الأمير عبد القادر الجزائري.. القيادة الأصيلة تواجه القوة الغاشمة

مدونات - عبد القادر الجزائري
الشيخ عبد القادر الجزائري (مواقع التواصل)

في تاريخنا الكثير من الشخصيات التي يمكن أن تساهم دراسة قصص حياتها في تطوير نظريات جديدة  في علم القيادة، وفي زيادة قدراتنا على تأهيل شبابنا للقيادة، ومواجهة تحديات القرن الـ 21.

وتتميز شخصية الأمير عبد القادر الجزائري، وتجربته في مواجهة العدوان الفرنسي على الجزائر بالتنوع والثراء؛ فسيرته يمكن أن تقدم لنا جوانب جديدة تحتاج لها أمتنا، وهي تبحث عن قيادات جديدة يمكن أن تعيد لها حقها المشروع في أن تتقدم لتنقذ البشرية من الهلاك، ولتضيء للبشرية الطريق لبناء عالم أكثر عدلا.

وعي القائد بذاته وتجربته التاريخية وأصالته وهويته تساهم في صياغة أهدافه ورؤيته، وفي زيادة قوته وقدرته على تحقيق الانتصارات والإنجازات الحضارية.

انتصارات عديدة

الأمير عبد القادر الجزائري البطل الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، شخصية تستحق أن تفخر أمتنا بها، فقد قاد شعبه لمواجهة العدوان الفرنسي، وللدفاع عن الجزائر طوال 17 عاما حقق فيها الكثير من الانتصارات على الجيش الفرنسي بالرغم من تقدم أسلحة هذا الجيش، واعتماد الشعب الجزائري الذي قاده الأمير عبد القادر على أساليب الحرب التقليدية.

كان تعليمه الديني صوفياً سنياً، أجاد القراءة والكتابة وهو في سن الخامسة، كما نال الإجازة في تفسير القرآن والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة من عمره ليحمل بعد ذلك بسنتين لقب "حافظ" وبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته في مختلف المواد الفقهية.

إعلان

شجعه والده على الفروسية وركوب الخيل ومقارعة الأنداد، والمشاركة في المسابقات التي تقام آنذاك، فأظهر تفوقا مدهشا.

في مواجهة أوروبا كلها

بالرغم من استخدام الجيش الفرنسي الرصاص والنيران لإحراق القرى الجزائرية؛ إلا أن فرنسا عجزت عن احتلال الجزائر في بداية الأمر، واعترفت بهزائمها أمام الجزائريين الذين استخدموا الخيول والسيوف، فناشدت فرنسا كل الدول الأوروبية لإمدادها بالجنود والأسلحة المتقدمة. فاستخدمت فرنسا الدين المسيحي في إثارة مشاعر الأوروبيين لمساعدتها في مواجهة المسلمين، وارتكبت الجيوش الأوروبية الكثير من المذابح التي تشكل عارا لأوروبا وجريمة ضد الإنسانية.

لكن الأمير عبد القادر صمد في المواجهة، وظهرت قوة الإيمان كعامل مهم في بناء القوة وتحقيق الانتصارات، فاستشهد الآلاف من رجال القبائل العربية الجزائرية، الذين دافعوا بشجاعة وإقدام عن حرية وطن، وكرامة أمة لا تقبل الضيم.

حكام العرب خذلوه

وقفت أوروبا كلها خلف فرنسا، وأمدتها بالسلاح والجنود؛ في الوقت الذي خذل فيه حكام العرب الأميرَ عبد القادر فلم يستجيبوا لرسائله، ولم يقدموا له عونا، ونجحت فرنسا في إغراء بعض ضعاف النفوس بالمال؛ فخانوا وأرشدوا الفرنسيين عن الأماكن التي يوجد فيها الأمير.

عندما أحرق الفرنسيون القرية التي كان يوجد فيها الأمير نجحوا في أسره، لكنهم خوفا من شعب الجزائر نفوه إلى إسطنبول.

الفخر بالذات والأصالة

أذكر أنني قرأت ديوان الأمير عبد القادر الجزائري عندما كنت طالبا بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وكانت نسخة قديمة مطبوعة عام 1960 وتكاد حروفها أن تختفي، وكنت أبذل جهدا في إعادة صياغة بعض الكلمات.

