الاضطرابات السياسية في كازاخستان.. صداع في التوقيت الخطأ
ليس من قبيل الصدفة أن تتسارع وتيرة الاحتجاجات الشعبية في كازاخستان في هذا التوقيت بالذات. فلم يمض سوى أشهر قليلة على انعقاد قمة الاتحاد الأوراسي الاقتصادية بمشاركة غير مسبوقة. كما أن الأزمة تأتي في وقت بلغت فيه أسعار الغاز أرقاما قياسية (ألفي دولار للألف متر مكعب من الغاز).
تمثل كازاخستان أحد ضلعي الزاوية القائمة في هذا التحالف الاقتصادي الأوراسي، الذي يسيطر تقريبا على سوق إنتاج ونقل الغاز الطبيعي على المستوى العالمي.
وأيا كانت الجهات الخفية الداعمة والواقفة خلف الاحتجاجات الشعبية في كازاخستان، فإنها من حيث القوة والتوقيت تمثل رسالة قوية لمن يهمه الأمر في الكرملين، وذراعه الاقتصادية العملاقة "غاز بروم".
نتناول في هذا التحليل الاضطرابات السياسية المتسارعة في كازاخستان، وآثارها على روسيا في خلافاتها مع أوكرانيا وحلفائها الغربيين.
تعاني الدولة الروسية من الضعف و"قلة الرشاقة المؤسساتية" في التعامل مع ملفات شائكة ومعقدة وعديدة في آن واحد. وبالتالي، فإن تفجر الوضع السياسي في كازاخستان معطوفا على خططها لزعزعة الاستقرار مع الجارة الأوكرانية والاتحاد الأوروبي، كل ذلك يمثل "صداعا في التوقيت الخطأ" للكرملين بغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه.
استعادة "الدولة الروسية العميقة"
من المعلوم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعاد الدولة الروسية العميقة (Deep State) بالمعنى النبيل لهذه الكلمة، أي خلافا لما درج عليه الإعلام العربي في الخلط بين مفهومي "الدولة العميقة" و"دولة الطابور الخامس" الاستبدادية الخائنة للمصالح الوطنية للأمة في عالمنا العربي.
إضافة إلى ذلك، أحيا بوتين في نفوس الشعب الروسي، وخصوصا النخب الفلسفية والفكرية، روح الوطنية والأمة العظيمة و"ناستالغيا" الماضيين السوفياتي والقيصري التليدين، على وجه الخصوص، بعد خطابه التاريخي الشهير في مؤتمر ميونخ الأمني (2007). هذه المشاعر تحديدا كانت البلسم والمخدر للشعب الروسي التي ألهت عن الشعور بالمعاناة الاقتصادية إبان الحكمين القيصري والسوفياتي التليدين.
إحياء "الدولة الروسية العميقة" كان له الأثر الواضح في ظهور "دولة المؤسسات الروسية" على المستويات: السياسية بتوافق أحزاب "مجلس الدوما" على الحد الأدنى من الأهداف الوطنية والعالمية، والسياسة الخارجية في "ساحة سومولينسكايا" والتي تقودها وزارة الخارجية الروسية بقيادة سيرغي لافروف بوصفه واحدا من أميز وزراء الخارجية على مستوى العالم، والعسكرية الأمنية ممثلة في وزارة الدفاع وخدمة أمن الدولة "إف إس بي" (FSB). إضافة إلى كل ذلك، ترسانة من مراكز البحث وبيوت الخبرة الروسية التي ورثتها روسيا عن الاتحاد السوفياتي، فوجدت من نظام بوتين الرعاية الواجبة، والأهم من ذلك كله: الأجندة البحثية الغائبة في فترة حكم سلفه الراحل بوريس يلتسين.
"العوز الرشاقي" للدولة الروسية
الترسانة السياسية والعسكرية والمؤسساتية، المذكورة أعلاه، أثبتت جدارتها في تحقيق بعض الأهداف العسكرية (في الشيشان وسوريا وأفريقيا الوسطى، مع بعض الإخفاقات في ليبيا) والاقتصادية (أبرزها الطفرة في إنتاج الغاز والتحكم في شبكات توريده العالمية).
عسكريا: تمثلت نجاحات روسيا في استعادة القرم للكيان الفدرالي الروسي، وفرض حالة من عدم الاستقرار في الدونباس، وما نراه من حشود عسكرية طوقت أوكرانيا جنوبا وشرقا وشمالا.
اقتصاديا: حققت روسيا أرقاما قياسية في إنتاج الغاز والتحكم في شبكات توريده إلى أوروبا، إضافة إلى إيجاد مسارات بديلة للتوريد: "سيل الشمال" و"يامال أوروبا" والسيل التركي. كما يضاف إلى ذلك الأسواق البديلة في الصين واليابان.
صداع في التوقيت الخطأ
وعلى الرغم من ذلك، تعاني الدولة الروسية، بالتوصيف المذكور أعلاه، من الضعف و"قلة الرشاقة المؤسساتية" في التعامل مع ملفات شائكة ومعقدة وعديدة في آن واحد. وبالتالي، فإن تفجر الوضع السياسي في كازاخستان معطوفا على خططها لزعزعة الاستقرار مع الجارة الأوكرانية والاتحاد الأوروبي، كل ذلك يمثل "صداعا في التوقيت الخطأ" للكرملين، بغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه.
من المؤكد أن الكرملين لن يكرر خطأه التاريخي حين فرّط في أوكرانيا. أولا: في وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي، حين كانت أوكرانيا ولا تزال مترددة في المصادقة على اتفاقيات "رابطة الدول المستقلة". وثانيا: في العام 2013 عندما عجز الرئيس الأسبق فيكتور يانوكوفتش عن السيطرة على المشاعر والنزعات الأوروبية الأطلسية في مؤسسات الحكم وعلى المستوى الاجتماعي. فكانت النتيجة اللجوء للحلول والمواجهة العسكرية التي تكتنفها عقبات اقتصادية غربية مؤلمة، وربما مقعدة، للاقتصاد الروسي الذي هو جاث على ركبتيه في واقع الحال.
بهجوم المحتجين على قاعدة بيكانور الفضائية الروسية في كازاخستان، تلقت كل من الحكومتين الروسية والكازاخية مبررات لأن يكون ردهما على المحتجين وحشيا بحيث لا يمكن مقارنته بقمع الحكومة الأوزبكية لاحتجاجات وادي فرغانة في العام 2015.
وبالتالي، فإن الكرملين ينظر للاضطرابات في كازاخستان على أنها أكبر بوادر تفكك التحالف الأوراسي وإفلات كازاخستان من الدوران في الفلك الروسي سياسيا. ومن الناحية الاقتصادية، يرى الكرملين فيها بوادر فقدانه السيطرة والتحكم في سوق الغاز ونقله. يضاف إلى ذلك الأهمية الاستثنائية لقاعدة بيكانور الفضائية.
وعليه، فإن كازاخستان تمثل أم المعارك بالنسبة للكرملين، وسيبذل قصارى جهده لإنقاذ حكم "آل نور سلطان". النظام الحاكم في كازاخستان في حالة من الضعف واليأس شبيهة بما كانت ولا تزال عليه بيلاروسيا حينما رضخت لاتفاقيات دولة الاتحاد في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقد كانت مترددة لأكثر من 20 عاما.
إذن، النظام الحاكم في كازاخستان جاهز للتوقيع على كل ما من شأنه شرعنة التدخل الروسي، وأبعد من ذلك شرعنة الوجود الروسي في كازاخستان على المدى البعيد.
منحة لمن يهمه الأمر
وبالتالي، تمثل "المحنة الكازاخية" منحة في التوقيت المناسب لحلفاء أوكرانيا الغربيين في حربهم على روسيا، ومحاولة جلبها للانصياع لـ"حزمة الطاقة الثالثة الأوروبية"، والحد من سيطرة روسيا على السوق العالمية للطاقة.
من الناحية السياسية، استوعب الاتحاد الأوروبي الدرس من أخطائه السابقة. فقد انشغل بضم دول أوروبا الشرقية (12 دولة) إلى كيانه الفدرالي في العام 2007، وغفل، في المقابل، عن أوكرانيا. فأصبح مهددا في خاصرته الشرقية، التي تحولت لتهديد حقيقي لوحدة الكيان الأوروبي، الذي لا يخلو من دول لها مصالحها الوطنية الخاصة مع روسيا. إضافة لكونها مستفيدة من حالة الانقسام الأوكراني وربما تفككها كدولة.
