السردية التركية في ليبيا بين التورط والانسحاب

Turkish President Tayyip Erdogan visits Montenegro
(رويترز)

ما إن يهدأ الملف الليبي حتى يعود للتوتر والتصعيد، فرغم أن جميع الأطراف المحلية والإقليمية تقرّ باستحالة الحل العسكري وضرورة الحل السياسي، فإن التطورات الميدانية وبعض التصريحات تطرح مخاوف حقيقية من انهيار المسار السياسي والعودة إلى المواجهات.

ومع اقتراب الموعد المحدد للانتخابات من دون الاتفاق على الإطار الدستوري لها وضمانات حقيقية بإجرائها واحترام نتائجها، يعود التركيز على الأدوار الخارجية التي تضطلع بها في ليبيا قوى عالمية وإقليمية، من ضمنها تركيا.

تقليديًّا وعلى نحو مكرر، هناك من يلوم تركيا على ما يعدُّه استدراجًا لها للأزمة الليبية وتوريطًا لها فيها واعتمادها على علاقة مع طرف وحيد فيها، في حين يلومها آخرون على الدور الذي أدّته وتؤدّيه في ليبيا ويطالبها بالخروج منها.

ونفرد في هذا المقال أسس السردية التركية المتعلقة بدور أنقرة في لبيبا، وبما يتضمن الردود على الطرحَيْن السابقَيْن.

إن دعم تركيا لحكومة الوفاق قوّاها وأمّن لها أوراق قوة ميدانية وسياسية عدّلت بها موازين القوى، ومن ثم إذا كان هناك من يلوم أنقرة بأنها تدعم طرفًا "ضعيفًا" فإن تركه سيضعفه أكثر، أما دعمه والوقوف إلى جانبه فسيقوّيه ويفتح أمامه آفاقًا جديدة.

دعم الوفاق

يوجَّه لوم إلى تركيا بأنها بنت علاقة حصرية مع حكومة الوفاق الوطني سابقًا برئاسة السراج، وهي علاقة الدعم المستمرة الآن مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. ويقوم هذا الطرح/اللوم على أن هذه الحكومة ضعيفة وما زالت غير قادرة على فرض سيطرتها في ليبيا من جهة، وغير ناجحة -وفق كثيرين- في إدارة هذه المرحلة الحساسة في البلاد من جهة أخرى، ومن ثم كأنه رهان خاسر في المشهد الليبي. ولعل من مؤشرات ذلك إخفاقها في ملفات اقتصادية عدة، بل كذلك عجزها عن فتح طريق الساحل، فضلًا عن التهديدات المتكررة من اللواء خليفة حفتر بعمليات عسكرية جديدة.

في الرد على هذا النقد، تقوم السردية التركية أساسًا على أن حكومة الوفاق كانت الحكومة المعترف بها دوليًّا كمخرج لاتفاق الصخيرات، وبالتالي فعلاقات تركيا ثم دعمها بُنيا بشكل سليم سياسيًّا وقانونيًّا مع الطرف الشرعي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذه الحكومة ليس لها بديل يمكن لتركيا التواصل معه وموازنة الموقف، وهي أمور تنسحب في المجمل على حكومة الوحدة الوطنية الحالية التي نتجت عن الحوار الوطني الليبي وانتخابات المجلس الرئاسي الأخيرة.

وتؤكد أنقرة أنها منفتحة على الأطراف الليبية كافة، وأنها لا تحصر علاقاتها مع الحكومة، الوفاق ثم الوحدة. إذ كان مبعوث الرئيس التركي الخاص لليبيا أمر الله إيشلار زار مختلف الأطراف وحاورها، لكن بعضها رفض الاستمرار بذلك لاحقًا. وأكثر من ذلك، فقد صدرت تصريحات عدة من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو بأن بلاده تريد حلًّا "يشمل الجميع" في ليبيا، واستثنى من ذلك حفتر لاحقًا. كما أن بعض التقارير تحدثت عن رغبة تركية في التحاور والتعاون مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح كجزء رئيس من الحل ومستقبل ليبيا.

