تقارب حماس والنظام السوري.. عن صحة البوصلات والتقديرات (2)

صورة للقاء بين بشار الأسد وممثلي حركات فلسطينية بينهم القيادي في حركة حماس خليل الحية
الرئيس بشار الأسد (يمين) يلتقي رئيس العلاقات العربية في حماس خليل الحية (ثالث يمين) وزعيم حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية زياد النخالة (يسار) والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طلال ناجي (ثاني يمين) يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في العاصمة السورية دمشق (وكالات)

في الجزء الأول من هذا المقال، اقترحت الالتزام بضوابط وبوصلات هادية عند قيام أي جهة أو قيادة بتحديد مواقفها وسياساتها تجاه قضايا كبرى تمس شعوبنا ومنطقتنا، وفي قلبها مستقبل قضية فلسطين.

استعرضت في الجزء الأول "البوصلة الأولى، وهي: وجوب السعي إلى أقصى ما يمكن من التزام العدل والمبادئ والأخلاق والحق والحقيقة والموضوعية والديمقراطية السليمة التي تستند إلى القواعد العامة المنغرسة في الفطرة الإنسانية وعبر التوجيهات الإلهية والأعراف البشرية والقوانين والمواثيق الدولية السليمة والقواعد العقلية والمنطقية"، و"البوصلة الثانية: وهي أنه إذا تصارعت الشعوب والأنظمة، فلا مناص من الانحياز للشعوب.. هذا أمر مبدئي ومصلحي لصانع القرار؛ فالشعوب هي صاحبة الحق في ما يخص نفسها ووطنها وحياتها ومستقبلها، والشعوب دائما أقوى وأبقى، والرهان عليها أرجى لمن أراد الفوز في النهاية".

عندما أطالب بالالتزام ببوصلة فلسطين، فليس ذلك عصبية أردني فلسطيني، بل لأن قضية فلسطين هي أعدل وأطول قضية إنسانية عالمية في التاريخ المعاصر، وهي كذلك أخطر قضية تهز استقرار المنطقة وشعوبها ومصالحها ومستقبلها

البوصلة الثالثة

أما هذا الجزء فأخصصه لـ"البوصلة الثالثة"، وهي وجوب الالتزام -عند تحديد المواقف والسياسات الإستراتيجية في القضايا الكبرى- بما يحقق المصالح العليا، مبدئيا ومصلحيا، لقضية فلسطين وشعبها ومواقفه وإرادته الديمقراطية الحقيقة في الداخل والخارج.

فبعد بذل أقصى الجهد في التزام البوصلتين الأوليين، يجب التزام هذه البوصلة الثالثة سواء من قبل الفلسطينيين وقياداتهم أو السوريين أو الشعوب العربية الأخرى وقياداتها، ولا أستثني من ذلك أولئك الذين يهاجمون حماس والذين تتناقض مصالح قضاياهم مع قضيتها، إذ إن الخلاف مع حماس وقراراتها ينبغي ألا يقود أحدا للإضرار بقضية مركزية متفق عليها، قضية فلسطين، فهي في عمق مصالح العرب جميعا.

ولقد تعالت أصوات -بعد زيارة حماس الصادمة إلى نظام سوريا- تقول "وماذا يمنع السوريين أو قيادات شعوب متأذية من محور إيران أن يتبعوا منهج حماس الأخير نفسه، فيسعون إلى عقد صفقات مع أعداء ذلك المحور -لا سيما أميركا وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة- ولو كان على حساب فلسطين؟! ما المانع؟ طالما المثل يقول إن البادئ أظلم وعلى نفسها جنت براقش!" وهؤلاء -بدورهم- يقعون في ما وقعت فيه حماس بمخالفة البوصلتين الأوليين، فالمؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه ولا يطعنه في ظهره أو قلبه. وهذه قاعدة أخلاقية ومصلحية ملزمة لجميع الأطراف بدون استثناء في تحديدهم للأصدقاء والأعداء، وإلا كانت النتيجة والحال هي التنازع والفشل للجميع.

أؤكد أنه عندما أطالب بالالتزام ببوصلة فلسطين، فليس ذلك عصبية أردني فلسطيني، بل لأن قضية فلسطين هي أعدل وأطول قضية إنسانية عالمية في التاريخ المعاصر، وهي كذلك أخطر قضية تهز استقرار المنطقة وشعوبها ومصالحها ومستقبلها، ومن لم ينصرها قولا وفعلا، لن يكون صادقا في مطالبة الآخرين بنصرة شعبه وقضيته الخاصة.

وإذا كانت هذه البوصلة ملزمة لكل عربي، فمن باب أولى أن تكون ملزمة للقيادات الفلسطينية ومن بينها حماس (التي تمثل نظام الحكم في غزة)، فليس لأحد منهم الانفراد بقرار يؤثر على مسار القضية الفلسطينية بأكملها، منطلقا في ذلك من حساباته الخاصة الضيقة.

التزام بوصلة فلسطين يعني كذلك رفض ادعاءات أولئك الذين يتشدقون بنصرتها من أنظمة حكم أو حركات، فإذا ما جاء وقت الفعل لم يقدموا ما يناسب مقدرتهم. أمثال هذه الأنظمة والحركات -عربية كانت أو إيرانية أو فلسطينية- هم في الحقيقة الذين صنعوا الظرف الذي تعيشه حماس، وهم من دفعوها إلى مسارها الأخير، وهؤلاء ليسوا حريصين حقيقة على سوريا أو فلسطين أو الأمة العربية أو على استقرار المنطقة، يستوي في ذلك كل مراكز قواهم ومحاورهم.

ولا شك أن نظاما عربيا واحدا لا يستطيع أن يدعي أنه بذل ما يكفي لنصرة "قضية فلسطين"، في حين نرى تلك الأنظمة تهدر مقدرات شعوبها في صراعاتها الداخلية والبينية، أما الشعوب فهي التي بذلت من أجل فلسطين ولا تزال تتمنى أن يسمح لها ببذل المزيد لنصرتها رغم ما تعانيه من أزمات.

وبمراجعة تاريخها فقد استغلت الأنظمة العربية -وكذلك إيران- قضية فلسطين والقيادات الفلسطينية في الضفة وغزة لتحقيق أجنداتها الخاصة وخدمة محاورها وتحالفاتها، وما زالوا يفعلون. فلو صحت نية النظام السوري في نصرة فلسطين، لما قام بتدمير سوريا وشعبها وقوتها وجعلها مرتعا للقوى الأجنبية وترك سماءها مفتوحة تحلق فيها طائرات محتلي فلسطين، مكتفيا بالطنطنة باحتفاظه بحق الرد! ومثل ذلك فعلته بقية الأنظمة التي دمرت أوطانها وشعوبها أو تلك التي فشلت في بناء دول ومجتمعات قوية مؤثرة.

إن مصالحة حماس مع النظام السوري لن تُقدم نصرة حقيقة لفلسطين، بل هي متابعة للدوران في متاهات بيوت العنكبوت الواهية. فلماذا دفع الأثمان الباهظة ماديا ومعنويا التي تمتد فاتورتها إلى المستقبل من أجل هذه المصالحة؟ وأين المصلحة الراجحة للقضية في كل ذلك؟ أم هي مجرد مغامرات وقفزات خطيرة في الهواء قد تكسر الرقاب؟ وهل تعيد حماس أخطاء الزعيم الراحل أبو عمار في رهاناته الخاسرة المتعددة، قافزا بين المحاور والصفقات؟ وهل يجب على حماس أن تعيد تجريب المجرب بطريقتها الخاصة؟

وإذا كان من المسلمات أن الاهتداء بهذه البوصلات الثلاث قد يكتنفه أحيانا تداخل إجباري يستلزم اجتهادات مرنة، ولكن هذا لا يبرر الانفلات التام في حساب القرارات الإستراتيجية بحجة أن السياسة لا دين لها وأنها لا تعرف إلا المصالح؛ فأي مصالح تلك؟ ومن يحسبها؟ فالبوصلات الهادية تظل الأداة الأنجع لمساعدة أولئك الذين في مواقع القيادة أن يسيروا في الطريق السليم.

أخيرا، إذا كانت حماس -متذرعة بالضرورات- قد قامت باستباحة محظورات و"تابوهات" التعاون مع النظام السوري وزادت من تبعيتها لمحور النظام الإيراني، فيجدر بها والمعنيين من دول وحركات المنطقة أن ينفتحوا ويناقشوا حلولا أخرى أكثر نجاعة لمستقبل القضية والمنطقة، بعيدا عن التصادم الصارخ مع مبادئ ومصالح وإرادة وشعوبنا العربية وتاريخ علاقاتها الأصيلة. شخصيا، أرى أن أحد تلك الحلول الإستراتيجية الناجعة هو إعادة توحيد شمل الفلسطينيين والأردنيين في وطن واحد وقضية واحدة بدعم من الشعوب والحركات العربية وبعض دولها. تحت هذا الطرح كلام كثير يمكن أن يقال عن فوائده وفي مناقشة مبررات الخوف منه، وهذا ما أنوي الكتابة فيه مستقبلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.