الدروس الأوروبية المستفادة
وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي سيتشبث بكازاخستان وكأنها إحدى رئتيه اللتين سيتنفس بهما الغاز الطبيعي، لكونها معولا فائق الأهمية في هدم وكسر الاحتكار الروسي لتجارة الغاز.
من الطبيعي أن كازاخستان تعني للكرملين ضمانا لاحتكار "غازبروم" خطوط نقل الغاز الطبيعي من كازاخستان وتركمانستان، اللتين تمتلكان حصة معتبرة من صادرات غازبروم للاتحاد الأوروبي.
الأميركان ليسوا عن المغانم ببعيدين
الولايات المتحدة ليست عن المغانم ببعيدة، فالأزمة السياسية في كازاخستان ستكسبها مرونة في الخروج من هيمنة "الدب الروسي" على القرار في آسيا الوسطى. وبالتالي، ستنقدح للولايات المتحدة ظروف أفضل في تحقيقها لأجندة ما بعد الخروج من أفغانستان.
انطلاقا مما تقدم، تستطيع الولايات المتحدة فرض أجندتها أو "واجباتها المنزلية" على دول آسيا الوسطى "بالمفرد"، وليس "بالجملة" كما جرت العادة عن طريق "شركة المقاولات الروسية" في الكرملين.
إذن، ستكون الولايات المتحدة بعد "الأزمة الكازاخستانية" في وضع أفضل مما كانت عليه يوم طردها الروس من قيرغيزستان، بتفكيك قاعدتها الجوية في مطار مناص الدولي في العاصمة القرغيزستانية بشكيك.
وبالتالي، فإن تصاعد الأزمة سيحسن من موقف الولايات المتحدة التفاوضي على كافة الأصعدة بما في ذلك الملف الأوكراني، إن توفرت لدى حلفاء أوكرانيا الأميركيين الرغبة في دعم أوكرانيا.
الخلاصة:
- تمثل الأزمة السياسية الكازاخستانية "صداعا في التوقيت الخطأ" للكرملين وذراعه الاقتصادية غازبروم.
- من الممكن للكرملين الاستفادة من الأزمة الحالية، وما تبدو عليه حكومة نورسلطان من ضعف، في استمالة كازاخستان بالكامل ودون قيود إلى معسكرها الأوراسي ليس فقط اقتصاديا ولكن أيضا سياسيا. فوضع الحكومة في نورسلطان مشابه تماما لوضع الحكومة البيلاروسية حين وقعت على اتفاقيات دولة الاتحاد مع روسيا.
- تمثل الأزمة الكازاخستانية فرصة ملائمة لحلفاء أوكرانيا الغربيين في "معركة ليّ الذراع" مع الخصم الروسي في الكرملين.
- ستنال الولايات المتحدة من وراء الأزمة موقفا تفاوضيا أفضل أمام الكرملين في الملف الأوكراني، إن كانت "صادقة" في نواياها نحو دعم الحليف الأوكراني.
- من غير المستبعد وجود أصابع لحلفاء أوكرانيا الغربيين في الأزمة الكازاخستانية كوسيلة لإضعاف المواقف السياسية والعسكرية للكرملين.
- الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لهما مؤسسات نشطة في العمل السياسي والدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في كازاخستان، وليس من المستبعد دورها التحريض غير المباشر للمحتجين.
- تمثل "الأزمة" في كازاخستان رسالة قوية للنخبة الوريثة لنظام نزار بايف ودعوة صريحة للخروج من تحت عباءة الكرملين.
- سقوط النظام السياسي في كازاخستان يعني للكرملين نهاية احتكار تصدير الغاز الطبيعي لآسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان). كما يعني أيضا قطع خط أنابيب غازبروم، وبالتالي إضعاف قدرتها على التحكم في سوق الغاز وأسعاره.
- ستدفع الأزمة في كازاخستان دول الاتحاد الأوراسي لمراجعة مواقفها المندفعة نحو روسيا في خضم الاضطرابات الداخلية المستوحاة من الأزمة الكازاخستانية.
- تحسن الظروف بالنسبة للولايات المتحدة لبذل المزيد من دعمها في صراعها مع روسيا. لكن هذا التحسن في الموقف التفاوضي من الممكن أن تخصصه الولايات المتحدة لخدمة أهدافها وأجندتها "المعلنة أو الخفية" مع روسيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.