ملامح اللغة البصرية عربيا بين السينما والتلفزيون
يستلقي جنديان في الحرب العالمية الأولى تحت شجرة وقد غلبهما نوم عميق حين أتى القائد وركل أحدهما ليوقظه. انتبه الجندي وأزاح خوذته بتكاسل من فوق عينيه مرتديا إياها وحاملا بندقيته ليسير مع رفيقه وسط جنود آخرين يمارسون طقوس الحياة الطبيعية من نوم وأكل وحلاقة وسط مزارع خضراء ممتدة.
يصل الجنديان إلى أحد الخنادق ليختلف المشهد كليا حيث جنود آخرون على أهبة الاستعداد للحرب، ثم يصلان أخيرا إلى وجهتيهما حيث غرفة القيادة المظلمة إلا من مصباح صغير يلقي إضاءته أسفل وجوه الحاضرين.
كل هذا يتم في لقطة سينمائية واحدة من دون أي قطع في الفيلم الأميركي البريطاني المشترك 1917 والصادر عام 2019 كأحد أحدث وأشهر أفلام اللقطة الواحدة من إخراج المخرج البريطاني الحائز على جائزة الأوسكار سام مينديز.
تعتبر أفلام اللقطة الواحدة أحد أشهر التقنيات السينمائية في التصوير والتي يستعرض فيها المصور السينمائي والمخرج قدرتهما على التحرر من أحد العناصر الأساسية في الفيلم السينمائي وهو المونتاج
يتناول الفيلم قصة تكليف جنديين بريطانيين بمهمة عسيرة وهي المرور في أرض العدو لتوصيل رسالة تحذير إلى كتيبة بريطانية بعد انسحاب الألمان إلى خط هيندنبورغ خلال عملية ألبريش في الحرب العالمية الأولى.
وقد قرر المصور السينمائي البريطاني روجر ديكنز أن يصور كامل الفيلم ليبدو وكأنه مكون من لقطة واحدة، أي أن الكاميرا تتابع الممثلين من مختلف الزوايا وتنتقل من مكان لآخر ومن زمان لآخر من دون أي قطع. واستطاع ديكنز من خلال أسلوبه هذا أن يحصد بجدارة جائزة الأوسكار عام 2020.
وتعتبر أفلام اللقطة الواحدة أحد أشهر التقنيات السينمائية في التصوير والتي يستعرض فيها المصور السينمائي والمخرج قدرتهما على التحرر من أحد العناصر الأساسية في الفيلم السينمائي وهو المونتاج لصالح الإغراق الكامل في الواقعية وأخذ المشاهد من يديه في رحلة استكشافية تحاكي الخبرة الحياتية.
ورغم أن مثل هذه الأفلام عادة ما تكون مكونة من عدة لقطات طويلة جرى معالجتها سينمائيا لتبدو وكأنها لقطة واحدة طوال الفيلم، فإن ما يراه المشاهد هو تواصل ممتد في المكان والزمان واستمرارية في الحركة.
ويلجأ المخرج والمصور السينمائي أحيانا لمثل هذا النوع من التصوير والإخراج ليناسب موضوع الفيلم حيث أراد المخرج في فيلم 1917 أن ينقل للمشاهد معاناة الجنود خلال الحرب العالمية الأولى.
لم ينتشر هذا الأسلوب السينمائي في العالم العربي، لأسباب سنأتي على ذكرها، رغم أنه موجود في المدارس السينمائية المختلفة منذ أربعينيات القرن الماضي. وقد قام بعض المخرجين العرب بمحاولات تعد ربما تجريبية في هذا الصدد منها فيلم "إنتروبيا" أو الانحدار للمخرج المغربي ياسين ماروكو عام 2013 والذي يصور آخر 25 دقيقة من حياة زوجين مغربيين والتي تسدل الستار على علاقتهما المتوترة على مر السنين.
ويعد هذا الأسلوب البصري أحد الفروق المهمة بين اللغة البصرية المستخدمة في السينما عن تلك المستخدمة في التلفزيون، إذ يصعب تطبيق هذه الطريقة على المسلسلات التلفزيونية مثلا التي تميل إلى التصوير في الأماكن والأستوديوهات المغلقة وليس على الأماكن المفتوحة، وتركز بشكل أكبر على الحوار بين الشخصيات.
