العلاقات المغربية الفرنسية.. جذور الأزمة ومداخل التحلل من هيمنة فرنسا

ملك المغرب (يمين) والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)

تمر العلاقات المغربية الفرنسية منذ مدة ليست بالقصيرة بأزمة لم تعد صامتة بفعل ما رشح عنها من معلومات وما أفادته مؤشرات متنوعة تعبر عن عملية شد وجذب حاصلة بين البلدين، لعل أبرزها رفض أغلبية طلبات التأشيرات المقدمة إلى القنصليات الفرنسية من طرف المغاربة الراغبين في السفر، وأغلبهم كانت فرنسا وجهتهم المعتادة، مما شكل صدمة للوبي الفرانكفوني نفسه في المغرب، لكن هذا يبقى مجرد نقطة برزت إلى السطح وتحيل إلى أزمة أعمق لها أسبابها وخلفياتها المتراكمة.

فما هي جذور الأزمة الحاصلة بين المغرب وفرنسا؟ وكيف يمكن التحلل من الهيمنة الفرنسية؟

مغربية الصحراء.. منظار الدبلوماسية المغربية الجديد والموقف الفرنسي المطلوب

ظلت فرنسا في موقف وسط من قضية الصحراء المغربية وإن كانت داعمة بشكل رئيسي للمغرب في المحافل الدولية -سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو في مجلس الأمن- في القرارات والمواقف ذات الصلة بموضوع الصحراء، وهذا يمتد إلى اللحظة الراهنة، إذ صوتت فرنسا و12 عضوا بمجلس الأمن لصالح قرار يخدم الموقف المغربي نسبيا في قضية الصحراء مقابل امتناع كل من روسيا وكينيا، هذا الموقف يقضي تمديد عمل بعثة المينورسو لعام واحد، مما يعني أن الأزمة الصامتة بين المغرب وفرنسا لم تتحول إلى قطيعة أو خلاف، لكنها بقيت دون الموقف المنتظر في ظل التحول الذي شهدته قضية الصحراء لصالح المغرب منذ الاعتراف الأميركي بها.

حدث تحول نوعي في الخطاب الذي ينتجه المغرب في موضوع الصحراء، إذ يعتبر موضوعها وطبيعة الموقف منه هما المحدد لطبيعة العلاقة مع أي دولة، مما يعني سعي المغرب لحسم القضية التي شكلت له عائقا في الفعل والمبادرة

لقد طرأ تحول في الخطاب الدبلوماسي المغربي بعد الحصول على الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء ودعم الولايات المتحدة الأميركية الصريح لحل ضمن السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، وهو ما دفع المغرب إلى مطالبة شركائه بمواقف أكثر تقدما بما يتلاءم مع الوضعية الجديدة ويتناسب وطبيعة المصالح المشتركة والموقف المنتظر.

لقد كان واضحا في الخطاب الدبلوماسي المغربي حدوث تغير في المفردات المستعملة والحدة في الموقف من حالة السكون الذي ظلت عليه مواقفها على الرغم من التغيرات الحاصلة في قضية إشكالية بالنسبة للمغرب، إذ طالب أكثر من مرة بضرورة الخروج من وضعية "المنزلة بين المنزلتين" أو مغادرة المنطقة الرمادية، وظل ذلك هو الخيط الناظم لتصريحات وزير الخارجية المغربي في سجاله المستمر.

لكن ملك المغرب أكد أهمية الموقف من قضية الصحراء المغربية كقاعدة ترسى على أسسها العلاقات والشراكات، وقد وردت في خطابه الذي خصصه لهذا الموضوع بعد أن عدّد المسارات التي اتخذتها القضية إقليميا ودوليا "وأمام هذه التطورات الإيجابية التي تهم دولا من مختلف القارات أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات، لذا، ننتظر من بعض الدول -من شركاء المغرب التقليديين والجدد- التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء أن توضح مواقفها وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل" (خطاب الملك المغربي في ذكرى ثورة الملك والشعب).

