السينما الروسية من الريادة إلى العزلة الفنية

CIRCA 1964: Actress Luisa Maria Jimenez and actor Mario Gonzalez Broche on set of the movie " I Am Cuba" , circa 1964. (Photo by Michael Ochs Archives/Getty Images)
الفيلم السوفياتي "أنا كوبا" من إخراج المخرج السوفياتي ميخائيل كالاتوزوف عام 1964 (غيتي)

يسير أحد الطلاب الكوبيين في مظاهرة مناهضة للحكومة حاملا في يده حجرا. وبينما تنهمر عليه مضخات المياه لتفريق المتظاهرين، يتقدم ببطء وثبات نحو جهة الشرطة. يلفت الطالب انتباه أحد رجال الشرطة الذين وقفوا يراقبون الموقف. وبينما يدخن الشرطي سيجاره، يصوب مسدسه نحو الشاب ويطلق الرصاص فيترنح الشاب قليلا ويسقط الحجر من يده، لكنه يستمر في المشي وسط المياه المنهمرة قبل أن تتحول جنازته إلى مسيرة شعبية كبيرة في البلاد.

سار الطلاب حاملين نعش زميلهم في شوارع البلاد القديمة وسط أمواج من البشر، يحفهم الصمت المهيب، وينثر السكان عليهم الورود من الشرفات. تتابع الكاميرا حركة الجنازة والنسوة الواقفات في الشرفات وعمال السيجار المنهمكين في أعمالهم أعلى البنايات، في لقطة واحدة متصلة من أهم لقطات السينما في العصر الحديث والتي كانت ثمرة للفيلم السوفياتي "أنا كوبا" من إخراج المخرج السوفياتي ميخائيل كالاتوزوف عام 1964.

I Am Cuba - المصدر: imdb
سار الطلاب حاملين نعش زميلهم في شوارع البلاد القديمة وسط أمواج من البشر (غيتي)

خرج الفيلم إلى النور كإنتاج مشترك بين المعهد الكوبي للفنون وصناعة السينما "آي سي إيه آي سي" (ICAIC) ومؤسسة أستديو إنتاج الأفلام الروسية "موسفيلم" (Mosfilm) للترويج للثورة الشيوعية في كوبا آنذاك. وقد أبرز الفيلم وضع كوبا قبل الثورة كمجرد ماخور للشراب والدعارة للسياح الأميركيين، والتناقض بين أوضاع هؤلاء السياح في الفنادق الفخمة وأوضاع الفلاحيين الفقراء في المزارع.

غير أن الفيلم سُحب من العرض بعد أسبوع واحد في كوبا بسبب عدم الإقبال عليه لكونه يبسط المعاناة الكوبية، وفي روسيا حدث الشيء نفسه من فشل جماهيري للفيلم. بعدها اختفى الفيلم لمدة 30 عاما قبل أن يرممه المخرجان الأميركيان مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا، لتطبق شهرته الآفاق بسبب إبداع تصويره ولغته السينمائية المميزة التي كانت تسبق عصره.

بقي الصراع مع الاتحاد السوفياتي حاضرا في الأفلام الأميركية مثل فيلم "حرب الجواسيس" عام 2015 بطولة توم هانكس، والذي تناول قضية جاسوسية دارت وقائعها عام 1957 في الولايات المتحدة عن محام أميركي توكله وكالة المخابرات الأميركية للدفاع عن شخص متهم بالتجسس لصالح موسكو

 

Mosfilm المصدر: imdb
إنتاج مشترك بين المعهد الكوبي للفنون وصناعة السينما "آي سي إيه آي سي" ومؤسسة أستديو إنتاج الأفلام الروسية "موسفيلم" (آي إم دي بي)

ويعد هذا الفيلم إحدى علامات السينما السوفياتية التي اندثرت مع الوقت لكنها كانت ولا تزال علامة فارقة في تاريخ السينما في العالم من الناحيتين الموضوعية والفنية. كما كانت تمثل أيضا أحد أوجه الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي قبل أن يطل هذا الصراع السينمائي مرة أخرى مع اشتداد أوار المعارك بين روسيا وأوكرانيا.

فمن الناحية الموضوعية لم تكن تستهدف السينما الروسية الترفيه فقط بقدر ما استهدفت ما أسمته تثقيف الطبقة العاملة والترويج للثورة. والتثقيف هنا يختلط فيه الترويج السياسي للشيوعية مع القيم الاشتراكية والمبادئ الإنسانية العامة ليختصرها كثير من النقاد تحت عنوان مختزل هو أفلام الدعاية السياسية أو البروباغندا، وكانت تسمى حينذاك السينما الثورية. فقد كان لينين يقول "إن السينما هي الفن الأكثر الأهمية بالنسبة لنا بين جميع الفنون"، في وقت كانت تخطو فيخ السينما خطواتها الأولى وليست ذائعة الانتشار كما حدث بعد ذلك.

برزت نظرية تحرير الصور أو المونتاج من رحم السينما السوفياتية، وكان أحد أبرز روادها المخرج الشهير سيرجي أيزنشتاين الذي لفت الأنظار إلى طريقة مختلفة في السرد البصري مختلفة عن السرد المتسلسل على نمط الأفلام الأميركية. إذ كان يرى أن اللقطة السينمائية هي وحدة مستقلة بذاتها ويمكن أن تتفاعل مع اللقطات الأخرى من أجل بناء سينمائي متماسك وليس بالضرورة تعبيرا عن قصة ما. فالفيلم السوفياتي وفقا لهذه النظرية، يصنع في غرفة المونتاج بالدرجة الأولى، وقد يستخدم أسلوب المونتاج الفكري الذي لا يستهدف نقل الحدث بقدر ما يستهدف إثارة العاطفة باستخدام رموز معينة لشعوب وثقافات وأفكار.

الصراع مع روسيا سينمائيا

لم تحظَ السينما السوفياتية بانتشار يضاهي انتشار سينما هوليود الأميركية، ومع هذا بقي الصراع مع الروس حاضرا في قصص أفلام السينما الأميركية، وبقي العقاب السينمائي سلاحا حاضرا ضد الروس استخدمته هوليود مؤخرا في منع أفلامها في دور العرض الروسية. فرغم انتهاء حقبة الحرب الباردة، فإن الصراع مع الاتحاد السوفياتي بقي حاضرا في الأفلام الأميركية مثل فيلم "حرب الجواسيس" من إخراج ستيفن سبيلبيرغ عام 2015 بطولة الممثل الشهير توم هانكس، والذي تناول قضية جاسوسية دارت وقائعها عام 1957 في الولايات المتحدة عن محام أميركي توكله وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) للدفاع عن شخص متهم بالتجسس لصالح موسكو.

وموضوعات الأفلام تلك كانت تتناول الصراع بين القطبيين الدوليين في أوج قوتهما، وأيضا حرب الأفكار والأيديولوجيات حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. ففي العام نفسه (2015) عرضت هوليود فيلم "ترمبو" للمخرج الأميركي جاي روتش عن حياة السيناريست الأميركي الشيوعي دالتون ترامبو، الذي تعرض هو وآخرون للتمييز والاضطهاد في هوليود خلال الحقبة الماكرثية بسبب انتماءاتهم السياسية فكانوا يكتبون سيناريوهات أفلام أميركية بأسماء مستعارة.

وخلال العقدين الماضيين بدأت السينما الروسية تستعيد عافيتها مرة أخرى بعد الجمود الذي شهدته في التسعينيات إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، وبرزت أسماء ومشاريع أفلام كبيرة وحتى أفلام مستقلة. وأتت الحرب الروسية الأوكرانية لتفرض تحديا جديدا عليها بعد أن تسبب قرار واحد يتمثل في منع الأفلام الأميركية من دور العرض الروسية في خسائر تقدر بملايين الروبلات الروسية. ومثل القرار ضربة موجعة لأكثر من نصف دور العرض في البلاد التي توقعت جمعية مالكي دور السينما الروسية أن يتسبب القرار في إفلاسها وإغلاق أبوابها مع نهاية العام الجاري. هذا بالإضافة للعقاب الفني المتمثل في منع الأفلام الروسية من المشاركة في المهرجانات السينمائية الدولية الشهيرة هذا العام مثل مهرجان كان السينمائي في فرنسا، كما قرر مهرجان غلاسكو السينمائي في بريطانيا سحب فيلمين روسيين من قائمته.

الأكاديمية السينمائية الروسية من جانبها قامت بخطوة استباقية، وأعلنت عن عدم ترشيحها لأية أفلام للمنافسة على جوائز الأوسكار الأميركية المقررة العام المقبل 2023. وقد تم طرح أفكار إحلال الأفلام الهندية وسينما بوليود محل الأفلام الأميركية، لكن يبدو أن الأمر أعقد من ذلك، وأن العزلة السينمائية التي يفرضها الغرب على موسكو بدأت في الإضرار بالقطاع الثقافي بالفعل ماليا وفنيا.