وهناك فارق آخر يتعلق بطبيعة أماكن المشاهد المتكررة التي يتابعها المسلسل الدرامي مثلا والذي يقتضي تصوير عدة مَشاهد وحلقات في المكان نفسه وهذا يتطلب عدم تغييره، بخلاف السينما التي يأتي إليها المُشاهد مرة واحدة.
الدراما العربية لا تزال تدور في فلك الحوار بطبيعة الحال والثقافة العربية هي ثقافة سمعية تتذوق جماليات اللغة بالأساس وليست ثقافة بصرية
تأثير الثقافة المحلية في اللغة البصرية
يصعب رسم خطوط واضحة بين اللغة البصرية للسينما وتلك المستخدمة في التلفزيون، إذ إن كلا منهما تتغير بتغير التطور التقني وأحيانا تؤثر تقنيات كل منهما على الآخر. كما ترسم الثقافة المحلية ملامح كلتا اللغتين في أحيان كثيرة.
ففي بريطانيا مثلا لا تزال الدراما التلفزيونية متأثرة بالمسرح البريطاني الشهير. والمسرح في هذا السياق أداة ترفيه وثقافة وفيه ما هو سياسي وما هو موسيقى، وهذا ينعكس على نوعية الدراما التي يشاهدها الجمهور وتنتج محليا.
ولهذا فإن الحوار والأداء الغني يغلب على اللغة البصرية البريطانية في المسلسلات بعكس الدراما في الولايات المتحدة المتأثرة بهوليود من ناحية الغنى البصري بسبب الطبيعة التجارية للإنتاج الأميركي للدراما والتي توفر له ميزانيات ضخمة بخلاف نمط الإنتاج البريطاني ذي الميزانية المحددة والذي يعتمد غالبا على أموال دافعي الضرائب.
من هنا يمكن أن نلحظ التفوق المحلي الملحوظ في العالم العربي للدراما على السينما. وأحد أسباب هذا السبق الدرامي هو أن الدراما العربية لا تزال تدور في فلك الحوار بطبيعة الحال والثقافة العربية هي ثقافة سمعية تتذوق جماليات اللغة بالأساس وليست ثقافة بصرية.
ويمكن أن نستدل على ذلك بمثال صغير وهو ما يتداوله الناس من مقاطع من مسلسلات وأفلام، حيث دائما ما يعلق في ذهن المشاهد العربي الحوار السينمائي أو الدرامي أكثر من جماليات المشهد. ولهذا احتلت فورا برامج الحوارات أو التوك شو مكانا بارزا لدى المشاهد العربي باعتبارها سجالا كلاميا أكثر من برامج الحركة والمسابقات مثلا. بمعنى آخر، فإن كثير من الإنتاج التلفزيوني في العالم العربي إذا سمعه المشاهد العربي من دون أن يراه فلن يفوته كثير من التفاصيل التي يهتم بها.
وهذا واقع يرصده الدكتور نصر الدين العياضي في كتابه "هوامل الحديث عن الميديا" حيث يتهم القنوات التلفزيونية العربية بالتسابق نحو الثرثرة بدلا من استخدام الكاميرا والصورة لنقل الواقع ومناقشته. وهو استنتاج سليم ولا يتعلق بالقنوات التلفزيونية وحدها بل بثقافة قديمة تتعامل مع الكاميرا في المجال العام بكثير من الشك والريبة.
كان الناقد السينمائي الراحل الدكتور سمير فريد يقول إن حمل مسدس في الشارع العربي أمر مقبول لأن حامله قد يكون أحد العناصر الأمنية المنتشرة، ولكن حمل كاميرا هو أمر مستهجن يلفت الأنظار ويشحذ نظرات الاتهام حول مغزى التصوير وأهدافه وما إذا كان حامل الكاميرا لديه تصريح أم لا؟!
والعجيب أن هذا الأمر لا يزال سائدا في الشوارع العربية حتى مع انتشار الهواتف المحمولة التي تصور بدقة كبيرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.