تركيا وليبيا.. مرحلة ما بعد إلغاء الانتخابات

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الجزيرة)

بدون إعلان رسمي متوافق عليه وباتفاق ضمني بين مختلف الأطراف أجّلت أو ألغيت الانتخابات الرئاسية الليبية التي كان يفترض تنظيمها في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي.

فقد حل رئيس المفوضية العليا للانتخابات اللجان الانتخابية التابعة لمكاتب المفوضية، واقترحت الأخيرة تأجيل موعد الاقتراع إلى 24 يناير/كانون الثاني الجاري بالتنسيق مع مجلس النواب.

ورغم الدعوات الدولية لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في أقرب وقت ممكن فإنه لم تتضح حتى لحظة كتابة هذه السطور ملامح المرحلة المقبلة، مما يعني أن البلاد قد دخلت مرحلة جديدة لها ملامحها الخاصة، وقد لا تكون مجرد امتداد للمرحلة الحالية التي تتابعها مختلف الأطراف عن كثب، ولا سيما تركيا.

كان لهذه الطائرات المسيرة دور بارز في كسر الحصار عن طرابلس ودحر قوات اللواء خليفة حفتر عنها، ثم إخراج الأخيرة من المناطق الغربية للبلاد وملاحقتها نحو الشرق، وصولا إلى سرت التي توقفت عندها قوات الوفاق بسبب التدخل الروسي المباشر في حينها

الدور التركي

رسمَ المعالمَ الرئيسية للدور التركي في ليبيا اتفاقان مهمان، هما اتفاق ترسيم الحدود البحرية لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بين تركيا وليبيا ومذكرة التعاون الأمني والعسكري، واللذان وقعتهما أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

لاحقا، وبطلب رسمي من حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج وبناء على مذكرة التفاهم المذكورة أرسلت تركيا قوة عسكرية رمزية إلى ليبيا كانت مهمتها التدريب والتنسيق بين المجموعات المنضوية تحت إمرة حكومة الوفاق، فضلا عن الدور الحاسم الذي لعبته الطائرات المسيرة التركية في المعركة بشكل مباشر.

فقد كان لهذه الطائرات المسيرة دور بارز في كسر الحصار عن طرابلس ودحر قوات اللواء خليفة حفتر عنها، ثم إخراج الأخيرة من المناطق الغربية للبلاد وملاحقتها نحو الشرق، وصولا إلى سرت التي توقفت عندها قوات الوفاق بسبب التدخل الروسي المباشر في حينها.

النتيجة الأهم للتدخل التركي في ليبيا كانت اقتناع معظم الأطراف المحلية والإقليمية والدولية باستحالة حسم الأمور عسكريا وضرورة العودة للحل السياسي، وهو ما أعطى دفعة كبيرة للجهود الأممية والدولية.

تسارعت خطى المسار السياسي انطلاقا من عدد من المؤتمرات الدولية من موسكو إلى برلين لباريس، وتبلورت في الحوار الوطني ثم انتخاب مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية، في مرحلة انتقالية كان يفترض أن تنتهي بالانتخابات العامة في البلاد نهاية 2021.

في هذه الفترة توطدت العلاقات أكثر فأكثر بين ليبيا وتركيا، الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانب حكومة الوفاق واستمرت بدعمها لحكومة الوحدة الوطنية.

تواترت الزيارات بين الجانبين على المستويات الدبلوماسية والأمنية والعسكرية، وشكّل البلدان المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي ووقعا عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم في إطاره.

وبين يدي كل ذلك كررت أنقرة مرارا دعمها المسار السياسي وعقد الانتخابات في موعدها، وأبدت استعدادها لتقديم الدعم والمساعدة الممكنين في هذا الإطار، بل إنها شاركت في مؤتمر باريس الذي عقد خصيصا لدعم مسار الانتخابات رغم أن فرنسا هي من نظمته، وهي الخصم اللدود لها مؤخرا، والتي طالما كررت مع أطراف أخرى الدعوة لخروج القوات التركية من الأراضي الليبية ورغم أن وجهة نظرها كانت أن الشأن الليبي لم يكن يحتاج في ذلك التوقيت لمؤتمر إضافي، وفق ما جاء على لسان الرئيس أردوغان.

ملامح مرحلة جديدة

كان ثمة تفهم غير معلن لتأجيل الانتخابات أو إلغائها، حيث إنها كانت تفتقد للأساس الدستوري، فضلا عن تنازع الصلاحيات بين المؤسسات ومشاكل عديدة تخص المرشحين الرئاسيين.

هذا التفهم تخطى الليبيين وصولا إلى الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة والمهتمة بها، حيث كان المبعوث الأميركي الخاص لليبيا ريتشارد نولان قال إنه "ليست هناك عوائق فنية أمام إجراء الانتخابات، ولكن العقبات سياسية وقانونية"، فيما يشبه تبرير التأجيل أو منحه الضوء الأخضر.

وعلى الرغم من أن ستيفاني وليامز المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا أكدت على ضرورة "إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ظروف مناسبة"، ورغم البيان الخماسي الذي وقعته كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا بوجوب "سرعة تحديد موعد جديد" للانتخابات الرئاسية والتشريعية فإن الخطوة القادمة ما زالت غير واضحة.

ولأن النصوص والاتفاقات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية غير واضحة ولا حاسمة في ما يتعلق بالوضع الحالي، ولأن العقبات السياسية والدستورية ليست سهلة الحل والتجاوز فإنه ليس من الواضح ما إذا كانت البلاد تسير نحو تأجيل الانتخابات الرئاسية وتنظيمها قريبا، أم تقديم الانتخابات التشريعية عليها، أم تقديم صياغة دستور للبلاد عليهما، أم العودة لحوار وطني جديد، أم غير ذلك من السيناريوهات.

بالنسبة لتركيا كدولة منخرطة في الأزمة الليبية وتتعرض لضغوط كبيرة لسحب قواتها (الموجودة بأعداد رمزية) من الأراضي الليبية، فإنها تقف على أعتاب المرحلة الجديدة في الأزمة الليبية بمحددات شبه واضحة.

ففي المقام الأول، تبدو تركيا مهتمة جدا بالاستقرار في ليبيا وحريصة عليه، ليس فقط دعما لدولة صديقة وجارة (بحريا)، وإنما كذلك لأهميتها الجيوإستراتيجية بالنسبة لها، فالعلاقات مع طرابلس الغرب تصب في قلب الأمن القومي التركي، إن كان في باب أمن الطاقة أو التنافس الجيوسياسي في المنطقة، ولذا فهي لا تملك رفاهية أن تخسر ليبيا أو أن تخسر فيها، وفي القلب من ذلك هي لا تريد أي تشويش على الاتفاقيتين الموقعتين مع حكومة الوفاق، خصوصا أن حكومة الوحدة التي تدير المرحلة الانتقالية لا تملك صلاحية إلغاء أو تعديل أي اتفاقات سابقة عليها.

ثم إن أنقرة حريصة على ثبات المسار السياسي واستمراره وعدم النكوص نحو التوتر والحلول الميدانية والمسارات العسكرية التي قد تفتح الباب على سيناريوهات كارثية، وهي ضئيلة الفرص على أي حال، كما أنها باستمرار تعاونها الأمني والعسكري مع حكومة الوحدة الوطنية تبعث رسائل ضمنية بأنها مستعدة لخيارات من هذا النوع إن فرضتها بعض الأطراف.

كما أن أنقرة تبدي حرصا شديدا على التعاون مع الحكومة الليبية، وتطوير هذا التعاون في إطار المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي، ولا ترى في إطالة الفترة الانتقالية عبر تأجيل الانتخابات أو إلغائها تعارضا مع هذا الأمر، ذلك أن حكومة الوحدة الوطنية ستبقى لتسيير الأعمال إلى حين تسلم حكومة جديدة بعد أي انتخابات ستجرى مستقبلا.

كما ترفض أنقرة أي مطالبات لها بالخروج من ليبيا قبل إجراء انتخابات عامة في عموم الأراضي الليبية وأن تكون انتخابات حرة ونزيهة يعترف بها الكل الليبي ويبدأ معها مرحلة جديدة، فيكون تعامل تركيا مع الحكومة الليبية الجديدة.

وباختصار، لا ترغب تركيا في هذه الفترة الانتقالية الممتدة في أي تغيير جذري على وجودها ودورها في ليبيا، بل تود أن تطور العلاقات مع الأخيرة في مختلف المجالات.

وفي كل ذلك، يحدوها الأمل أن يقدّر أي رئيس أو حكومة مستقبلية دورها ومساهمتها في استقرار الأوضاع في ليبيا ودعمها لحكومتها الشرعية والمصالح المترتبة على الاتفاقات الموقعة معها وكذلك الآفاق المستقبلية لهذه العلاقات، مما سيشجعهما على تبني خطوات إيجابية إضافية تجاه أنقرة وتعميق وترسيخ العلاقات معها أكثر فأكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.