لكنني أعدت قراءتها، وأنا أعمل لتطوير علم القيادة وكنت قد توصلت إلى نتيجة مهمة هي أن وعي القائد بذاته وتجربته التاريخية وأصالته وهويته تساهم في صياغة أهدافه ورؤيته، وفي زيادة قوته وقدرته على تحقيق الانتصارات والإنجازات الحضارية.

إعلان

أصالة النسب

أصالة النسب تقوم بدور مهم في تطلع القائد للمجد ولتحقيق الانتصارات، كما تساهم في ضبط سلوكه، وتمسكه بالأخلاق الكريمة، وتعامله مع الخصوم.

وربما يكون ذلك من أهم مفاتيح شخصية الأمير عبد القادر الجزائري التي يمكن أن تساهم في زيادة فهمنا لسيرته وكفاحه وتجربته التاريخية، كما تساهم في زيادة قدرتنا على استخدام سيرته نقطة انطلاق لإعداد قادة المستقبل.

الأمير عبد القادر ينتمي لقبيلة عربية من أشرف القبائل يرجع أصلها إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهو في كل أشعاره يفتخر بهذا النسب الشريف، ويرى أنه مصدر قوته، وكل ما يتمتع به من مزايا وسمات وأخلاق.

بالرغم من أن الفرنسيين تمكنوا من قتل جواده، إلا أنه استمر يحصد رؤوس جنرالاتهم وجنودهم بسيفه، ويشهد ذلك على الإيمان الذي ملأ قلبه بقوة جعلته لا يبالي أن يقاتل راجلا

مواجهة الأعداء في شدة هاشمية!

كان الأمير عبد القادر إلى جنب والده الشيخ محيي الدّين في الهجومات التي شنّها على الجيش الفرنسي بمدينة وهران، وقد استطاع الشيخ محيي الدين أن يُزعزع العدو ويرعبه، وهنا برز ابنه (عبد القادر) الذي أظهر في المعارك التي شارك فيها مع والده شجاعته وبطولته التي أبهرت الجميع.

قاد محيي الدين جيشه ضد الجيش الفرنسي وأعوانهم في وهران منذ 17 أبريل/نيسان 1832، وكان أول هجوم قام به على سرية استطلاع فرنسية من 100 ضابط وجندي في منطقة وهران ملحقًا بها بعض الخسائر. وفي مطلع مايو/أيار من نفس السنة خاض محيي الدين برفقة ابنه عبد القادر ومن معه من المقاتلين عددًا من المعارك المجيدة ضد الجيش الفرنسي، هاجموا فيها بعض المعسكرات والحصون الفرنسية بمدينة وهران، وألحقوا بهم هزائم أجبرتهم على الانسحاب.

أسند محيي الدين في هذه المعركة الراية إلى ابنه عبد القادر الذي كان بطل المعركة، حيث قسم جيشه إلى 5 فرق: فرقتين للقتال، وفرقتين للدفاع، وخامسة كمنت وراء العدو، وفاجأته عند تقهقره إلى الوراء وأبادته عن آخره واستولت عن كل السلاح والذخيرة.

إعلان

ولهذا عرضت قبائل وأعيان الغرب للمرة الثانية من الشيخ محيي الدين الإمارة في نوفمبر/تشرين الثاني 1832، قائلين له "إلى متى يا محيي الدين ونحن بلا قائد؟ إلى متى وأنت واقف جامد متفرج على حيرتنا. أنت يا من يكفي اسمه فقط يجمع كل القلوب لتدعيم وتماسك القضية المشتركة.." وقد أضاف أحد الحاضرين قائلا لمحيي الدين "عمت الفوضى في البلاد والعدو دخل المساجد، وأحرق الكتب، وهدم الدور على أصحابها، ولابد من سلطان له سلطة شرعية، وقد اخترناك لتحمل هذه المسؤولية".

لكن الشيخ محيي الدين اعتذر مرة أخرى لكبر سنه وقال "أشكر ثقتكم ولكن أعتذر عن قبول هذا المنصب، فأنا الآن أقوم بواجبي الديني والوطني مقاتلا في سبيل الله كأي أحد منكم". وفي ذات الوقت لم يمانع في ترشيح ابنه قائلا "إن كان رأيكم وثقتكم بولدي عبد القادر كرأيكم بي فأنا متنازل له عن هذه البيعة، فتشاوروا فيما بينكم، وإذا عقدتم العزم فموعدنا في سهل غريستحت شجرة الدردارة صباح الاثنين 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1832" وهذا ما حدث بالفعل فقد تمت مبايعة الأمير عبد القادر في نفس المكان وفي نفس الموعد، بايعوه بالإمارة ولقبوه بـ "ناصر الدين" وكانت هذه البيعة الأولى.

واجه عبد القادر الأعداء بشجاعة وقوة في شدة "هاشمية " في معركة وهران عام 1832، التي تمكن الفرنسيون فيها من قتل حصانه برصاصة في الرأس، لكن الأمير استمر في القتال، وفي قيادة جيشه، حتى تحقق الانتصار على العدو.

وفي هذا الصدد يقول شارل هنري تشرشل "لقد آمن عبد القادر إيمانا عميقا بضرورة الاتحاد المطلق بين مواطنيه، لكي يحقق لهم استقلالهم المشترك، لقد قرر أن يقارع بسيفه الذين يشكون أو يحاولون أن يقاوموا سلطته".

يقول الأمير عبد القادر

فإنّا أكاليل الهداية والعلى .. ومن نشر علياهم ذوي المجد قد طوى

فنحن لنا دين ودنيا تجمّعا .. ولا فخر إلا ما لنا يرفع اللوا

إعلان

مناقب مختاريّة قادريّة .. تسامت وعباسية مجدها احتوى

فإن شئت علما تلقني خير عالم .. وفي الروع أخباري غدت توهن القوى

لنا سفنٌ بحر الحديث بها جرى.. وخاضت فطاب الورد بها ارتوى

وإن رمت فقه الأصبحيّ فعج على.. مجالسنا تشهد لواء العنا دوا

وإن شئت نحواً فانحنا تلق ما له.. غداً يُذعن البصريّ زهداً روى

وأصالة النسب ارتبطت في شخصية الأمير عبد القادر الجزائري بالعلم، فهو يعتبر نفسه خير عالم، وهو لا يبالغ، فقد اعترف له أهل عصره من العلماء بأنه قد تميز بعلمه في الفقه واللغة العربية.

هل يرتبط العلم بالشجاعة؟!

فإن كان من المؤكد أن هناك علاقة قوية بين أصالة النسب والشجاعة وقوة القلب والفروسية، فإن تجربة الأمير عبد القادر الجزائري التاريخية توضح أن العلم يشكل أساسا للقيادة التي تتميز بالقوة والشجاعة.

فبعد أن افتخر الأمير عبد القادر بنسبه وعلمه، بدأ يصف شجاعته وجهاده وبلاءه في معركة "خنق النطاح " في وهران والتي كان لشجاعته كقائد دور مهم في تحقيق الانتصار على الفرنسيين.

قتلوا جواده ولكن

فبالرغم من أن الفرنسيين تمكنوا من قتل جواده، إلا أنه استمر يحصد رؤوس جنرالاتهم وجنودهم بسيفه، ويشهد ذلك على الإيمان الذي ملأ قلبه بقوة جعلته لا يبالي أن يقاتل راجلا، فما الجواد رغم أهميته سوى وسيلة، لكن الهدف العظيم يمكن أن يتحقق حتى إن عزت الوسائل.

يقول الأمير عبد القادر

ويوم قضى تحتي جواد برمية .. وبي أحدقوا لولا أولو البأس والقوى

وأسيافنا قد جردت من جفونها .. وردت إليها، بعد ورد، وقد روى

شددت عليه شدة هاشمية .. وقد وردوا ورد المنايا على الغوى

فبالرغم من أن جواده قد قتل، والجندي الفرنسي يهاجمه بحربة فيها نار، إلا أنه شد عليه " شدة هاشمية "، وبذلك لا ينسي الأمير عبد القادر أصالة نسبه في هذا الموقف الصعب، فتلك الأصالة تليق بها أن يقدرها المرء حق قدرها بأن يتقدم ليقاتل، وليواجه كل المخاطر بثبات ويقين جعل الجندي الفرنسي يهرب أمامه.

إعلان

مصدر إلهام للكفاح!

ويظل شعر الأمير عبد القادر الجزائري مصدر إلهام للأمة كلها، في كفاحها لبناء المستقبل باختيار قيادات تتميز بأصالة النسب والأهداف والأفكار والمشروعات الحضارية.

لا يهم أن ينهزم الإنسان في لحظة من الزمن أمام القوة الغاشمة، فأوروبا جمعت كل قوتها لمواجهة الأمير عبد القادر، وارتكبت جريمة لا يمكن أن تنساها الأمة.

لكننا سنظل نقرأ شعر الأمير عبد القادر الجزائري، وندرس سيرته لنقوم في ضوئها بتأهيل قيادات المستقبل الذي سنبنيه بكفاحنا، وسوف ننتزع يوما حريتنا ونحقق استقلالنا الشامل.

يقول الأمير عبد القادر الجزائري 

وذا دأبنا فيه حياة لديننا .. وروح جهاد بعد ما غصنه ذوى

وإنا بنو الحرب العوان لنا بها .. سرور إذا قامت، وشانئنا عوى

وإني لأرجو أن أكون أنا الذي .. ينير الدياجي بالسنا بعد ما لوى

بجاه ختام المرسلين محمد .. أجل نبي كل مكرمة حوى

الفخر بالأصل

القائد الذي تحتاجه الأمة والذي تبحث عنه في ضوء قراءة جديدة لتاريخ أبطالها -ومنهم الأمير عبد القادر الجزائري- هو الذي ينير الدياجي بالسنا عندما يتقدم ليواجه التحديات، ويفخر بأصله وانتمائه لأمته، ويملأ الإيمان قلبه.

هكذا يعلم الأمير عبد القادر الجزائري الأجيال درسا مهما في القيادة صاغه شعرا:

تساءلني أم البنين وإنها .. لأعلم من تحت السماء بأحوالي

ألم تعلمي يا ربة الخدر أنني .. أجلي هموم القوم في يوم تجوالي

وأغشى مضيق الموت لا متهيّباً .. وأحمي نساء الحي في يوم تهوال

أميرٌ إذا ما كان جيشيَ مقبلاً.. وموقدُ نار الحرب إذ لم يكن صالي

إذا ما لقيت القوم إني لأول .. وإن جال أصحابي، فإني لها تال

أدافع عنهم ما يخافون من ردي .. فيشكر كل الخلق من حسن أفعالي

ومن عادة السادات بالجيش تحتمي .. وبي يحتمي جيشي وتحرس أبطالي

وبي تتقي يوم الطعان فوارس .. تخالينهم في الحرب أمثال أشبال

أما وقد كثرت هموم الأمة، واشتدت خطوبها، وتحكم فيها أعداؤها، فإن حاجتها تشتد إلى قيادة تتقدم لتواجه التحديات، وتحتمي الشعوب بشجاعتها وايمانها وحكمتها وصواب رأيها.

إعلان

وفي سيرة الأمير عبد القادر الجزائري ما يوضح لنا الطريق، فإن كان هذا الأمير يفخر بنسبه وأصله وعلمه ومكارم أخلاقه، فإنه أيضا يفخر بفروسيته وقيادته وكفاحه، وتلك سمات ترتبط بالعربي، ويتوارثها عن أجداده؛ وفي ذلك يقول عبد القادر الجزائري:

ورثنا سؤددا للعرب يبقى .. وما تبقى السماء ولا الجبال

فبالجد القديم علت قريش .. ومنا فوق ذا طابت فعال

وكان لنا دوام الدهر ذكر .. بذا نطق الكتاب ولا يزال

ومنا لم يزل في كل عصر .. رجالٌ للرجال همُ الرجال

لهم همم سمت فوق الثريا .. حماة الدين، دأبهم النضال

سلوا تخبركم عنهم فرنسا .. ويصدق إن حكت فيها المقال

فكم لي فيهم من يوم حرب .. به افتخر الزمان ولا يزال

فإذا كان الانتساب لسيد الخلق جميعا، ونبي الله الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم هو مصدر فخر الأمير عبد القادر الجزائري؛ فإن من حق الأمة أن تفخر بجهاد الأمير وتجربته التاريخية، وانتصاراته على الفرنسيين.

وهذا الفخر يمكن أن يكون نقطة انطلاقنا لبناء المستقبل، باستعادة الثقة في ذاتنا، وقدرتنا على قيادة البشرية في كفاحها لتحقيق العدل والحرية، والتحرر من الاستبداد وكل أشكال الاستعمار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان