الغرب يجني ثمار عقدين من عدم فهم بوتين

Russian President Vladimir Putin chairs a meeting on the development of the national tourism industry in Vladivostok
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (رويترز)

للمرة الثانية في غضون 8 سنوات، يُعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقوة رسم حدود أوكرانيا، ويضم مساحة من أراضيها لروسيا تُعادل مساحتي ليتوانيا وإستونيا معا، وعلى الغرب ألا يتظاهر بالصدمة قبل كل شيء.

مع كثير من التجرّد، أرى أن الغربيين يتحاملون على بوتين عندما يشتكون بأنه شخصية غامضة لا يُمكن التنبؤ بتصرّفاتها؛ فعلى مدى العقدين الماضيين أرسل بوتين الإشارة تلو الأخرى بأنه عازم على إعادة تشكيل حدود روسيا مع أوروبا، لكن الغرب تعاطى معها باستخفاف في كثير من الأحيان. قبل 17 عاما، وصف بوتين في خطابه السنوي عن حالة الأمة أمام البرلمان الروسي انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن.

بعد ذلك بعامين، وجّه في خطابه الشهير أمام مؤتمر ميونخ للأمن انتقادات لاذعة للغرب، ووصف تمدد حلف شمال الأطلسي بأنه تهديد لروسيا. لم يكد يمضي عام على خطاب ميونخ حتى شنّت روسيا هجوما على جارتها جورجيا، وفصلت إقليم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها كرد فعل على الوعود بضمّها إلى الناتو، ثم بعد ذلك بـ6 سنوات ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية إليها كرد على مساعيها للانضمام إلى الناتو أيضا.

هذه الوقائع تُشير بوضوح إلى مدى تأثير الهاجس من الحصار الأطلسي على سياسات بوتين تجاه الغرب، وكيف أن الغربيين أساؤوا فهم تفكير سيد الكرملين.

خذ على سبيل المثال الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وصف خطوات الضم الروسية الأخيرة بأنها دوس على ميثاق الأمم المتحدة وتهديد للقواعد التي تُدير النظام الدولي. رغم واقعية هذا الوصف، فإنه يُدين الغرب مثل روسيا؛ فلماذا لم يفطن الغربيون إلى هذا التهديد بهذا القدر عندما هاجمت روسيا جورجيا وضمت شبه جزيرة القرم؟ لقد ردّ الغرب على حرب جورجيا بتعليق مؤقت للحوار مع روسيا قبل العودة إلى العمل معها كالمعتاد.

كما أن العقوبات التي فرضها على موسكو بعد ضم القرم لم تكن قاسية بما يكفي لجعلها أضعف من أن تشن حربا مباشرة على أوكرانيا. كان بايدن ساذجا عندما اعتقد بعد أول قمة مع بوتين في يونيو/حزيران العام الماضي بأن واشنطن وموسكو قادرتان على إقامة علاقة يُمكن التنبؤ بها. في الحقيقة، لم يكن بايدن استثناء بين أسلافه في فهمهم المحدود لروسيا.

يروي جورج دبليو بوش عن بوتين بعد اجتماعهما في سلوفينيا في يونيو/حزيران 2001 أنه نظر في عيني الرجل ووجده واضحا جدا وجديرا بالثقة. باراك أوباما هو الآخر رفض اعتبار أن ضم روسيا للقرم ينم عن تصرفات قوة إقليمية تُهدد جيرانها بدافع القوة، في حين وجد دونالد ترامب أن بُخل أوروبا على الإنفاق العسكري أسوأ بكثير من المخاطر المحتملة من روسيا.

يُمكن للغرب أن يُحمّل انحراف بوتين مسؤولية انهيار سلام ما بعد الحرب الباردة، لكن الحقيقة أنه لعب دورا كبيرا في صقل عدوانية بوتين ودفعه إلى التمرد على الحالة الجيوسياسية التي أرساها انهيار الاتحاد السوفياتي

أوروبا في وضع لا تُحسد عليه بينما يتلاعب بوتين بجغرافية حزامها الشرقي ويُدمّر هيكلها الأمني ويُعرّض اقتصاداتها ومواطنيها لخطر التجمد هذا الشتاء عبر تسليح إمدادات الطاقة، لكنها كانت أكثر سوءا في فهم بوتين من الآخرين، وبدلا من نبذه ومعاقبته على نزعته التوسعية ضد جيرانه اختارت مهادنته. ورغم أن الأوروبيين بدؤوا منذ فترة قصيرة في صياغة خطط طوارئ للتخلص من الغاز الروسي، فإنه لا يجب عليهم أن يتظاهروا بالصدمة من تسليح إمدادات الطاقة.

إنهم يحصدون ببساطة ما زرعوه لعقود من اعتمادهم على الغاز والنفط الروسيين. ربما كانت أنجيلا ميركل واقعية بعض الشيء في تعميق الروابط الاقتصادية مع روسيا كوسيلة لتكريس السلام معها في حقبة ما بعد الحرب الباردة، لكنها لم تفطن قط -مثل غيرها من الزعماء الأوروبيين- لمخاطر إبقاء أوروبا رهينة خطوط الأنابيب القادمة من روسيا، حتى في الوقت الذي أظهر فيه بوتين في مرحلة مبكّرة من حكمه حقده على الغرب ورغبته في إعادة إحياء الجغرافيا السياسية السوفياتية.

كان تشكيل الاتحاد الأوروبي نموذجا مثاليا لتكتل استطاع بسرعة التعافي من الحرب العالمية الثانية، والتحوّل إلى قوة اقتصادية عالمية، لكن الأوروبيين لم يُفكروا أبدا حتى وقت قريب في التحوّل إلى قوة عسكرية قائمة بحد ذاتها وقادرة على التعامل بمفردها مع التحديات الأمنية، لا سيما تلك القادمة من روسيا.

إيمانويل ماكرون كان الزعيم الأوروبي الوحيد الذي تحدّث صراحة عن ضرورة تحقيق الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي، لكنه لم يفطن هو الآخر إلى هذه الحاجة بسبب المخاطر التي تُشكّلها روسيا، بل بسبب تحالف "أوكسوس" الذي شكّلته الولايات المتحدة على حساب طموح فرنسا في المحيط الهادي. لذا، ليس من المُستغرب أن الولايات المتحدة هي التي تقود السياسات الأوروبية تجاه بوتين، وهي من فرضت على الدول الأوروبية زيادة الإنفاق العسكري على جيوشها، والتخلي عن دبلوماسية خطوط الأنابيب مع روسيا.

يمكن للغرب أن يُحمّل انحراف بوتين مسؤولية انهيار سلام ما بعد الحرب الباردة، لكن الحقيقة أنه لعب دورا كبيرا في صقل عدوانية بوتين ودفعه إلى التمرد على الحالة الجيوسياسية التي أرساها انهيار الاتحاد السوفياتي. كان بالإمكان تحويل ذلك الانهيار إلى فرصة لتكريس سلام مستدام ودفع موسكو إلى قطيعة نهائية مع ماضيها السوفياتي، لكن ما حصل العكس. رأى الغرب في انكسار الكبرياء الروسي فرصة لمزيد من التمدد الأطلسي وإعادة تشكيل العالم وفق مصالحه، وأسهم عقدان من الغطرسة الغربية في العالم -نتيجة نصر الحرب الباردة- في تخمير الحالة العالمية لمرحلة تنافس جيوسياسي جديد أوسع نطاقا من فترة الحرب الباردة.

كثير من أصدقاء الغرب في العالم يقفون الآن على الحياد، وموسكو وبكين تعملان معا على تقويض التفوق الغربي رغم أنهما منافسان جيوسياسيان أكثر من كونهما حلفاء. كان تمدد الناتو نموذجا صريحا لفهم الغرب المحدود لبوتين، الذي أسهم في إيصال العلاقات الروسية الغربية إلى انهيار لم تشهده حتى في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية.

استطاع كيندي وخروتشوف بفضل حنكتهما منع نشوب صراع نووي، لكن دبلوماسية القادة بين موسكو وواشنطن اليوم مُعطلة بينما تلوح المخاطر النووية في الأفق. قبل الحرب، حاول الغربيون الإنصات لبوتين، لكنّهم فشلوا في ترويضه بعدما أسهموا في تحويله إلى دب جائع.

على الرغم من مأساوية الحرب، فإن الغرب كان بحاجة للانخراط فيها ليس لردع روسيا فحسب، بل للتكفير أيضا عن خطايا عقدين من السياسات التي استخفّت ببوتين. بقدر ما أن الأوكرانيين يدفعون ثمن التنمّر الروسي، فإنهم يتحمّلون أيضا تكاليف فشل الغرب في فهم دقيق لبوتين والتصرّف الحازم معه في مرحلة مبكّرة. لو تعاملت روسيا والغرب بواقعية سياسات القوى العُظمى كما فعل كيندي وخروتشوف؛ لربّما كان احتمال خسارة جورجيا وأوكرانيا جزءا من أراضيهما أقل، ولو تعامل الغرب بحزم أكبر مع بوتين بعد ضم القرم؛ لربما قلّت احتمالات اندلاع حرب جديدة في أوروبا.

يُمكن للبعض المجادلة بأن بوتين المهووس بالتاريخ واستدعائه في هذا العصر لُيعطي إطارا قوميا للنزعة التوسّعية الجديدة، لا يحتاج أصلا إلى كثير من المُحفّزات العدوانية للتمرد على سلام ما بعد الحرب الباردة؛ قد يكون ذلك صحيحا، لكن من الحكمة الإقرار بأن الغرب أسهم في جعل بوتين عدوانيا على هذا النحو الذي يُهدد السلام في أوروبا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.