يتضح إذن حدوث تحول نوعي في الخطاب الذي ينتجه المغرب في موضوع الصحراء، إذ يعتبر موضوعها وطبيعة الموقف منه هما المحدد لطبيعة العلاقة مع أي دولة، مما يعني سعيه لحسم القضية التي شكلت له عائقا في الفعل والمبادرة، ثم إن ملك المغرب عمل على شكر القوى والدول التي طورت علاقاتها على أساس الاحترام المتبادل، كما نبه الشركاء التقليديين إلى ضرورة الوضوح في الموقف، وأول الشركاء التقليديين للمغرب هو فرنسا، كما تأتي أهمية موقفها بحكم مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية عما لحق المنطقة بفعل الاستعمار ثم لاحقا مع سياساتها فيها وحجم العائدات الاقتصادية لها بالمغرب خصوصا، وشمال أفريقيا عموما.

دوافع أخرى للأزمة

أشرنا إلى انتظار المغرب موقفا فرنسيا بخصوص الصحراء بسبب العلاقة التاريخية بين فرنسا والمغرب نتيجة الاستعمار الفرنسي لمنطقة شمال أفريقيا وموقع الثقل الذي تمثله فرنسا في منطقة شمال أفريقيا وتأثيرها البين بخصوص القضايا المثارة فيها، لكن بسبب موضوع الشد والجذب بالإضافة إلى ضرورة تقديم فرنسا موقفا متقدما أسوة بدول أخرى في الاتحاد الأوربي فإن طبيعة الأزمة لها أسباب أخرى نحاول أن نقترب منها على الشكل الآتي:

أولا: المقاربة التي حظي بها ملف الصحراء من طرف الإدارة الأميركية أثرت في واقع الأمر على مدى التأثير الذي تحتفظ به باريس في القضايا التي تهم أفريقيا عامة والمغرب خاصة، ذلك أن فرنسا تنظر لأميركا في المغرب بمثابة المنافس على بلد ظل ضمن مناطق النفوذ الفرنسي منذ الحقبة الاستعمارية.

ثانيا: الحضور الاقتصادي المغربي في غرب أفريقيا وفعالية المغرب من خلال أدوات الاقتصاد جعلاه في احتكاك مباشر مع فرنسا التي تعتبر أفريقيا امتدادا طبيعيا لها، لكن هذه التبعية التي جعلت فرنسا تغتني بفعل الهيمنة في الاقتصاد ومن خلال تمهيد الطريق لنخبة تابعة لها لإدارة شؤون السلطة والحكم في العديد من البلدان بفعل الانقلابات ودعم النخب الفاسدة قد بدأت في التراجع مقابل صعود الوعي بأهمية الاستقلال والسيادة الوطنية، مع عدم الوقوع ضحية الاستغلال الفاحش في الثروات ومصادرة بناء الديمقراطيات الوليدة في أفريقيا.

لا تنحصر المشكلة عند هذا الحد، بل أضحى الحضور الفرنسي في أفريقيا مزاحما من طرف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا والصين، والحديث هنا عن الولايات المتحدة للتأكيد على خلافات جوهرية حاصلة بين الحليفين في أفريقيا برزت في السياق المغربي بشكل واضح من خلال القلق الفرنسي المضمر من الحضور الأميركي في المغرب، وما نتج عن ذلك اقتصاديا وسياسيا بخصوص الصحراء، بالإضافة إلى الجانبين الأمني والعسكري.

أول مداخل التحلل من الهيمنة الفرنسية -التي تمتد من الإدارة والاقتصاد إلى الثقافة والتعليم- هو تنويع الشركاء للمغرب وفتح منافذ جديدة على قوى مؤثرة يمكن أن تشكل طاقة دفع للأمام بالنسبة للمغرب

ثالثا: ما يتمتع به المغرب على المستوى الرمزي، وهنا نتحدث عن فعالية الدبلوماسية الدينية وجهود الوساطة في حل النزاعات التي انتهجها، وقد تجلت الدبلوماسية الدينية المغربية في الدور الفعال الذي تقوم به دول أفريقية متعددة بتكوين الأئمة ونسج شبكة من المؤسسات والمبادرات الفاعلة في الحقل الديني.