من جهة أخرى، فإن دعم تركيا لحكومة الوفاق قوّاها وأمّن لها أوراق قوة ميدانية وسياسية عدّلت بها موازين القوى. ومن ثم إذا كان هناك من يلوم أنقرة بأنها تدعم طرفًا "ضعيفًا" فإن تركه سيضعفه أكثر، أما دعمه والوقوف إلى جانبه فسيقوّيه ويفتح أمامه آفاقًا جديدة.

ولا ينبغي تجاهل أن خصوم تركيا الإقليميين دعموا وما زالوا الطرف الآخر -حفتر- وذلك يعني أن تركيا لم تكن لديها خيارات كثيرة هنا، بل إن دعمها للوفاق ثم الوحدة الوطنية جزء من معادلة التنافس الجيوسياسي في المنطقة، وهو سياق لا تملك أنقرة رفاهية التراخي فضلًا عن الخسارة فيه.

ومما تفتخر به أنقرة أن تدخّلها مع حكومة الوفاق في حينه، دعمًا وتنسيقًا وتدريبًا هو ما عدّل الموقف العسكري للحكومة وأنقذ طرابلس من حفتر، ومن ثم رسّخ قناعة لدى العديد من الأطراف بأن الحل العسكري لم يكن ممكنًا، ودفع نحو المسار السياسي.

وأخيرًا، بناء على هذا المعنى، ترى تركيا أنها أسهمت بشكل أو بآخر في الوصول إلى مرحلة تشكيل حكومة الوحدة الحالية، وبالتالي عليها مسؤولية دعمها وتقويتها ومساعدتها على النجاح والوصول إلى المرحلة المقبلة، وهي محطة الانتخابات نهاية العام، وهي مسؤولية إضافية على المسؤولية المبدئية لكل الدول المنخرطة في الأزمة الليبية.

مطالبات الانسحاب

في المقابل، وبالاتجاه الآخر تمامًا، هناك أطراف عديدة تنتقد تدخّل تركيا في الأزمة الليبية، وتطالبها بإخراج قواتها من ليبيا كشرط أولي وأساسي لحلها.

وردًّا على هذه المطالبات، تقوم سردية تركيا الرسمية على أنها آخر الأطراف المنخرطة في الأزمة، لا سيما تلك التي دعمت الجنرال المنقلب خليفة حفتر بما فاقم الأزمة وعمّقها. وتحاجج أنقرة أن انخراطها قانوني، إذ أتى بطلب من حكومة الوفاق المعترف بها دوليًّا وبناء على اتفاقية التعاون الأمني والعسكري معها. ولذا ترفض أنقرة بالأساس تسميتها بقوات احتلال أو "أجنبية" على الأراضي الليبية، إذ هي موجودة بموافقة الحكومة الرسمية وطلبها.

وترفض تركيا دعوات إخراج "قواتها" من ليبيا، نافية أن تكون لها قوات بأعداد ما على الأراضي الليبية، إذ الموجود -وفقها- مستشارون عسكريون يساعدون الحكومة في التوجيه والتنسيق والتدريب، من دون أي انخراط في مواجهات مباشرة.

ومما تعيبه أنقرة على المطالبات بخروج قواتها من ليبيا مساواتها مع أطراف أخرى، كدول تدخلت بطريق مباشر أو غير مباشر لدعم أطراف انقلابية، وكذلك مع مجموعات مرتزقة حاربت إلى جانب حفتر بدعم من بعض القوى الإقليمية، وترى أنقرة أن في مساواتها بهؤلاء غبنًا كبيرًا.

وتنتقد أنقرة كذلك حصر هذه المطالبات بها وبروسيا أحيانًا رغم أن الأطراف المنخرطة في الأزمة كثيرة وبأشكال متعددة، ولذلك فهي تعدُّها مطالبات تنطلق من مواقف سابقة وأهداف سياسية أكثر من كونها حرصًا على حل الأزمة.

وأخيرًا، ترفض تركيا هذه المطالبات التي تأتي من أطراف ثالثة وليس من الدولة/الحكومة الليبية ذات الصلاحية والسيادة، التي كانت من دعا أنقرة للحضور والمخوّلة بمطالبتها بالرحيل إن أرادت. ولئن صدرت مطالبات مشابهة من بعض أركان المشهد السياسي الحالي، كوزيرة الخارجية، إلا أنها لم تمثل الكل الليبي ولا حتى موقف الحكومة الرسمي، فضلًا عن التوضيحات التي صدرت بعدها وشكلت تراجعًا ضمنيًّا عنها. ويضاف إلى كل ذلك أن حكومة الوحدة الوطنية الحالية غير مخوّلة بإجراء أي تعديل أو إلغاء لأي اتفاق سابق على تشكيلها، ومناط بها إدارة المرحلة الانتقالية حصرًا.

خاتمة

وعليه، فإن أنقرة لا ترى أنها أخطأت في دعمها لحكومة الوفاق واستمرارها اليوم في دعم حكومة الوحدة الوطنية، بل ترى ذلك جزءًا مهمًّا من دعم الاستقرار في البلاد والحل المستدام على المدى البعيد على أساس الحفاظ على وحدة ليبيا السياسية والإدارية. كما أنها ترفض التجاوب مع الدعوات التي تطلقها هذه الدولة أو تلك للخروج من ليبيا، لا سيما إذا طرحت كشرط ابتدائي للحوار أو الحل.

في الأصل، يمثل الدور التركي في ليبيا مصلحة عليا لها من زاويتين؛ الأولى التنافس الجيوسياسي وصراع المحاور في المنطقة، والثانية التنافس على ترسيم الحدود البحرية وتقاسم ثروات شرق المتوسط -التي تريد اليونان أن تحظى بحصة الأسد منها- وتجاهل بقية الدول وفي مقدمتها تركيا.

ولذلك لا تملك تركيا رفاهية أن تخسر ليبيا ولا أن تخسر في ليبيا. لكن أيضًا تنبغي الإشارة إلى أنها ليست لاعبًا وحيدًا ولا اللاعب الأقوى في الملف الليبي، وإنما هي فاعل ضمن فواعل عدة، معظمهم في المحور الآخر، وهذا يعقّد الأمور نوعًا ما.

ولذلك لا تتحدث التصريحات الرسمية التركية عن الانسحاب من ليبيا، وإنما تؤكد سلامة نيتها وصحة الأسس التي ذهبت إلى ليبيا بناء عليها. لكن ضمنًا، يُفهم من مواقفها الرسمية أنها لن تضع خيار الانسحاب من ليبيا على طاولة النقاش بشكل جدي إلا إن كان هذا موقف ليبيا كدولة، بمعنى حكومة معترف بها من الكل الليبي وتشمل سيادتها كامل الأراضي الليبية، وهي على الأرجح حكومة ستنتج عن انتخابات عامة في البلاد، وليس قبل ذلك.

ولعل أنقرة تعوّل هنا على إدراك الأطراف الليبية أنها الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانب طرابلس والحكومة الشرعية لدى حصارها، وأن تدخلها هو الذي منع سيناريوهات كارثية في ليبيا، وأن استمرار دورها ضمانة رئيسة لاستمرار التوازن في المشهد والحيلولة دون العودة إلى الخيارات العسكرية.

قد تشكل المجموعات السورية التي تحدث الرئيس التركي سابقًا عن وجودها في ليبيا إحراجًا لأنقرة، وستحتاج إلى حل ما لها في المستقبل، لكن ما يتعلق بها كدولة وبقواتها الموجودة على الأراضي الليبية مؤجل إلى ما بعد حل الأزمة واستقرار الأوضاع في ليبيا. وتراهن أنقرة على وعي النخبة السياسية الليبية بأهمية استمرار دورها والتعاون معها في المستقبل، وهو أمر تؤكد استعدادها له ومدّ يدها إلى الليبيين بشأنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.