الصحافة السينمائية بديل مستقبلي للصحافة التلفزيونية

يعاين المراسل الأسترالي تقريره في غرفة المونتاج عام 1986 قبل أن تختفي الصورة على الشاشة، ويكتشف محرر الصور أن الشريط في ماكينة العرض تعرض لتلف مفاجئ، أسقط المراسل في يده وصاح في زملائه في غرفة الأخبار ليجهزوا له بعض الصور البديلة قبل أن يهرع للخارج ليسجل وقفة أخرى أمام الكاميرا تحت بناية القناة التلفزيونية.
اختار مع المصور خلفية قريبة على بعض الأشجار لتبدو كأنها في مكان آخر، وفي غضون دقائق كان يجري ليلحق تقرير النشرة التي كانت بدأت بالفعل. وفي اللحظات الأخيرة يخرج التقرير على الهواء مباشرة ويتم إنقاذ الموقف في مسلسل "مقدم أخبار التلفزيون" على قناة "إيه بي سي" (ABC9) الأسترالية، الذي أعادت شبكة "بي بي سي" (BBC) البريطانية عرضه هذا العام من إخراج المخرجة الأسترالية إيما فريمان.
تعريف ما هو سينمائي ليس خاضعا بالضرورة لتعريفات هوليود، فما تستعيره الصحافة من السينما قد يكون السيناريو المسبق على التصوير، فيذهب الصحفي أو المراسل لمكان الحدث مع سيناريو محكم يتبع فيه قواعد السيناريو السينمائي من حبكة وشخصيات وطريقة رواية بصرية جمالية فريدة
أرضى المسلسل فضول المشاهدين في الغوص في تفاصيل حياة المذيعين ومقدمي الأخبار خلف الكاميرا وأمامها، وجعلهم يعيشون أجواء إنتاج النشرات والتقارير وأستوديوهات الهواء في عصر منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، رغم إنه من إنتاج عام 2021. وأصبح أكثر المسلسلات مشاهدة على قناة "إيه بي سي" الأسترالية، ومن المقرر عرض الموسم الثاني منه العام المقبل. ونجح المسلسل في عرض الحياة العملية للقنوات الإخبارية بطريقة أقرب ما تكون للشكل السينمائي بعيدا عن القالب الوثائقي أوالواقعي؛ وبهذا حاز على عدة جوائز.
يمثل هذا النمط الهجين من تقديم عالم الصحافة والأخبار في قالب سينمائي أملا لدى عدد من الأكاديميين منذ أن كتبت جلوريانا دافنبورت؛ أحد مؤسسي "معمل الإعلام" في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، عام 1988 تبشر بعصر جديد تتطور فيه ما تسميه الصحافة السينمائية. وهو ما يعني أن تستفيد الصحافة التلفزيونية من تقنيات التطور التقني لتقترب من جماليات السينما في العرض. وبعدما بينت بوادر ثورة العصر الرقمي حينذاك مع أنظمة الأرشفة السريعة للصور، طالبت ببناء قصصي جديد للصحافة التلفزيونية بلغة سينمائية غنية، وأن يتم استخدام الذكاء الصناعي وأنظمة معالجات اللغة في الحواسيب للمساعدة في هذا الأمر.
لم تدرِ دافنبورت أن الثورة الرقمية ستفعل الأفاعيل بالصورة وطريقة عرضها وسرعة تسجيلها وأرشفتها على المستوى المؤسسي وحتى الشخصي، لكن ذلك لن ينعكس على آليات السرد البصري في القصص الإخبارية والتقارير كما كانت تتوقع؛ ولهذا استمرت مطالبات كثير من الأكاديميين بالاستفادة من التقنيات السينمائية في طريق تصوير وعرض التقارير، بل وتقديم الأخبار عوضا عن الشكل الحالي.
