فراغ الرئاسة في لبنان وأزمة النظام

Lebanese President approves final draft of maritime border deal with Israel- - BEIRUT, LEBANON - OCTOBER 13: (----EDITORIAL USE ONLY - MANDATORY CREDIT - "PRESIDENCY OF LEBANON / HANDOUT" - NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS - DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS----) President of Lebanon Michel Aoun talks to press regarding the maritime border deal with Israel in Beirut, Lebanon on October 13, 2022.
الرئيس اللبناني السابق ميشال عون (وكالة الأناضول)

شغور المناصب العليا في الدولة أمر شائع في لبنان، لكنه أصبح بشكل متزايد علامة على عمق الأزمة التي يعانيها النظام السياسي. لذلك، لا يبدو صادما لكثير من اللبنانيين أن قصر بعبدا أضحى مع بداية هذا الشهر خاليا من رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، وفشل البرلمان في انتخاب خلف له. لقد صمم النظام السياسي، الذي يدير البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية، على تكريس سلام ما بعد الحرب من خلال فرض تقسيم طائفي ومذهبي للمناصب العليا. لكن هذا النظام، الذي خُطط له أن يكون مؤقتا ويعمل على تمهيد الأرضية لتأسيس دولة مدنية، تحوّل إلى أداة لأمراء الحرب السابقين وزعماء الطوائف لمواصلة إحكام قبضتهم على مختلف نواحي الحياة من السياسة إلى الاقتصاد والأمن.

منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في انفجار عام 2005، بدأ العجز والعفن يظهر في النظام السياسي الذي لم يعد قادرا على إنتاج حالة سياسية مستقرة لفترة طويلة كما كان الحال بعد اتفاق الطائف

على عكس العقود الثلاثة الماضية، التي استطاع فيها النظام السياسي التعايش مع حالة الفراغ أكثر من مرة إن كان على مستوى الرئاسة، كما حصل بين عامي 2014 و2016، أو على مستوى عدم وجود حكومات أصيلة لأشهر طويلة، فإن الفراغ الرئاسي الجديد يُنذر بمزيد من الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. يُعاني لبنان من انهيار اقتصادي غير مسبوق منذ ثلاث سنوات، وتُديره حاليا حكومة تصريف أعمال هشة بصلاحيات مقيدة، ووجود برلمان منقسم بشكل حاد ويفتقد لوجود غالبية صريحة وواضحة قادرة على انتخاب رئيس جديد للبلاد.

منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في انفجار عام 2005، بدأ العجز والعفن يظهر في النظام السياسي الذي لم يعد قادرا على إنتاج حالة سياسية مستقرة لفترة طويلة كما كان الحال بعد اتفاق الطائف. يُعرف عن اللبنانيين عجزهم في حكم أنفسهم بأنفسهم. ساهم الانسحاب السوري من لبنان بعد اغتيال الحريري في تعميق العجز في أداء النظام السياسي. لم تلعب سوريا قط دورا إيجابيا في الحياة السياسية اللبنانية بعد تدخلها العسكري إلى جانب قوات الردع العربية لإنهاء الحرب الأهلية، لكنّها استطاعت بفرض سيطرتها الأمنية والاستخباراتية ترهيب القادة اللبنانيين من حلفائها وخصومها على حد سواء.

يُجمع مختلف السياسيين اللبنانيين اليوم على اختلاف توجهاتهم على مأزق النظام السياسي، لكن أيا منهم لا يملك تصورا واضحا لنظام بديل يمكن أن يحظى بإجماع وطني ويخرج لبنان من أزمته. لطالما كان الاستقرار السياسي بعد الحرب الأهلية مرهونا بالاستقرار الاقتصادي والتوازن الطائفي الداخلي وتوازن النفوذ الإقليمي في البلاد، لكن أيا من ذلك لم يعد قائماً.

أدى الانهيار الاقتصادي إلى تقليص حاد للطبقة الوسطى، ودفع غالبية اللبنانيين إلى الفقر وتصاعد النقمة على القادة السياسيين، في حين تسبب صعود الهيمنة السياسية والعسكرية لحزب الله في إخلال التوازن السياسي والطائفي، بينما ساهم تراجع الدور العربي والخليجي على وجه التحديد في تعميق النفوذ الإيراني على البلاد.

كل هذه التحولات مجتمعة إلى جانب الفساد المتأصل في الدولة نتيجة للمحاصصة الطائفية والمذهبية، أوصلت لبنان إلى مرحلة ضعفت فيها قدرة النظام السياسي على مواصلة إدارة الأزمات بالشكل الذي اعتاد عليه في السابق. تكمن المخاطر الآن في أن شغورا رئاسيا طويل الأمد قد يؤدي إلى انهيار البلاد بشكل أكبر. على الرغم من أن منصب الرئيس لا يلعب دورا جوهريا في إدارة السلطة التنفيذية، فإن الحكومة، التي يفترض أن تنتقل إليها الصلاحيات الرئاسية بموجب الدستور، مستقيلة وبالتالي هي مقيدة بشأن كيفية استخدامها.