أما جهود الوساطة فيمكن الإشارة فقط إلى الأدوار التي اضطلع بها المغرب في جمع الفرقاء الليبيين لتجنيب البلد الانزلاق إلى الخيار المسلح، وتغليب خيارات الحوار والتفاوض السياسي بدلا من البندقية التي قد تؤدي إلى حرب الكل ضد الكل، وبين فرنسا والمغرب وأطراف أخرى تناقضات مصالح في ليبيا.

وما جرى مع ليبيا حدث في السابق مع مالي، إذ كان المغرب قبلة للفرقاء من أجل التسوية، وينتظر منه أن يقوم بالدور نفسه في المستقبل، فبين مالي والمغرب علاقة تاريخية تتجاوز حدود السياسة الراهنة إلى ما يتغذى عليه التاريخ من علاقة حضارية وعلمية خاصة جسدت حاضرة تمبكتو حلقة من حلقاتها، كما مثّل نسيج الطوارق جانبا من جوانب الوصل تلك.

قد يكون في الظاهر أن تفعيل دور الدين والدبلوماسية الدينية وتشبيك العلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية بالنسبة للمغرب في علاقته بعمقه الأفريقي يخدم من أحد الأوجه فرنسا ومصالحها، لكن الناظر إلى المدى الإستراتيجي سيجد أن المغرب جزء من صميم النسيج الاجتماعي والثقافي والجغرافي الأفريقي، فيما فرنسا غريبة عنه، مما يعني أن ذلك سيكون له تأثير مباشر مستقبلا على الحضور الفرنسي في أفريقيا، ولذلك فإن تمدد المغرب أو غيره من القوى سيكون على حساب الحضور الفرنسي الذي تحتفظ الأجيال بذاكرة سيئة معه.

كما أن وعي المغرب بأهمية انتمائه الأفريقي يعيد إلى الأذهان وعي صانع القرار فيه بعد مدة من الغياب بأهمية أفريقيا بالنسبة إليه تاريخيا، إذ تشكلت قوته في التاريخ من خلال عودته إلى جذوره الأفريقية، وأن تقاطعات العمق الأفريقي والعربي والإسلامي هي ما يصنع له التفرد ويقدم له جانبا مهما من أسس هويته وكينونته الحضارية التي ينبغي أن تستعاد ليس بمنطق الفولكلور، وإنما بالوعي المركب في سياق الصراع على الرموز، وهذا أبرز صراع يمكن أن يخوضه المغرب مع فرنسا لاستعادة كينونته الضائعة في دروب الثقافة والإدارة والفشل في رهانات "الدمقرطة" وتحديث نسق السلطة.

بعض مفاتيح ومداخل التحلل من الهيمنة الفرنسية

لم تصل الأزمة الفرنسية المغربية إلى درجة يمكن القول بإمكانية حدوث القطيعة، بل إن ذلك من باب المحال في السياسة والإدارة بالمغرب، وكذلك بالنسبة لفرنسا، إذ تجمعهما علاقة متشابكة، لكن تضرر العلاقات بين الفينة والأخرى يذكي الوعي مجتمعيا في المغرب ويوجهه ضد المنافع التي تجنيها فرنسا منه، وضد وضعية الامتياز التي تنالها في الاقتصاد والثقافة وغير ذلك من أشكال الحضور على حساب أطراف ودول أخرى يمكن للمغرب أن يحقق معها علاقات يربح فيها الجميع.

ولعل أول مداخل التحلل من الهيمنة الفرنسية -التي تمتد من الإدارة والاقتصاد إلى الثقافة والتعليم- هو تنويع الشركاء للمغرب، وفتح منافذ جديدة على قوى مؤثرة يمكن أن تشكل طاقة دفع للأمام بالنسبة له، عكس فرنسا التي تدفع شركاءها ودعنا نقول الدول التابعة لها -إذ إنها تنظر للمغرب والجزائر وتونس وغيرها من الدول من هذا المنظار- إلى الخلف كي تبقى رهينة لها.

