"الهجرة عبر الطرق غير الآمنة" ومشكلة الخلط بين الحكم والفتوى (1)

China Coast Guard vessel travels off Pingtan island
المجلس الإسلامي السوري أصدر فتوى جديدة حظر فيها هجرة السوريين إلى أوروبا (رويترز)

أصدر المجلس الإسلامي السوري فتوى جديدة حظر فيها هجرة السوريين إلى أوروبا؛ عبر ما سماه "الطرق غير الآمنة". صيغت الفتوى جوابًا عن سؤال حول حكم ما سمته "الهجرة (التهريب) إلى أوروبا"، مع كثرة "حوادث الغرق والهلاك والقتل".

بدأ المجلس جوابه بأن "المتسبب" في ذلك "آثم مشارك بالجريمة"، ثم أوضح أن "تعريض النفس للتلف والهلاك" يشمل "السفر عبر الطرق غير الآمنة"، وأن "كل سفر لم يكن آمنًا ويتعرض المسافر فيه لخطر الموت أو الضياع أو الغرق؛ فهو سفر ممنوع شرعًا، ويأثم قاصده وطالبه".

بنت الفتوى جوابها على عدة أمور: أولها ظواهر الآيات الناهية عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وأن الفقهاء قد اتفقوا على عدم جواز ركوب البحر عند ارتجاجه، وأن السفر عبر الطرق غير الآمنة فيه مفاسد منها: تعريض النفس للإهانة والأذى، وإضاعة الأموال بإعطائها للمهربين.

ثم خلصت الفتوى إلى أن "من سلك هذه الطرق غير الآمنة آثم، وإذا أفضى إلى موته أو موت مَن هم تحت ولايته فالإثم أعظم، وهو من التسبب في القتل"، وأن "من ادعى أنه مضطر لهذه الهجرة، فإنه لا يُسلَّم له في معظم الأحوال"، كما أن "المفاسد المترتبة على الهجرة إلى بلاد الغرب أشد من مفاسد بقائه في بلاد المسلمين".

لا تصلح هذه الفتوى جوابًا عن السؤال المطروح، بل لا يَصدق عليها اسم الفتوى أيضًا؛ إذ هي أشبه ببيان الحكم الشرعي العام، وهي -مع ذلك- لم تبيّنه بيانًا وافيًا يدل على الالتزام بمذاهب الفقه الإسلامي. ويمكن تلخيص أوجه الإشكال في الفتوى في 6 ملاحظات هي:

  • الأولى: أنها تخلط بين الحكم والفتوى، وقد ترتب على هذا الخلط الكثير من الغلط، وهي مسألة لا يختص بها المجلس السوري بل تكاد تكون سمة عامة لدى كثير ممن تَصدى للإفتاء من المعاصرين، فالحكم الشرعي للإلقاء بالنفس إلى التهلكة أمرٌ معروف قطعًا، وليس بحاجة إلى بيان بهذه الصيغة العامة؛ إذ لا بد من التفريق فيه بين ما هو غالب ظن، وما هو موهوم، وما تستوي فيه احتمالات النجاة والهلاك، ويستوي في ذلك البر والبحر والجو. أما الفتوى -على الاصطلاح- فيجب أن تتوفر فيها أوصاف خارجية محددة، تُمكِّن من تقويم فعل معين في شخص وزمان ومكان معينين، وبعد مناقشة هذه الأوصاف يمكن تَبَيُّن ما إذا كان هذا الفعل المعيَّن يدخل في الحكم العام وهو الإلقاء بالنفس إلى التهلكة أو لا، ويمكن كذلك تحديد درجة الفعل نفسه؛ فهل التهلكة فيه غالبة أو مظنونة أو موهومة بناء على معطيات دقيقة مستندة إلى إحصائيات لنسبة الهالكين إلى نسبة الناجين، والعوامل المؤثرة في النجاة والهلاك. ثم هل ينسحب ظَنّ الهلاك على جميع السالكين لهذا المسلك أو على بعضهم فقط؟ ومن ثم سيختلف الحكم بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال والظروف والملابسات.
  • الثانية: أن فتوى المجلس تولت -بنفسها- السلطة التقديرية لما هو النجاة والهلاك والمصالح والمفاسد والآمن وغير الآمن، ورتبت على تقديراتها الإثم والعصيان! في حين أن هذه السلطة متروكة لكل مكلف بنفسه، والإثم وعدمه منوط بتقديرات المكلف نفسه كما سأوضح فيما بعد، والغريب أن المجلس لم يتقحم تأثيم كل المهاجرين عبر هذه الطرق فقط، بل عمم حكمه بالإثم على كل "قاصد وطالب" لهذا النوع من الهجرة.
  • الثالثة: أن الفتوى تقع في فخ السؤال الموجه مسبقًا، وهو سؤال يَحمل فيه المستفتي المفتيَ على إجابة محددة مسبقًا؛ يقول السؤال: "كثرت في الآونة الأخيرة حوادث الغرق والهلاك والقتل على طرق الهجرة (التهريب) إلى أوروبا وغيرها، فما حكم هذه الهجرة؟". فالمستفتي يريد من المفتي أن يحرمها مسبقًا؛ إذ يربط "هذه الهجرة" بما يسميه "كثرة الغرق والهلاك والقتل" وهي كثرة غامضة، وإذا صح هذا التصور فمن البديهي أن يمتنع الناس أنفسهم عن سلوك هذه السبل؛ لأن هذه غريزة فطرية، ومن ثَم فلا حاجة إلى فتوى المفتي أصلاً.
  • الرابعة: أن المفتي هنا استرسل مع رغبة المستفتي المفتَرَض، فبدأ فتواه ببيان أن هذا الفعل "جريمة"، قبل أن توضح حكم الهجرة نفسها وأحوالها ومقاصد سالكيها، وبيان المقصر منهم وغير المقصر ممن يعرض لهم حوادث قدَرية.
  • الخامسة: أن المفهوم المؤثر في الفتوى -وهو "الطرق غير الآمنة"- مفهوم مضطرب؛ لا توضحه الفتوى، وعند التدقيق في نص الفتوى سنجده مفهومًا مرنًا يبدأ بالهلاك ويشمل الإذلال والضياع في الغرب. ومثل هذا المفهوم الواسع لا يقتضي التحريم والتأثيم بالضرورة وفق قواعد الفقه، خصوصًا أنه مفهوم تقديري يقدره المكلف نفسه لا المفتي.
  • السادسة: أن الفتوى تسير مسارًا مقلوبًا، فالمفترض بها أن تبدأ بتقرير الحكم الشرعي (العام) ثم تنزله على الواقعة المحددة بأوصافها المحددة: أشخاصًا وزمانًا ومكانًا، ولكن المجلس يعكس فيبدأ بما أسماه فتوى لينتهي إلى إطلاق حكم عام غير منضبط، وهو أن "كل سفر لم يكن آمنًا، ويتعرض المسافر فيه لخطر الموت أو الضياع أو الغرق؛ فهو سفر ممنوع شرعًا، ويأثم قاصده وطالبه".

إحدى أهم مشكلات فتوى المجلس أنها تجاهلت اختلاف مقاصد المهاجرين وتنوع أحوالهم، فوضعتهم -جميعًا- في سلة واحدة، وهذا ليس شأنَ الحكم الشرعي ولا الفتوى المنضبطة بتقاليد الفقه الإسلامي. وسأوضح هنا الحكم الشرعي ثم أدلف إلى بيان الفتوى ليتضح الفرق بينهما.

أصل المسألة محل البحث هنا هي ركوب البحر، مقاصده وأحوال راكبيه، وقد وقع الاختلاف فيه زمن الصحابة ومَن بعدهم؛ نظرًا لاعتبارات مختلفة تتصل بالنظر إلى البحر نفسه وإلى طبيعة وسائل التنقل فيه، وهي اعتبارات تتعلق بتقديرات السلامة وغيرها (كانكشاف النساء فيه عند الإمام مالك مثلاً، وهي مسألة مرتبطة بوسائل النقل في زمنه كذلك). والذي استقر عليه الأمر جواز ركوب البحر مطلقًا؛ لتجارة أو عبادة، للرجال والنساء، وهو ما فهمه عدد من المفسرين من آيات عدة من القرآن، وعليه دلت الأحاديث النبوية.

ففي آية البقرة 164 يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يمتن الله تعالى على عباده أن خلق لهم الفُلك (أي السفن) التي تجري في البحر وصرّف لهم الرياح، والآية إذا جاءت في سياق الامتنان أفادت عموم مشمولاتها، ولهذا قرر الإمام القرطبي وغيره أن هذه الآية أصل في جواز ركوب البحر مطلقًا للنساء والرجال.

وفي آية آل عمران 156 يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). وبالنظر في كتب التفسير نجد أن الآية تتناول السفر لأجل التجارة (ضربوا في الأرض) فأصيبوا بقتل أو غرق، ولأجل الجهاد (أو كانوا غزى) فأصيبوا باصطدام أو قتل، وهي تنهي عن التشبه بعقائد المشركين الذي يثبِّطون الناس عن السفر بالبحر لتجارة أو جهاد؛ بحجة الحفاظ على حياتهم، ومن ثم تؤكد على معنيين رئيسين هنا: الإيمان بقدر الله، وأنه سبحانه وحده خالق كل شيء، وأن الإنسان غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم، فتقديراته قد تخطئ، وهو مكلف بالأخذ بالأسباب: في السفر والإقامة وبما غلب على ظنه، وهو مع ذلك قد يخطئ في تقدير مصلحته، وقد تصادفه عوارض طبيعية تمنعه من تحقيق مراده؛ رغم بقاء المصلحة فيما سعى إليه.

وقد خصص عدد من المحدّثين بابًا لركوب البحر في مدوناتهم الحديثية، كما فعل الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وأبو داود وسعيد بن منصور وأبو بكر البيهقي وغيرهم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "وأما البحر فإنا نرى أن سبيله كسبيل البر؛ إن الله سخر لكم البحر لتجري الفُلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله، فنأذن في البحر أن يَتَّجر فيه من شاء. لا يُحال بين أحد من الناس وبينه". بل إن سعيد بن منصور خصص -في سننه- بابًا لـ"ما جاء في فضل البحر والشهيد فيه"، وروى البخاري وغيره أن الغريق شهيد.

أما مقاصد الناس من ركوب البحر، فقد نوّعها الإمام ابن عطية الأندلسي إلى أربعة: الجهاد، والحج، وضرورة المعاش، وطلب الغنى والاستكثار، ثم أوضح أن الثلاثة الأولى جائزة بالاتفاق عند "حسن الظن بالبحر"، وأن الرابع مكروه عند الأكثر، وهذا مرهون بزمان ابن عطية وطبيعة وسائل النقل البحرية، وما انطوت عليه من مخاطرة من جهة، ومدى الحاجة إلى ركوب البحر من جهة أخرى.

أما أحوال الناس في ركوب البحر فتختلف بناء على اعتبارات عدة منها:

  • الأول: السهولة والمشقة على الراكب مما يتصل باعتبارات شخصية (كالخوف والارتياح) أو بالظروف الموضوعية لركوب البحر (تحصيل وسائله).
  • الثاني: القدرة على أداء فرائض العبادة في البحر وعدمها (وهو ما توسع فيه المالكية مثلاً).
  • الثالث: السلامة وعدمها، وهو محل النقاش في فتوى المجلس، ومما يتصل به مسألتان في كتب الفقه وهي تثبت اختلاف الحكم باختلاف أحوال راكبي البحر:

المسألة الأولى

أنه لو لم يجد إلا البحر وسيلة للحج، فهل يجب عليه الحج في هذه الحالة؟ فرّع الشافعية تفريعًا مهمًّا هنا يوضح حجم الاستسهال في فتوى المجلس التي لم تراع مسلك الفقهاء. وقد عدّ الإمام النووي في هذه المسألة 8 طرق تدور على التمييز بين أحوال الناس بناء على اعتبارات متعددة، وليس هدفي هنا بيان حكم الحج إذا تعيّن البحر وسيلة إليه، وإنما هدفي بيان كيفية معالجة الفقهاء للحكم بناء على التمييز بين راكبي البحر وفق معايير محددة هي:

المعيار الأول وهو أصحها في المذهب: أنه إن غلب على ركوب البحر الهلاك؛ إما لخصوص ذلك البحر بعينه (مكان محدد)، وإما لهيجان الأمواج (زمان محدد): لم يجب الحج. وإن غلبت عليه السلامة: وجب الحج. أما إن استويا: فوجهان: أصحهما أن الحج لا يجب.

المعيار الثاني: التفريق بناء على الإلف بركوب البحر من عدمه، فمن كانت عادته ركوب البحر وجب عليه الحج، ومن لم تكن عادته ركوبه لا يجب عليه الحج.

المعيار الثالث: التمييز بين من يتصف بالجرأة من راكبي البحر، ومن كان ضعيف القلب. فيَلزم الحجُّ الجريءَ ولا يَلزم ضعيفَ القلب.

وثمة طريق في المذهب رأى إطلاق القول هنا، ولكنهم اختلفوا في الحكم مع الإطلاق، فثمة مَن قال بالوجوب قولا واحدًا، وثمة من قال بعدم الوجوب قولاً واحدًا، وثمة من صحح القولين: الوجوب وعدمه.

وقد خرّج بعض فقهاء الشافعية على مسألة ركوب البحر للحج، مسألة أخرى، وهي ما لو سافر الزوج بالبحر، فهل يجب على زوجته ركوب البحر معه؛ إذا كان الغالبُ فيه السلامة؟ وهي مسألة لها تبعات قانونية تتعلق بالنفقة والنشوز فيما لو رفضت، فرأى بعض الشافعية أن هذه المسألة تُخَرَّج على الخلاف السابق في ركوب البحر للحَجِّ إذا تعيَّنَ طريقًا له.

المسألة الثانية

ركوب البحر إذا ارتجّ أو ماد، وقد نَقلتْ فتوى المجلس عن الإمام ابن عبد البر قوله: "ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يَجُز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه". والمعنى أنه إذا عَلم أنه إن ركبه هلك، وإلا فمذهب الحنابلة مجرد كراهة ركوب البحر "عند هَيَجانه؛ لأنه مخاطرة" كما قال البهوتي وغيره.

وقد بنى الحنابلة عددًا من فروع مذهبهم على اعتبار أن سد الذرائع (أي الوسائل إلى المحذور) من باب الكراهة لا من باب التحريم، وهذا يوضح ولع فتوى المجلس بتأثيم الناس؛ إذ الكراهة لا يترتب عليها الإثم. ولا بد من توضيح أن ارتجاج البحر قرينة على عدم السلامة في الغالب في زمنهم بناء على وسائل النقل، فالعبرة بالسلامة لا بارتجاج البحر، إذ المعيار هو أن تكون السلامة فيه هي الأغلب بحيث يكون الذين يركبونه وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورين، ولو طبقنا هذا المعيار لوجدنا أن الغالب على من هاجروا عبر البحر هو السلامة ولكن ذلك أيضًا يتوقف على الزمان والمكان وتقديرات الأفراد وقت هجرتهم تحديدًا.