كما أن عملها مكبل بالإجماع الداخلي الذي يصعب تحقيقه بسهولة في ظل الاستقطاب الكبير بين مكوناته. بالنّظر إلى أن الإصلاحات الاقتصادية التي يشترطها صندوق النقد الدولي مقابل المساعدات، تبرز كقضية ملحة في عمل حكومة تصريف الأعمال، فإن إقرار هذه الإصلاحات يتطلب موافقة غالبية أعضاء الحكومة، مما يعني وضع عقبة أخرى في طريق التعافي الاقتصادي، والتسبب في مزيد من الانهيار الاقتصادي الذي يزيد بدوره من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية والأمنية. من المستبعد أن تفضل النخبة السياسية المصالح الوطنية على مصالحها الضيقة كما اعتادت أن تفعل.

تتمثل الخطوة الأولى الملحة في سبيل الخروج من المأزق في توافق الأطراف السياسية على مرشح رئاسي يحظى بإجماع الأطراف الفاعلة، لا سيما تحالفي حزب الله وخصومه، والاتفاق على تقاسم جديد للسلطة على غرار ما حصل في عام 2016، لكن ذلك لا يبدو ممكنا في المستقبل المنظور لأسباب عديدة:

  • أولاً، لعب رئيس الوزراء السابق سعد الحريري دورا بارزا في التسوية الرئاسية السابقة، لكنه الآن خارج المعادلة السياسية ولا يوجد زعيم سياسي سني يمكنه أن يقود تسوية جديدة محتملة.
  • ثانياً، لا توجد حتى الآن شخصية وسطية لتولي الرئاسة يمكن أن تحظى بإجماع مختلف الأطراف، على عكس تسوية 2014 التي كان فيها ميشال عون تلك الشخصية.
  • ثالثاً، كانت الرعاية الإقليمية والدولية لانتخاب عون أساسية في اتفاق تقاسم السلطة في 2016، لكنّ توفر مثل هذه الرعاية مجددا موقف يبدو صعبا في ضوء أن الدول الخليجية، التي كانت راعيا أسياسيا لسنّة لبنان بعد الحرب الأهلية، لم تعد راغبة في منح شرعية لأي تسوية رئاسية توصل شخصية مقربة من حزب الله إلى قصر بعبدا. لقد كانت تجربة تسوية 2014 سيئة بما يكفي لدفع دول الخليج إلى عدم تكرارها من جديد.

في ظل المخاطر الراهنة، قد يكون بمقدور القادة السياسيين في لبنان التوصل إلى تسوية مؤقتة للحد من الأضرار الناجمة عن الفراغ الرئاسي، بما في ذلك التفاهم على ترتيب جديد يتيح لحكومة تصريف الأعمال الحرية المطلوبة للموافقة على الإصلاحات الاقتصادية. لكن مثل هذا التفاهم، إن حصل، لا يمكن أن يشكل بديلا مستقرا للتفاهم على رئيس جديد. حقيقة أن منصب الرئيس يعكس توازن القوى السياسي والطائفي تجعل خلل ميزان القوى المحرك الرئيسي للاستقطاب السياسي، الذي قد يرى مصلحته في التعايش مع الفراغ الرئاسي لفترة أطول مع تضاؤل فرص التفاهم على مرشح توافقي.

في الوقت الحالي، يمتلك كل من تحالف حزب الله، والقوى السيادية المناهضة له إلى جانب كتلة المستقلين، القدرة على عرقلة توفير الغالبية المطلوبة لانتخاب رئيس جديد من أجل حرمان الطرف الآخر من إيصال المرشح الذي يريده، لكن هذه اللعبة لن تعني سوى المزيد من تعقيد الأزمة السياسية والمخاطرة بتعميق الانهيار الاقتصادي.

في ضوء أن الستاتيكو الراهن يحد بشكل واضح من فرص إبرام تسوية رئاسية جديدة، فإن السبيل المتبقي لتجنب فراغ رئاسي طويل الأمد يكمن في النفوذ القليل الذي تمتلكه القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الحالة اللبنانية لتقليص حدة الاستقطاب الداخلي وتشجيع القادة السياسيين على التفكير في مزايا تغليب التوافق الوطني على عواقب المضي في لعبة فرض الإرادات.

حقيقة أن العوامل الإقليمية المتمثلة في تداعيات الحرب السورية والتنافس الإيراني السعودي عقدت على نحو كبير من الاستقطاب اللبناني، تجعل من تقليل تأثيراتها ضروريا كنقطة انطلاق للشروع في عملية سياسية جديدة تعيد إصلاح خلل التوازن الداخلي. بالنظر إلى أن الانفراجة التي طرأت في الأشهر الأخيرة على العلاقات السعودية الإيرانية لم تفض إلى تحول واضح في مسار التنافس الإقليمي ولم تؤثر إيجابا على الحالة اللبنانية، فإن استمرار الرهان اللبناني على المسار السعودي الإيراني أو مصير المفاوضات النووية بين إيران والغرب سيعني المزيد من الجمود الداخلي.

من غير الواضح ما إذا كانت الأدوات التي تمتلكها دول غربية كالولايات المتحدة وفرنسا قادرة بالفعل على فصل الحالة اللبنانية على الصراع الإقليمي. إن الاستسلام للفراغ الرئاسي كأمر واقع سيؤدي مع مرور الوقت إلى إثارة شكوك حول شرعية حكومة تصريف الأعمال في ممارسة صلاحياتها، وبالتالي تعميق الشلل السياسي والتفكك المؤسسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.