ضعف روسيا يعزز طموح تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز

لاجتماع المجلس التركي الذي عقد هذا الشهر في تركيا تحت اسم "وزراء خارجية منظمة الدول التركية"
اجتماع المجلس التركي الذي عقد هذا الشهر في تركيا تحت اسم "وزراء خارجية منظمة الدول التركية" (وكالة أنباء تركيا)

استضافت تركيا هذا الشهر اجتماعا طارئا لوزراء خارجية منظمة الدول التركية للتحضير لأول قمة للمنظمة على مستوى القادة في سمرقند الشهر المقبل. ولقد مضى ما يقرب من عام على تشكيل المنظمة كبديل عن مجلس الدول الناطقة بالتركية، لكنّ تأثيرها كقوة إقليمية جديدة لا يزال محدودا للغاية مقارنة بالمنظّمات الإقليمية الأخرى. ومطلع العام الماضي، أثار التدخّل العسكري لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا لإخماد الاضطرابات في كازاخستان شكوكا حول قدرة منظمة الدول التركية على إدارة أوضاعها الداخلية والنزاعات بين بعض أعضائها بعيدا عن تأثير موسكو.

ويبدو ذلك طبيعيا بالنظر إلى أن المنظمة حديثة العهد ولا تمتلك ذراعا أمنيا على غرار منظمة معاهدة الأمن الجماعي. كما أن استقرار أنظمة الحكم في دول آسيا الوسطى يعتمد بشكل رئيسي على النفوذ الأمني الإقليمي لموسكو.

تعتمد إستراتيجية أردوغان أولا على القوة الناعمة والروابط العرقية والثقافية والدينية مع أعضاء منظمة الدول التركية لجذبهم إلى أنقرة، وثانيا على رغبة هذه الدول بالحد من الهيمنة الروسية عليها وبناء شراكات اقتصادية مع جهات أخرى، وثالثا على مبيعات الأسلحة لتلك الدول

وبرز ذلك بوضوح في اضطرابات كازاخستان، حيث ساعد تدخل معاهدة الأمن الجماعي الرئيس قاسم جومارت توكاييف على إحكام قبضته على السلطة وإضعاف نفوذ سلفه نور سلطان نزارباييف، لكن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على المنطقة والدور الروسي؛ قد يؤديان على المدى البعيد إلى إعادة تشكيل جغرافيتها السياسية.

إعلان

وبعد الحرب، بدت دول المنطقة أكثر حذرا في مواصلة الالتصاق بروسيا، حيث إن الحرب والعزلة الاقتصادية الغربية التي تواجهها موسكو تقوّضان نفوذها الاقتصادي على المنطقة وتضعفان دورها كقائد أمن إقليمي، وتفسحان المجال أمام منافسين جيوسياسيين آخرين كتركيا والصين لتعزيز حضورهما في الفضاء السوفياتي السابق. ولطالما اصطدم طموح أنقرة بلعب دور قيادي في آسيا الوسطى والقوقاز بالهيمنة الروسية. ولم تخفِ موسكو معارضتها لرغبة تركيا في إنشاء قاعدة عسكرية في أذربيجان وتنظر بريبة إلى منظمة الدول التركية.

Turkish Foreign Minister Mevlut Cavusoglu
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يتحدث إلى الصحفيين بعد اجتماع مجلس وزراء الخارجية لمنظمة الدول التركية في قصر دولمة بهجة في إسطنبول (وكالة الأناضول)

وبالنظر إلى أن النفوذ الروسي القوي في المنطقة يجمع ما بين الهيمنة الأمنية الإقليمية والشراكات الاقتصادية العميقة، فإن أنقرة تمتلك أدوات متواضعة لمنافسة موسكو. وتعتمد إستراتيجية أردوغان أولا على القوة الناعمة والروابط العرقية والثقافية والدينية مع أعضاء منظمة الدول التركية لجذبهم إلى أنقرة، وثانيا على رغبة هذه الدول بالحد من الهيمنة الروسية عليها وبناء شراكات اقتصادية مع جهات أخرى، وثالثا على مبيعات الأسلحة لتلك الدول.

ولدى كازاخستان أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، وطبيعة علاقاتها بروسيا والصين تُحدد على نحو كبير حجم مساهمتها المستقبلية في منظمة الدول التركية، وبالتالي مدى فعالية هذه المنظمة أيضا. وعندما دعمت روسيا توكاييف في إحكام قبضته على السلطة، بدا أن كازاخستان ستتحول إلى شريك صغير مروض لبوتين. لكن ذلك لم يحدث؛ حيث رفض توكاييف صراحة دعم الحرب الروسية على أوكرانيا، ويعمل بشكل متزايد على تقليل اعتماد بلاده على موسكو عبر تعزيز شراكات أخرى مع الصين وتركيا. وفي مايو/أيار العام الماضي، زار أنقرة ووقّع معها بروتوكولا لبدء الإنتاج المشترك لطائرات "أنكا" التركية بدون طيار، مما يجعل كازاخستان أول من ينتجها خارج تركيا. كما تعد تركمانستان من بين أكبر المشترين للأسلحة التركية.

