بالمحلات، للسائب 12 جنيها وللمعبأ 15 جنيها، فقد اختفى الأرز من المحلات التي تقول إن تكلفة شرائها للأرز أعلى من ذلك، وطلب بعضها مهلة لتصريف ما لديه من أرز، أو إمداد وزارة التموين لها بأرز بتلك الأسعار لبيعه بالأسعار الجبرية، لكن الوزارة لا تقوم بالإمداد بالأرز سوى للمجمعات الاستهلاكية التابعة لها.
قام التجار بتخزين الأرز أملا في بيعه بأسعار أفضل مستقبلا، خاصة أنه سلعة تتحمل التخزين، فإذا كان هناك نقصٌ بالأرز في موسم حصاده فيتوقع ارتفاع سعره بالشهور المقبلة، وحتى في حالة استيراد الوزارة للأرز لسد الفجوة فإن أسعار المستورد ستكون مرتفعة أيضا.
اضطرت وزارة التموين للتراجع، فبعد أن كانت تمنع مضارب القطاع الخاص من تجميع الأرز، فقد سمحت لها بذلك على أن تحصل على نصف الكمية التي تقوم بتجميعها، وتراجعت فيما يخص التسعير بالسماح ببيع الأرز المعبأ الفاخر بسعر 18 جنيهًا للكيلو، بعد 9 أسابيع من قرارها السابق بتحديده بسعر 15 جنيها.
الحصول على نصف الأرز الشعير المُخزن
لجأت الوزارة لتهديد القائمين بتخزين الأرز واستصدار قرار لمجلس الوزراء باعتباره سلعة إستراتيجية، ووجوب قيام من لديهم كميات من الأرز سواء كان شعيرًا أو أبيض بإخطار مديريات التموين بالمحافظات بتلك الكميات ونوعياتها.
على أن الكميات إذا كانت أرز شعير ذات حيازة زراعية فسيتم اقتطاع الكمية الواجب توريدها منها، بالأسعار المحددة حكوميا والتي تقل عن الـ7 آلاف جنيه للطن، وإذا كانت أرز شعير دون حيازة زراعية فسيؤول نصفها لهيئة السلع التموينية بالأسعار الحكومية، أما الأرز الأبيض فسيتم عرض كمياته للبيع تحت إشراف مديريات التموين حسب أسعار التعاقد بين هيئة السلع التموينية والمضارب المعتمدة.
ويظل السؤال: هل تنجح إجراءات الحكومة المصرية بحل مشكلة نقص الأرز بتلك الأساليب البوليسية بالتهديد بالحبس والغرامة من 100 ألف جنيه لمليون جنيه والمصادرة؟!
- نتفق مع ما قاله رئيس شعبة الأرز باتحاد الصناعات أن الأساليب الأمنية ثبت فشلها، فحين أوقفت وزارة التموين التوريد الإجباري منذ عام 1991، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي وعندما أعادت التوريد الإجباري المفاجئ، فإنها لم تقم بالدعم والمساندة اللذين كانت الدولة تقوم بهما في سنوات التوريد الإجباري بالستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مثل تحمل نصف تكاليف تنقية الحشائش.
- تقديم التقاوي (البذور) بواقع 60 كيلوغرامًا للفدان وخدمة آلية آجلة الدفع، وأسمدة سلفات النشادر حسب المقررات التي تحددها وزارة الزراعة، بخلاف جوال سوبر فوسفات للفدان وسلف نقدية من بنك التنمية الزراعي.
- كما أن الاطلاع على إجراءات التوريد الإجباري بالسبعينيات يشير إلى إجراءات حكومية أكثر عدالة، حيث يشير قرار وزارة الزراعة رقم 62 لسنة 1977 بتوريد الأرز، لتحديد فترة 25 يوما للمزارعين للطعن في مساحة الأرز، ومدى جودة الأرض التي تعامله الوزارة عليها، وبعد فرز الأرز لتحديد درجة نقاوته وجودته ووزنه تتيح له الطعن أيضا بوجود تحكيم بينه وبين جهة الفرز.
بينما لا توجد مراحل تلك الطعون بقرار التوريد الإجباري الأخير الذي يحدد كمية واحدة للجميع، بينما كانت قرارات التوريد بالسبعينيات تحدد كميات مختلفة حسب المراكز المنتجة بالمحافظات ترتبط بمدى جودة الأرض بكل منها.
الغريب أن الوزارة لم تتعلم من درس فشلها في التسعير الجبري للخبز وتحديد أوزانه، حسب قرار مجلس الوزراء رقم 21 لسنة 2022 الصادر في 20 مارس/آذار الماضي، والتهديد بعقاب المخالفين بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه وحتى 5 ملايين جنيه، والاضطرار لتعديله بقرار وزارة التموين رقم 144 لسنة 2022 الصادر في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والنزول بالعقوبة لغرامة 10 آلاف جنيه فقط مع تقديم دقيق بسعر أقل للمخابز.
كما أن المسؤولين نسوا ما كانوا يرددونه من أن التسعير الجبري يؤدي لظهور السوق السوداء، ويدفع التجار لعرض السلع الرديئة، ويمكن أن يدفع المنتجين لتقليل الإنتاج مثلما تفعل بعض شركات الدواء عندما ترى أن التسعير الجبري غير مجدٍ لها.
كما أنه يخيف المستثمرين ويشككهم بمناخ الاستثمار، ويتعارض كلية مع البرنامج الإصلاحي الذي سيتم تنفيذه مع صندوق النقد الدولي بالشهور الـ46 المقبلة.