التقاليد المولوية في تركيا.. الأتراك وحبّ النبي

المولوية في تركيا (غيتي)

إذا كانت هناك سمة مميزة للحياة الإسلامية في تركيا، فيمكننا القول إن هذا يمكن العثور عليه في الطريقة التي يعبّر بها الأتراك عن حبّهم للنبي صلى الله عليه وسلم، خاصة عندما تتم مقارنتهم بالعرب في ذلك الأمر. في الواقع، يرتبط الأتراك بالنبي وسيرته أكثر من ارتباطهم بالقرآن، حيث يمكن الملاحظة بسهولة أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت أكثر بروزا في الآونة الأخيرة عند المسلمين الأتراك.

لعبت اللغة العربية دورا كبيرا في شكل العلاقة بين الأتراك والقرآن، فقد خلقت حاجزا للوصول إليه، وكانت سببا في عدم القدرة على الإلمام الشامل بمعانيه وآياته. ومع ذلك فالعديد منهم يسعى باجتهاد واضح لإتقان اللغة العربية، ودافعهم الأول -وربما الوحيد- هو اكتساب القدرة والمهارة على قراءة آيات القرآن الكريم وفهمها فهما صحيحا.

ومن أهم العادات التي يحرص عليها الرجال والنساء والشباب في شهر رمضان ما يسمى بـ"المقابلة" التي يتم فيها ختم القرآن الكريم في رمضان بالمساجد من خلال مجموعات تتناوب على تلاوة أجزاء منه كل يوم، حيث يتم ختم القرآن كاملا يوميا في المساجد.

ويحرص الأتراك -ولا سيما الشباب- على هذا التقليد جيلا بعد جيل، ويعدّ مسجد ومدرسة الشيخ حميد الولي -الملقب بـ"صومونجي بابا"- في مدينة مالاطيا شرق تركيا، من أهم المساجد التي تجمع الشباب حول القرآن الكريم لتلاوته، إذ يشكل الشباب والصبية بعد صلاتي الفجر والظهر حلقة في المسجد الذي يرجع تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر لتلاوة القرآن.

الشعر التركي

من جهة أخرى، لعب الشعر التركي الذي يصف شخصية النبي صلى الله عليه وسلم دورا قويا جدا في ترجمة الإسلام إلى الناس باللغة التركية ونقله إليهم، ويأتي على رأس هذه الأدبيات: قصيدة الشاعر التركي سليمان جلبي "وسيلة النجاة"، المعروفة باسم "المولد الشريف".

في ربيع الأول الليلة كانت
بعد عشر واثنين منه حانت

خطف البرق ومن داري سطع
فأنار الكون والكون التمع

قالت النور رأت أم الحبيب
وله الشمس فراش ذا عجيب

وإذا جاز التعبير، فإن القصيدة نقلت معاني التوحيد والآخرة وتحدثت عن النبي عليه السلام إلى الأتراك بلغتهم، حيث أدت هذه المهمة لعدة قرون في أراضي الأناضول، من خلال خلق تقليد -أو حتى تقاليد- بطرق فريدة خاصة بها. ومما لا شك فيه، أنه كانت هناك أعمال قبل هذه القصيدة تخبر الناس بمبادئ الإسلام باللغة التركية، بداية من أعمال يونس إيمري، ومرورًا بأحمد يسيفي، وانتهاء بحجي بكتاش. ومع ذلك، فإن المميز في قصيدة "وسيلة النجاة"، هو أنها عمل شعري يمكن أن يكون متشابكا بسهولة في اللغة، والأهم من ذلك أنها تُقرأ قراءة روتينية بشكل متكرر باستمرار، مما جعلها تتحول بعد فترة من الوقت إلى طقس.

قصيدة المولد النبوي لسليمان جلبي لم تقتصر على اللغة التركية، بل تمت ترجمتها وقراءتها بين العرب، حتى لو كان ذلك بشكل جزئيٍّ، ويمكن اعتبار ذلك من التأثير التركي العثماني على العرب

إن النصّ الذي يتكرر باستمرار بطريقة طقسية ويُخلّد في ذاكرة الناس يكتسب حتمًا قدسية، ويترك أثرا في العقول، حيث إن العادة التي تتكرر في روتين معين، تعمل على تنميط بعض حالات التفكير والشعور عند تكرارها، وتقوم  الانتماءات الدينية -على الرغم من أن معناها غير محدد تمامًا- بخلق هذه الأنماط، وتضع عقلية الإنسان وعالم العاطفة في شكل معين.

ربما كانت الجماهير -التي لم تستطع إقامة علاقة مباشرة مع القرآن أو حتى الأحاديث بسبب حاجز اللغة- تغذي معتقداتها الإسلامية ومبادئها الأخلاقية بمثل هذا النص، الذي تم تزيين محتواه -مرة أخرى- بترجمات للآيات والأحاديث، كما أنه لا يخبرنا فقط عن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، بل يتحدث عن العقيدة والمبادئ والقيم الأخلاقية التي يجب أن يخضع لها المسلم، ولهذا فهذه القصيدة تملأ اللغة وتحفر في العقول.

المولد النبوي

الاحتفال بالمولد غير شائع في التقاليد الإسلامية السائدة في تركيا. وفي الواقع، فإن ولادة النبي عليه السلام حدث ذو أهمية ثانوية جدّا في تاريخ الإسلام، فنقطة البداية في تاريخ الإسلام -على عكس المسيحية- ليست ولادة النبي، ولا حتى نزول الوحي، بل هجرته إلى المدينة المنورة مع أصحابه. لهذا السبب، حتى في المناطق التي تتبنى تقليد الاحتفال بالمولد النبوي، ينظر إليه بشكل أكبر من مجرد كونه ذكرى لولادة النبي، وإنما كيوم يذّكر بسيرته ويؤكد فيه على العمل بها. والجدير بالذكر أن قصيدة المولد النبوي لسليمان جلبي لم تقتصر على اللغة التركية، بل تمت ترجمتها وقراءتها بين العرب، حتى لو كان ذلك بشكل جزئيٍّ، ويمكن اعتبار ذلك من التأثير التركي العثماني على العرب.

السراج والبشير والنذير
الإمام والهمام والمنير

الكريم والكليم والحليم
الشفيع والمطيع والسليم

ومليح الوجه ذو قلبٍ صفا
مرتضى ومجتبى ومصطفى

إنه الهادي ومختار خليل
خصه بالحب والخلق الجميل

الحبيب والحسيب والنسيب
المنيب والطبيب والخطيب

هو ياسين وطه والأمين
جاء لكن رحمةً للعالمين

خيرة الرحمن من كل البرية
كان في القرآن مرموق المزية

أنت من أعجزت عن مدح له
مدح الله وجلّى فضله

وفي هذا السياق، تم تنظيم "ندوة سليمان جلبي وتقاليد المولوية" بالاشتراك بين كل من الأكاديمية التركية للعلوم "طوبى"، وجمعية اللغة التركية "تي دي كيه"، وبلدية متروبوليتان وجامعة أولوداغ في بورصة، مع عروض مثيرة للتركيز توضح كيف أصبح التقليد المولوي ثقافة منتشرة في مناطق جغرافية مختلفة من تركيا والبوسنة وألبانيا والبلقان بشكل عام، والإمبراطورية العثمانية قديما. هذه الثقافة التي أنشئت استنادا إلى قصيدة سليمان جلبي الشهيرة، ثم تطورت بمرور الوقت، هي حدث ديني وثقافي واجتماعي مثير للاهتمام، اتخذ أشكالا مختلفة وفقًا للثقافات، ولهذا فهو حدث كان يجب أن ينتبه له علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا.

وقد أجرى عالما الأنثروبولوجيا المشهوران نانسي وريتشارد تابر دراسة ميدانية في أوائل الثمانينيات حول التقاليد المولوية وممارساتها المتباينة في تركيا، وكانت أول المعلومات المهمة التي سجلاها هي أنه لم يتم إجراء أي دراسة عن مثل هذا الحدث حتى ذلك الحين.

بدأ آل تابر عملهم من خلال إبداء دهشتهم من أن مثل هذا التقليد المؤثر في تشكيل العالم الديني والروحي للمجتمع التركي لم يجذب انتباه علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا حتى ذلك الوقت! كما لاحظوا أن هذا التقليد مهم جدّا أيضا لخلق مساحة للمرأة في المجتمع، والمشاركة وتحقيق المساواة الطبقية والتضامن فيه مقارنة مع غيرها من أنشطة الشبكات الاجتماعية. من ناحية أخرى، يمكن النظر إلى هذه المولوية -وفقًا لآل تابر- على أنها مجال تنعكس فيه أدوار الذكور والإناث.

من وجهة النظر هذه، سجل آل تابر استنتاجات مثيرة للاهتمام حول الاختلافات الخطيرة التي اكتشفاها بين أداء النساء والرجال للمولوية، حيث إن المولد الذي يُتلى بين النساء أطول بكثير من المولد العام، ويركّز فيه أكثر على ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فهو يركز على السيدة آمنة من حيث كونها أمًّا.

أمه يا حبذا من أنجبت
درة من جوف يمٍّ أخرجت

زوج عبد الله وهي آمنة
حملها استوفى مرور الأزمنة

قد رآه من رآه بالبصر
وعلى من لم يروا قصّوا الخبر

إن علاقة المرأة التركية بتقاليد الاحتفال بالمولد النبي من خلال المولوية، تفسَّر ببساطة بارتباطها بمشاعر الأمومة، حيث وُلد النبي من أم ترمّلت حديثا.

وبالرغم من أن لحظة الولادة هذه تقترن بالضرورة ببعض الأحداث الإعجازية، فإنها تبتعد عن صورة النبي في التقاليد التوراتية. وبمعنى ما، فإن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يقترب من السيد المسيح عليه السلام في حدث الميلاد، حيث وُلِد المسيح من دون أب، وكانت معجزته أنه تكلم -شاهدا لأمه- وهو لا يزال رضيعا في المهد، وهذا يلتقي مع قصة النبي محمد في المولوية، حيث تتشابه القصتان لكن مع تفاصيل مختلفة.

ومع ذلك، فإن ما دفع سليمان جلبي لكتابة "وسيلة النجاة" كانت الآية (285) من سورة البقرة التي تتحدث عن أنه لا فرق بين الأنبياء، ولا تفوق لأحدهم على الآخر: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". لكن الشاعر سليمان جلبي -على العكس من ذلك- يحاول إظهار تفوّق النبي محمد عليه السلام على غيره من الأنبياء، من حيث أنه آخر نبي أُرسل.

ذلك الأول فيه قولنا
عاجز عمن سواه عقلنا

أول الأول حقا لا جرم
آخر الآخر قد أبلى القدم

اصطفاه ربه نعم الحبيب
أيما داء له أمسى الطبيب

يا لسعد أي سعد بعده
من رأى يا ليت شعري نده

بقضاء الله قد أضحى المكمل
وعلى كل الورى كان المفضل

ورسول الله لولا أن أتى
فالسما والأرض لا ما كانتا

مصطفى لا ريب خير من ولد
ذلك قولٌ قاله الله الأحد

ومع ذلك، فإن من الواضح جدّا أن قصيدة "وسيلة النجاة" قد وُلدت في المجمل من الجدل والمناقشات مع المسيحية التي كانت سائدة في الأناضول، وهو الحوار الذي كان له دور مهم جدًّا في إسلام المسيحيين في الأناضول، أو تكيف من أسلم منهم  حديثا بسرعة مع التقاليد الإسلامية.

بالطبع، قصيدة "وسيلة النجاة" مهمة جدًّا لمحتواها الشعري والمعرفي، وللطريقة التي تعبر بها عن المعرفة والخطاب الإسلامي، ولحجم دورها في أسلمة المجتمع، لكن مما لا شك فيه أن شخصية سليمان جلبي العلمية والروحية التي لم تنل حقها من الدراسة، تستحق أيضا أن تدرس بشكل منفصل.

ومن النار إذا شئت النجاة
فعليه قل بعشق الصلاة

إن ذكر الله حتم أولاً
ما لعبد ذكره أن يغفلا

اسم رب العالمين إن ذكرته
يسر الله عسيراً إن صنعته

إن يكن من كل أمر في البداية
لن يشين النقص منه في النهاية

وبعشق في لسان إن تردد
كالهشيم الذنب في ريح تبدد

اسمه الطاهر من يذكره يطهر
يدرك المأمول ربا وهو يذكر

واحد لا ريب، الله أحد
وليقل ما شاء كل من جحد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.