إعلان

كذلك، اشترت قرغيزستان طائرات "بيرقدار تي بي 2" التركية العام الماضي. وطاجيكستان أيضا حريصة على شراء بعضها، مما يضع تركيا في مأزق الموازنة بين علاقاتها مع الدول التي لديها نزاعات حدودية كقرغيزستان وطاجيكستان. وخلقت الديناميكيات الإقليمية المتغيرة منذ تفكك الاتحاد السوفياتي بيئة مناسبة لأنقرة لتعميق علاقاتها مع العالم التركي في آسيا الوسطى.

وبعض التحولات التي طرأت على آسيا الوسطى والقوقاز بفعل حرب أوكرانيا تبدو مشجعة لطموحات تركيا. وفي الوقت الذي يعمل فيه بوتين على مواجهة العزلة الغربية، يبدو عاجزا عن توظيف دول المنطقة لصالحه. وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية والسياسية المهمة مع روسيا، لم تنحاز أي من دول آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) إلى جانب روسيا في قرارين للأمم المتحدة أدانا الحرب على أوكرانيا في مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين. وإن استمرار الإخفاق العسكري الروسي في حرب أوكرانيا يلقي بظلال من الشك على براعة موسكو كقوة عسكرية قوية أو قائد شرطة إقليمي.

يتعين على أنقرة فعل الكثير لإبراز نفسها كقوة جديدة في المنطقة، لكنّ تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا اختصرت عليها المسافات وتجعل الأدوات التي تمتلكها أكثر فعالية

وهناك دلائل أخرى على أن دول آسيا الوسطى حذرة من البقاء في فلك روسيا بالطريقة التي اعتادت عليها منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. حيث رفضت كازاخستان بحزم الاعتراف بالضم الروسي للأقاليم الأوكرانية الأربعة. وندد الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزاييف بشدة بقمع الحقبة السوفياتية لبلاده في أواخر أغسطس/آب الماضي، بينما يعمل على تعزيز العلاقات مع الصين.

هناك عاملان أساسيان يقوضان دور روسيا كقوة أمنية إقليمية:

  • أولا، في مواجهتين عسكريتين حصلتا مؤخرا بين أذربيجان وبين أرمينيا من جانب وقرغيزستان وطاجيكستان من جانب آخر، لم يكن هناك دور فاعل لروسيا. ولعب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتركيا دورا أكبر في تهدئة التوترات بين باكو ويريفان. وإن موسكو منهكة في أوكرانيا بحيث لا يمكنها التركيز على دورها كحارس في المنطقة.
  • ثانيا، تعتمد جميع دول آسيا الوسطى بشكل كبير على روسيا للحفاظ على اقتصاداتها الضعيفة واقفة على قدميها، من خلال التجارة والعمالة الموسمية والتحويلات المالية، لكن ضعف الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات سيؤثر أيضا على اقتصادات آسيا الوسطى على المدى المتوسط. والصين هي القوة الاقتصادية الرئيسية التي يُمكن أن تستفيد من التراجع الروسي في المنطقة، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى مشاريع الحزام والطريق الطموحة هناك، في حين أن روسيا لن تعود جذابة تماما كشريك اقتصادي كما كانت قبل الحرب.
إعلان

ومن المرجح أن يؤدي ضعف روسيا المتزايد إلى مساعدة تركيا على تعزيز روابطها بشكل أعمق مع المنطقة. لكن حقيقة أن الروابط السياسية والاقتصادية والأمنية بين موسكو وآسيا الوسطى عميقة إلى درجة يصعب التكهن بضعفها في المستقبل المنظور، تعني أن العقبات التي تواجه أنقرة ليست بسيطة.

وعلى عكس الصين، التي لديها نفوذ اقتصادي كبير في المنطقة ويساعدها اعتماد روسيا عليها لمواجهة العزلة الغربية في جعل يدها أقوى في الشراكة التنافسية مع موسكو، فإن تركيا بحاجة لأن تكون أكثر نشاطا وتفاعلا مع المنطقة عبر تقديم نفسها كشريك متكامل. وبالإضافة إلى الاستثمارات ومبيعات الأسلحة، فإن تجارة الطاقة وطرق التجارة العالمية أهم الأدوات التي تمتلكها على هذا الصعيد.

وفي زيارته الأخيرة إلى أستانا، أثار أردوغان من جديد أهمية خط الممر الأوسط الذي يمتد من بكين إلى أوروبا ويقع في قلب حركة التجارة العالمية السنوية بأكثر من 600 مليار دولار أميركي. وبينما يبرز الخط أكثر في التجارة العالمية مع توفير الأمن والوقت الذي يوفره، فإنه يعزز أيضا دور تركيا كمحور نقل إقليمي يربط بين الغرب والشرق لتحل محل روسيا جزئيا. ويتعين على أنقرة فعل الكثير لإبراز نفسها كقوة جديدة في المنطقة، لكنّ تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا اختصرت عليها المسافات وتجعل الأدوات التي تمتلكها أكثر فعالية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان