إقليم عفر الإثيوبي.. الجمال هامشا
تتقدم السيارة شبرا شبرا وسط الحجارة الصلدة. أتلفت فلا أرى غير الجبال السوداء الجرداء والمناظر الطبيعية الفاتنة غير المُروّضة. أخاديد حادة يحكي كل منها عصرا من عصور الأرض، وقطعان من الأنعام سائمة بين الأودية والوهاد. كنت في طريقي إلى بركان "عِرتْ علي"، أو "مملكة الجن" كما تسميه قبائل العفر القاطنة بهذا الإقليم المعروف باسمها. قلّبت ناظري في البيئة الأخاذة الوعرة التي تحكي صمود القبائل العفرية، وتفسر جانبا من تاريخها الصامد.
لقد جررتُ حقائبي في أماكن فقيرة كثيرة على ظهر الأرض، لكني لم أر أفقر من هذه القرى وهذا الإقليم ذي المليوني نسمة. كنت أقلب طرفي في الشبان ذوي الشعر الطويل، والرجال الجالسين الذين يمضغون القات ولا يقطعونه إلا للصلاة.
لاحظت نُصبا من الحجارة متناثرة على الطريق. سألت دليلي عنها فضحك "هذه وَيْدَل. هذه أهرامات نبنيها على قبور شهدائنا في الحروب مع الغزاة. انظر هناك، إذا كان النصب مغطى فهذا يعني أن القتيل أُخذ ثأره ويستطيع النوم هنيئا. أما إذا كان النصب مفتوح الباب إلى السماء فذاك يعني أن دم القتيل مَطْلول.. لم يؤخذ بثأره بعد".
طلبتُ من السائق التوقف وترجلنا لرؤية "الويدل". بناء حجري دائري مرتع نحو متر. تأملته منصتا لمحمد، شارحا فلسفة الويدل عند قبائل العفر ذات الأصول العربية. قال إن هذه النُصب هنا منذ مئات السنين حتى لا يغفل أحفاد القتيل أو أبناء عمه عن ثأره. فالحجارة وحدها تكافح عوادي الزمان وغوائل النسيان. ثم عضّ شفتيه وقال بحرقة "هذه الويدلات غالبا من حروبنا مع الإيطاليين أو التيغراي".
يحرم في ثقافة العفر الاقتراب من الويدل. فهو مكان لا يقترب منه إلا من سيغير غطاءه إذا أُخذ بثأر صاحبه، أما في غير ذلك فللقبور حرمتها وقداستها. وعندما انتبه الإيطاليون لهذه الثقافة كانوا يقومون بتخزين أسلحتهم فيها يقينا منهم أن العفر لن يفتشوها أو يقتربوا منها.
عدنا وعادت السيارة تعرج على الطريق المتمنّع. تمر ساعات من دون رؤية إنسان، ثم يبدو راع على الطريق يؤشر بقربة طالبا ماءا، أو سرب ظباء راتعا، أو نعامة تتهادى غير بعيد. وبعد الفنية وأختها تظهر قرية نائمة في حضن جبل شاهق، أو على حافة واد سحيق. قرى في غاية الفقر.
لقد جررتُ حقائبي في أماكن فقيرة كثيرة على ظهر الأرض، لكني لم أر أفقر من هذه القرى وهذا الإقليم ذي المليوني نسمة. كنت أقلب طرفي في الشبان ذوي الشعر الطويل، والرجال الجالسين الذين يمضغون القات ولا يقطعونه إلا للصلاة. فتذكرت ما قاله الرحالة العدوي عن هذا الفضاء قبل 6 قرون "وعند أهلها محافظة على الدين، ولا تُعرف عندهم مدرسة، ولا خانقاه، ولا رباط ولا زاوية"، وهو وصف دقيق لغياب المعالم المدنية والاستقرار هنا.
سألت رفيقي محمد -وهو شاب عفري، خريج جامعي ويتحدث لغات- عن سبب هذا الفقر الشديد فقال "لقد حوصر هذا الإقليم على أيدي الحكومات المتعاقبة. عاقبونا لاعتدادنا بأنفسنا وشراستنا في الحروب. كان إقليمنا مستثنى من التنمية خاصة في ظل حكومة التيغراي طيلة العقود الثلاثة الماضية".
تحدث محمد مندفعا بلهجته اليمنية عن هذا الإقليم الرابع في إثيوبيا من حيث المساحة. إذ يمتد على مساحة تزيد على 27 ألف كيلومتر مربع. لكن ذهني كان قد انصرف ملاحظا ظهور جبل "عرت علي" في الأفق. بدا الجبل -المرتفع عن سطح البحر بألفي قدم- مُظلَّلا بخيوط الأصيل الذهبية، ومجللا بالمهابة السرمدية. أدرت ظهري للشمس الهاربة ورفعت رجلي آخذا خطوتي الأولى جهة قمة البركان.
تعني كلمة "عِرِت علي" في لغة العفر "جبل الدخان"؛ وذلك بسبب الدخان المتصاعد دائما من فوهته ومن بحيراته الحممية الرديفة. فهو واحد من البراكين النادرة في العالم، النشطة على مدار العام. ويتميز ببحيراته الحممية الداعمة، مما يجعل الدخان يصَّاعد من الجبال المتاخمة له دوما.
شققتُ الحجارة السود المتفحمة في طريقي. صخور غريبة الشكل هشة تتفتت بالركل. يشبه شكلها الأمواج، مما يذكر بكونها كانت أمواجا حممية يوما ثم جففها تعاقب الليل النهار. وقفتُ متقطع الأنفاس على حافة البركان. فوهة دائرية مفتوحة كالجرح الدامي، مملوءة حمما تفور فورانا أبديا. هجمتْ علي كحة قوية بسبب الغازات المتصاعدة فغيرتُ مكاني متقيا جهة هبوب الرياح. جلسنا على حافة الفوهة نتأملها بعيد الغروب. كانت لحظات يشعر فيها الفرد بضآلته ومحدودية جِرمه وعالمه واهتماماته. تتمايز الحمم هنا وتتدافع سرمدا. تثور وتهدأ، والبشر يذهبون ويأتون ويتصارعون، والدول تقوم وتسقط، والإمبراطوريات المتغطرسة تظهر وتتلاشى، وهذه الفوهة فاغرة فاها أثناء كل ذلك لا تزداد إلا تصميما وفورانا.
جلسنا على طرفها فقال محمد "سكان المنطقة مجمعون على أن من أتى ليلا هنا يسمع كل الأصوات الدارجة على الأرض. يسمع خوار البقر وحنين الإبل وثغاء الشاء وأحاديث البشر. ويعتقدون أنه إذا ابتعد الآن أي منا عن رفاقه سيسمع من يناديه باسمه واسم أبيه، وإذ أجاب اختطفته الجن حالا. ولذلك يرى سكان المنطقة أن كل السواح الذين فُقدوا هنا إنما اختطفهم الجن".
أعدت بصري للفوهة الحمراء المعتملة الهادرة. لقد استطاع الإنسان التعاطي مع الظواهر البيئية وتسخيرها لمطامعه ومطامحه. فحوّل مجاري الأنهار الجامحة، وشق الجبال الشاهقة المتعالية كما يشق الزبدة الرطبة. وأطار الحديد الثقيل في الهواء، وسار داخل أحشاء البحار وفوقها، لكنه وقف راكعا أمام البراكين. تركها تثور وتهدأ، وهو عاجز أمام سلطانها القاهر.
مد محمد سبابته إلى البركان "هذه البيئة تشبهنا. حارة وصعبة على التطويع والانقياد. لم يحاول غازٍ الدخول إلى إثيوبيا إلا كنا نحن من يرده كالبرتغال والطليان، وها نحن اليوم ننقذ إثيوبيا من التيغراي".
يشير محمد إلى الحرب الأخيرة التي حاولت فيها جبهة تحرير التيغراي إسقاط حكومة أديس أبابا، لكنها انكسرت على أرض العفر. فالعفر لا يفخرون بشيء فخرهم بالفروسية المتوارثة. ولذا من عاداتهم الباقية أن الشاب إذا بلغ الـ16 من العمر يُشترى له سلاح. حتى إن الأسرة الفقيرة تضطر لبيع أثمن ما تملك لتشري بندقية لابنها حتى تكتمل رجولته.
يتميز إقليم عفر -الموجود في شمال شرق إثيوبيا- بمكانه الإستراتيجي المتاخم لكل أطراف الصراع الإثيوبي. فيحده الأمهرة والأورومو والتيغراي والصوماليون وإريتريا. كما يزخر بموارد معدنية كالملح والذهب والبوتاسيوم، وأماكن نادرة ومناطق سياحية فاتنة. فعلى بعد كيلومترات من بركان "عرت علي" تمتد صحراء الملح، والجبل الملحي الأحمر. وهي صحراء تنتج كل الملح المستخدم في إثيوبيا، مع ثرائها بالماء والأنهار والبحيرات الغازية.
لكن كل هذه الموارد لا يوجد لها أي أثر على حياة سكان الإقليم. فكل القرى التي مررتُ بها قرى صفيح شديدة الفقر. فلا يكاد يُرى بيت من الإسمنت؛ فالبيوت صفيحية أو أخصاص من الشجر. وما زال 90% من سكانه يعيشون على الرعي. ومن طرائف علاقتهم بالرعي قصة علاقتهم الخاصة بالإبل. حتى إن الرجل إذا قتل ناقة أو جملا عمدا يمكن أن يُقتل قصاصا. فقبل عقود قام بعض سائقي الجيش الإثيوبي بقتل إبل عفرية خطأ؛ فما كان منهم إلا أن قاموا بقتل سائقي الجيش انتقاما لإبلهم حتى تدخلت السلطات وأُنهي الأمر صلحا.
يتمتع الإقليم -دستوريا كبقية أقاليم إثيوبيا- باستقلال ذاتي؛ فله رئيسه وبرلمانه وجيشه وشرطته. ويقتصر حضور الدولة الفدرالية فيه على المطارات فحسب. ويحلم ساكنوه الآن بمستقبل برّاق أثناء الحوار الوطني الجاري بعد بلائهم في الحرب الأخيرة. فقد تمكنوا من زيادة جيشهم للمرة الأولى، وقدّرت لهم حكومة أديس أبابا بلاءهم في الحرب.
تركتُ البركان وعدت نازلا مع الجبل. لكن المنطقة خالية من أي فندق يمكن للمرء أن يأوي إليه. وصلنا طرف الجبل وتمددنا على الصخور حتى الصباح. فالحركة على الطرق غير المعبدة ليلا أمر مستحيل هنا.
نزلت مع الجبل صباحا متأملا الجمال المنحوت في الطبيعة البكر متسائلا؛ أيُّ جمال مهمش هذا؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.