وفي هذا السياق، يمكن للشراكة الجديدة التي فُتحت مع إسبانيا وألمانيا وقبل ذلك الولايات المتحدة الأميركية أن تخلص المغرب من الضغط الفرنسي، كما أن نهج المغرب في تعدد الشركاء ولو من خارج حلفه التقليدي يخدم إستراتيجيته على المدى البعيد بالتحلل من الهيمنة الفرنسية التي يبدو أن جانبا منها يعود في الأساس إلى غياب إرادة الاستقلال الوطني وكذلك لأزمة النخبة فيه التي يعد لفيف عريض منها فرنسي الهوى ولو كانت مصالح المغرب بعيدة عن فرنسا ولا تمليها مقتضيات الصراع الإقليمي والدولي، ولعل الصفقات المقبلة والمصالح المشتركة المستقبلية هي التي ستفسر لنا مدى مراجعة المغرب خياراته وعلاقاته وبنائها على أسس سليمة تخدم مصالحه الحيوية والإستراتيجية.

لقد كان التمكين للفرنسية في النظام التعليمي ووضعه في القانون بمثابة الخطيئة السياسية الكبرى في حق المغرب ككيان مجتمعي وحضاري وثقافي له مقومات الإبداع والتفرد، فما حدث ويحدث على المستوى اللغوي هو في حقيقته وبدون وضع مساحيق تجميل للكلمات والعبارات انتهاك واغتصاب للسيادة الوطنية على مستوى حساس، فليست السيادة فقط في ما يتعلق بالوحدة الترابية والقرار السياسي، فالسيادة في تجلياتها المحسوسة يمكن استعادتها، لكن السيادة في ما يتعلق بالرموز التي تتشكل من خلالها الشخصية الوطنية وتبنى بها الذات الجماعية وتعرف من خلالها النحن الحضارية، إذا انتهكت أو محيت معالمها فإنها تورث الضعف والهزيمة على المستوى الوعي والشعور، وتفرض استعادتها صراعا متعدد الأبعاد وممتدا في الزمن، وهو في واقع الأمر ما يعيشه المغرب ومعظم الدول العربية منذ أكثر من قرن من الزمان.

مسألة اللغة مسألة حساسة بالنسبة للمجتمعات والدول التي تريد أن يكون لها حضور وتأثير في الأحداث أو تلك التي تسعى جاهدة لاستعادة دورها، بل إن دولا عدة -أوروبية وغير أوروبية- تعلن حالة الاستنفار في موضوع لغتها الوطنية تعليما وتثقيفا، وهي على وعي أن اللغة هي وعاء للثقافة وحاملة للقيم والفكر، لذلك ينبغي التحلل من الخطيئة السياسية التي أقدمت عليها نخبة تجهل المغرب وحضارته وإن كانت تسوسه أو تتولى وزارات التعليم الخاصة به.

ختاما وبكلمة موجزة إن ما ظهر إلى السطح من أزمة التأشيرات وما تم التداول فيه بشأن الأزمة الحاصلة في سياقها القريب يعودان في بعض منها إلى مطالبة المغرب فرنسا بموقف أكثر تقدما بخصوص الصحراء المغربية، وكذلك للتراكمات التي حصلت في أكثر من قضية، لكن المطلوب مغربيا تجاوز التوترات الموسمية بشأن وحدته الترابية ومصالحه الحيوية بنهج إستراتيجيات يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي والثقافي لتحقيق الاستقلال الفعلي عن الهيمنة الفرنسية في الاقتصاد والتعليم والإدارة وغير ذلك، وقبل أي شد وجذب على المستوى الخارجي فإن كسب الرهان على المستوى الوطني في ما يتعلق بتدبير إشكاليات الحرية والديمقراطية وتحقيق بعض أوجه العدالة يبقى هو حجر الزاوية في أي تحول وبناء مغرب جديد لا يتأثر بالمواقف والتحيزات الدولية.