خصائص الصحافة السينمائية الجديدة
يقوم الأستاذ بجامعة كارديف البريطانية ديفيد دنكلي جيما بعدة تجارب من أجل تقديم رواية سينمائية للأخبار بدل الشكل الحالي المنتشر، وحجته في هذا الأمر أن تأثير النمط الحالي من تقديم القصص الإخبارية والنشرات تأثير فيزيائي مغرق في الواقعية، أما في السينما فإن التأثير نفسي في المقام الأول. فهل يحتاج الناس فعلا إلى مزيد من الإغراق في الواقعية والتفاصيل؟ أم أن جماليات وتقنيات السينما تشرح الواقع بشكل أفضل من تقديم مادته الخام المصورة بتقنيات وأساليب لم تتغير منذ الخمسينيات؟
يشرح دنكلي أن جماليات السينما وأشكالها خطت منذ الخمسينيات وحتى الآن خطوات واسعة ومتنوعة من حيث أشكال اللقطات وأنماط الأفلام، بينما بقي التقرير الإخباري والنشرة الإخبارية على حالهما منذ 7 عقود. وبرز السؤال: هل يريد الناس واقعا مجردا أم يفضلون رؤيته محقونا بجرعة جمالية من الخيال؟ ويضرب مثالا على ذلك بتحرير نمط إطار المقابلات الإخبارية من ظهور رأس الضيف يمين أو يسار الشاشة مع نظر المتحدث للمحاور إلى اختيار شكل ومكان وحجم اللقطة حسب ما تخبرنا عنه القصة، تماما كما يفعل المخرج السينمائي حين يحدد شكل اللقطة بناء على ما يريد إيصاله من معنى؛ فربما اللقطة الضيقة التي تظهر العينين وجزءا من الوجه هي الأصلح للتعبير عن رسالة الصحفي في تقريره.
يجمع دنكلي بين الخبرة النظرية والجانب العملي، فقد قام بعدة محاولات مع طلابه من أجل تحويل عدد من التقارير الإخبارية التلفزيونية إلى الشكل السينمائي، ووضع بعضها على يوتيوب لأنه يدعو ويكتب في الصحف ويجري مقابلات تلفزيونية داعيا لهذا التحول.
وتعريف ما هو سينمائي ليس خاضعا بالضرورة لتعريفات هوليود، على حد قوله؛ فما تستعيره الصحافة من السينما قد يكون السيناريو المسبق على التصوير، فيذهب الصحفي أو المراسل لمكان الحدث مع سيناريو محكم يتبع فيه قواعد السيناريو السينمائي من حبكة وشخصيات وطريقة رواية بصرية جمالية فريدة.
نحن هنا لسنا بصدد قالب الفيلم الوثائقي الذي له أنماطه السينمائية بالفعل، والمقصود هو استعارة التقنيات السينمائية لتطوير طريقة رواية القصة الصحفية مع الإبقاء على المدة القصيرة للتقرير وطبيعته في تقديم المعلومة، وذلك كي تتحدث اللقطة عن نفسها في المقام الأول، وتقود القصة سياق العرض حتى وإن تطلب الأمر دخول صوت الصحفي الراوي عند الضرورة.
اللافت أن هذا التحول نحو الصحافة التلفزيونية يتطور بشكل مستمر في الجامعات الغربية والشرقية من دون أن يواكب ذلك تبنيا مؤسساتيا من وسائل الإعلام الإخبارية له حتى الآن؛ الأمر الذي دعا المعهد الوطني للصحافة وعلوم الاتصال في جامعة جوجارات في الهند إلى دعوة طلابه لدراسة الصحافة السينمائية، وعدّها المستقبل الذي سيحل محل الصحافة الخبرية بشكلها الحالي. وأفرد المعهد صفحة كاملة على موقعه يشرح فيها مفهوم الصحافة السينمائية، وأن الأجيال الجديدة تفضل أن تشاهد أعمالا سينمائية مبنية على قصص واقعية على أن تشاهد هذه القصص في نشرات الأخبار. كما أدخلت جامعة ويستمنستر البريطانية الصحافة السينمائية ضمن مقرراتها في مرحلة ماجستير الإعلام الرقمي والقصص التفاعلية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.